ينتمي الريف تاريخيا إلى مرحلة خاصة جدا على الأقل داخل المغرب، وجمعته علاقة متوترة بالاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي معا، فلم ينقطع هذا الماضي عن الحاضر بتاتا، رغم المجهودات التي بُذلت قصد مسح الطاولة والإعلان عن بداية جديدة على شكل مصالحة لم تكن صريحة تماما، وهو ما ينبئ باستمرار هذه العلاقة المتوترة مع النظام المغربي مستقبلا، ذلك أنه من مكر التاريخ أن فضح شعارات هذه المصالحة وبيَن زيفها، ولعل الاعتقالات المتواصلة والتدخلات الأمنية الحالية أبين دليل على ذلك، ناهيك عن سياسات ممنهجة قصد التفقير والتهميش المتواصلين منذ عقود من الزمن، على الرغم من كون أهل الريف، كما المغاربة، تجرعوا مرارة ذلك في صمت، مرارة مصحوبة بأنين غاضب، وقهر مكبوت جاء وقت تفجيره حالاً ولاحقا ما لم تتعقل الدولة في شخص ممثليها الرئيسيين وتتخلى عن أنانيتها التي لم تعد تؤتي أكلها في الزمن المعاصر، إذ التاريخ لا يرحم، ومساحيق التجميل لا تلبث أن تسقط، فتُظهِر الوجه الحقيقي الذي طالما ستره القناع المسرحي.

إن الذاكرة منفلتة من الإدماج أو “القولبة”، من الصعب تأطيرها ثم توجيهها وفق خطط واستراتيجيات معينة، إذ رغم المجهودات المبذولة من طرف السياسات العمومية الرسمية، إعتماداً على مؤسسات إيديولوجية رمزية كالمدرسة والمسجد والأحزاب والجمعيات والإعلام…إضافة إلى مؤسسات توجيهية مادية قائمة على التعنيف الجسدي ضربا واعتقالا واختطافا (لويألتوسير)، إلا أن العكس هو ما حدث تماما، ذلك أن تفكيرا كهذا يبدو ساذجا غير مستوعب لحركية التاريخ وطبيعة الزمن الإنساني، فنحن لم نعد نعيش المكان، بل نعيش العالم، ولم نعد نتحدث عن مفهوم المجال الجغرافي المحدود، الذي سمي من قبل بالدولة الوطنية، حيث حَصْر الكل في الكل، وإنما أصبحنا نتكلم عن وجود أكثر شساعةبفضل التقنية التي صارت تلعب دورا أكثر تأثيرا من باقي كل المؤسسات التي صارت كنقود قديمة فقدت بصمتها جراء كثرة الاستعمال، ومن بينها مؤسسة/مختبر صناعة “الضباع” بلغة الراحل محمد جسوس.

ونحن نتكلم عن الذاكرة، نرى أن المساهمين في الحركة الاحتجاجية الريفية، معظمهم يعيش حاضره عبر استحضار الماضي، فهو الشحنة الوقادة التي لم تنطفئ نهائيا، وبقيت راسخة في الذاكرة الجمعية لهؤلاء، شعارا وعلَما ورمزا إنسانيا في شخص الأمير الخطابي. ولم يكن ناصر الزفزافي إلا عاملا صدفوياوجدت فيه “الروح التاريخية” الشخص المناسب الذي استطاع أن يلتقط اللحظة ويتعامل معها ببساطة دون تصنع، فكانت النتيجة إعادة قضية الريف إلى الواجهة من جديد.

أما باقي الرموز الرسمية، فأضحت بالنسبة للمحتجين “موجودات” تعبر عن المضطهِد أكثر مما تمس المضطهَد أو تمثله، إذ باسمها يتم النهب والتزوير الانتخابي والتدخل الأمني…والأكثر أهمية من هذه الرموز كلها، رمزية المسجد، إذ استطاعت الحركة الاحتجاجية فتح نقاش جديد وطنيا: توظيف الدين من طرف النظام السياسي الحاكم، فلم تعد المساجد حافظة لرمزيتها المقدسة كما كانت، بل بدأت عملية فقدان الثقة في دورها المنوط بها، بماهي أمكنة إحسانية بواسطتها يروي المواطن المغربي عطشه الروحي إن شاء، عوض أن تكون بوقا لتمرير خطابات السياسة الرسمية، وهذا النقاش كان سيفتح عاجلا أم آجلا، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

إن الإنسان يتحول أحيانا كثيرة إلى ديناميت، حينما يتغلب على قواه الارتكاسية لصالح القوى الفاعلة (فريديريك نيتشه)، فيغدو مؤمنا بكون التغيير يتحمل مسؤوليته الإنسان (كارل ماركس)، ويتطلب تضحيات جسام، وهو سيرورة تاريخية لها منطق زمني ممتد، نتائجه ليست سحرية على شاكلة “افتح يا سمسم”، بل هو بناء شاق أساسه الإيمان بالنموذج الإنساني الفاعل، لا المفعول به: “التاريخ هو سيرورة الإنسان المنتِج”=المساهم في صناعة التاريخ (عبد الله العروي)،ولنا في تاريخ البشرية أوضح العِبر.

