شهدت الثانوية التأهيلية أبوشعيب الدكالي بمدينة الجديدة، في غضون الأيام الماضية، تجربة استثنائية ومتميزة، تستحق التقاسم والتعميم، وتشكل استجابة ذكية ومرنة لواحد من أكبر التحديات في عصرنا، وخاصة بالنسبة لبلد كالمغرب، وهو تحدي الحفاظ على الماء، وترشيد استعماله، حماية له من التبذير. جاء ذلك نتيجة الشراكة التي تربط الثانوية بثانوية بيبيسي فيردن، من مدينة فيردن الألمانية.

يتعلق الأمر بتقنية جديدة في الري، تستثمر الذكاء الصناعي للتحكم في مياه الري بشكل يسمح بترشيد أمثل. تقوم هذه التقنية على تنصيب جهـاز ذكــي موصول، في آن، بمضخة مياه الري والتربة المراد ريـهـا، وفي نفس الوقت بمستشعرات أو مجسات ذكية، تزوده بالمعلومات المرتبطة بوضعية الرطوبة في التربة. يقوم الجهاز بتحليل البيانات التي ترسلها له المستشعرات أو المجسات، ووفق نوعية النبات وحاجياته من الماء، يتم إرسال الأمر إلى المضخة لترسل كمية المياه الملائمة. وبالتــالي فلا تستخدم إلا المياه الضرورية، وبالكميات الضرورية الفعلية، مما يترتب عنه اقتصاد شديد في استهلاك الماء.

وطيلة الأسبوع الذي امتد من 16 شتنبر 2022 إلى الثانــي والعشرين منه، تحولت الثانوية إلى مشتل لاختبار هذه التجربة، فتم تقسيم الطلبة المغاربة والألمانيين إلى مجموعة من الورشات المشتركة، توزع عملها بين ما هو نظري وتطبيقي، واتسمت بتبادل وجهات النظر والتشارك الفعلي لبناء نموذج تطبيقي بالثانوية، سواء أثناء كتابة البرنامج الرقمي، أو وصل مختلف مكونات الجهاز، أو وصل الجهاز بباقي العناصر التي يتفاعل معها. وصولا إلى التجربة العملية، عن طريق تخصيص ركن من ساحة الثانوية لتثبيت الجهاز ومكوناته، وتقليب التربة وغرس النباتات، واختبار الجهاز، وتصحيح الاختلالات.

بموازاة مع ذلك أعد فريق الثانوية التأهيلية أبو شعيب الدكالــي لضيوفه برنامجا مكثفا، دمج بين الفائدة والترفيه. بــدأ البرنامج بالاستقبال الرسمي للوفد الألماني بفضاء الثانوية، يومه الجمعة 16 شتنبر 2022. حضر هذا اللقاء المدير الإقليمي لمديرية الجديدة السيد رشيد شرويت مرفوقا بوفد رسمي، إضافة إلى الطاقم الإداري للثانوية والفريق التربوي المؤطر. اتسم الاستقبال بتبادل عبارات الترحيب، وبكلمة المدير الإقليمي الذي رحب بالضيوف، وعبر عن سعادته بالشراكة التي تجمع المؤسستين، كما تمنى استمرارها لما فيه خدمة تلاميذ المؤسستين. تلا ذلك كلمة رئيس الوفد الألماني الذي شكر جميع المشاركين والمتفاعلين مع هذه التجربة، كما عبر عن فرحته بتواجده رفقة الوفد بالمغرب، مؤكدا إصرارهم على  إنجاح التجربة، على الرغم من تدخل مجموعة من المثبطات، مثل الجائحة أو غيرها، وليس التواجد الحالي للوفد إلا تأكيدا على الإرادة القوية والصادقة لإنجاح التجربة.

كان ضمن اللحظات القوية للبرنامج زيارة للمآثر التاريخية بالمدينة، أشرف على تأطيرها مدير مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالـي شخصيا: السيد أبوالقاسم الشــبـري، الذي أبدع في اختيار الفضاءات، وتقديم الشروح، وإثارة فضول الضيوف والمحليين أيضا الذين وجدوا أنفسهم أمام فيض من المعلومات والمعطيات لم تكن متاحة لهم.