كما أن الاستلاب الاقتصادي كان له الدور الأبرز في ما نشهده من خرجات احتجاجية تعدت حدود الريف لتشمل باقي مدن وقرى المغرب كله، ويعني الاستلاب الاقتصادي توهيم المواطن الفقير (…) بكونه ينال ما يستحق بما هو فقير، وكأنه قدر محتوم، في حين يعتقد أنه من المنطقي/القاعدة أن ينال الذي ينتمي إلى طبقة الحكم أكثر منه، إما استنادا إلى شرعية دستورية مغلِطة، أو بناءا على شرعية انتخابية مزورة بداية وانتهاءا، والأدهى والأمر من كل هذا، الاستناد على قاعدة شرعية ما أنزل الله بها من سلطان. ناهيك عن توظيف التاريخ والنسب العائلي وما إلى ذلك من الطقوس والمعتقدات والأساطير. تتعدد المبررات والهدف واحد: امتلاك الثروة، فأين الثروة؟ (أنظر مثلا: مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور).

أين الثروة؟ هو المحدد الرئيسي والوتر الحساس الذي يخشى النظام مناقشته، بحيث يغطيه دائما بحكايات وأعاجيب، ويتفنن في تحويل النقاش حوله عبر توظيفات عدة، يستمد أكثرها من متون فلسفية/سياسية ميكيافيلية، هدفها الرئيسي التقنع والتنكر بأزياء كثيرة، كلها تتغيى تغطية هذا الحديث بأحاديث أخرى ثانوية إن لم نقل تافهة.

ولحد الآن، استنادا لمعادلة الربح والخسارة، لازالت الدولة هي الخاسرة في هذا الرهان، ذلك أنه رغم مجهوداتها لتسويق صورة دولة المؤسسات والديمقراطية على المستوى الخارجي، إلا أنها انكشفت عورتها أمام الإعلام البديل، ناهيك عن النقل الإخباري من طرف قنوات عالمية لها وزنها الحقيقي والمؤثر، فضلا عن الدعم الذي تقدمه الجالية المقيمة بالخارج، عبر وقفاتها الاحتجاجية المستمرة أمام القنصليات والمؤسسات الحقوقية العالمية، إيصالا لصوت المغلوب عن أمرهم، الذين تجرعوا سم الترهيب والتخوين والاعتقال وسوء معاملة مطرقة القضاء التي تحاكم أفرادا عاديين بتهم ثقيلة لمجرد مطالبتهم بحقوق عادية لا مطالب إن صح التعبير.

إن الاعتقال يساوي الترميز، وبالتالي صناعة قضية كانت الدولة في غنى عنها، كل هذا ناتج عن تدبير أعمى انصاع وراء تقارير الداخلية ومن يحركها، إذ عوض الدعوة إلى حوار وطني جدي ووحدوي، زادت المقاربة الأمنية الطين بلة، إذ في الوقت الذي نسارع فيه لكسب قضية الصحراء، ونرافع أمام المنظمات الدولية، نزيد من إضافة وخلق أزمات جديدة، لسنا ندري ما يحمله لنا المستقبل بصددها، فألم يان للذين “قست” قلوبهم وعمت أبصارهم أن يتعقلوا؟

كما أن الدولة خسرت رهان الاعتماد على الأحزاب السياسية، إذ أصبحت المعركة الآن تتم مباشرة بين المتحكمين الكبار وبين الشارع مباشرة، لقد سقطت أسطورة الحكومة التي اعتبرت لمدة طويلة من الزمن ذلك الجدار الذي يُمسح فيه كل شيء سلبي، وأحرقت الدولة كل أوراقها بتوظيفها لآخر ورقة سياسية: العدالة والتنمية، واعتقدت أن فكرة الاستثناء المغربي حقيقة لا وهماً، وأن العاصفة مرت بسلام، ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، وعادت العاصة، وشاء القدر أن يكون ما هو كائن، إنها لعبة نرد، وحمدا للتاريخ.

في الحقيقة، نحن أمام أمرين، إما التعامل بمنطق سليم عبر الحوار الجاد والمسؤول، وما يرافق ذلك من إطلاق سراح المعتقلين والاستجابة للملف الحقوقي، وإما الانسياق وراء منطق الداخلية الذي يسير بنا نحو المجهول، أما ما دون هذا، فجعجعة بلا طحين.