كانت الزيارة الأخرى التي تم تنظيمها للمكتب الشريف للفوسفاط لحظة أخرى من اللحظات المتميزة، خاصة مع الاستقبال الاحترافي الذي قدمه أطر هذه المؤسسة ومستخدموها، مصحوبـا بالكرم المغربي ممثلا في مائدة مفتوحة ضمت ما لذ وطاب من الحلويات المغربية والمكسرات ومختلف العصائر والأشربة. أما الزيارة ذاتها فتم تقسيمها إلى قسمين: اتخذ القسم الأول طابعا نظريا حيث عرض على الضيوف مجموعة أفلام توثيقية حول المكتب الشريف وأنشطته، مرفوقة بتوضيحات ومناقشات. تلا ذلك إطلاع الحاضرين على مجسم لمرافق المكتب الشريف والمؤسسات المتصلة به، جرى من خلالها التعريف بمختلف المرافق والشركاء، مع تقديم مجموعة من الشروح والتوضيحات مشفوعة ببيانات ومعطيات رقمية. أما الجزء الثاني من الزيارة فقد اتخذ طابعا عمليا حيث تمت زيارة بعض المرافق، وخاصة المرفق المخصص لتحلية مياه البحر، والذي تقدم فيه المكتب الشريف للفوسفاط كثيرا في اتجاه تحقيق الاستقلالية المائية، بشكل تام، في أفق سنة 2023، بل والشروع في مد المناطق المجاورة بالمياه الشروبة عالية الجودة. وقد انتزعت هذه الزيارة إعجاب الوفد الألمــانــي، لدرجة تعبيره الملح عن رغبته في إيجاد سبيل يمكن تلامذة وطلبة مؤسسة بيبيسي فردن من الحصول على فترات تدريب مهني داخل مرافق المجمع الشريف للفوسفاط.

كانت هناك أيضا لقاءات رسمية، حيث تم استقبال الوفد الألماني من طرف الكاتب العام لعمالة إقليم الجديدة، وكذا، في لقاء آخر، من طرف نائب رئيس المجلس البلدي. وفي الزيارتين، معا، تم تبادل هدايا رمزية، وعبر الوفد عن طموحــه إلى عدم الاقتصار على الشراكة بين المدرستين، بل العمل على الانتقال إلى مشروع أكبر، قد يتوج بتوأمة بين مدينة الجديدة ومدينة فردين، خاصة أن هنالك فعلا عددا من العناصر المشتركة بين المدينتين، لعل أكثرها إثارة للانتباه كون المدينتين معا تعدان، في بلديهما، عاصمتين للفرس.

بدأت هذه التجربة بإرادات فردية، قبل أن تأخذ طابعها المؤسسي، فعلاقة القرابة الدموية التي جمعت بين أستاذ من الثانوية التأهيلية أبو شعيب الدكالي بالجديدة (ياسين إريق) وأخيه ( عماد إريق) وهو أستاذ ومكون بثانوية بيبيسي فيردن الألمانية كانت البداية للتفكير في الموضوع بشكل شخصي، قبل أن يتم تقاسم الفكرة التي لقيت قبولا وترحيبا، ومن تم بداية الإعداد لبناء الشراكة. حدث ذلك منذ ثلاثة أعوام، وكان تبادل الزيارات التمهيدية الأولى، لكن الجائحة التي فاجأت العالــم كان لها تأثيرها في توقيف المشروع، وإن ظل الاتصال عن بعد قائما بين الطرفين، وما إن بدأت بوادر الانفراج، وبدأ العالم يتخفف من القيود التي فرضتها الجائحة حتى عادت العلاقات إلى وتيرتها الطبيعية، وظهر أن هناك إصرارا، من الجانبين، على استكمال المغامرة، والذهاب بها إلى أقصى ممكناتها.

لكن مثل هذه التجارب الطموحة تحتاج لكي تنجح إلى دعم حقيقي، يتوازى فيه المادي والمعنوي. ولا يمكن التعويل فيه على الإرادات الفردية، وعلى التطوع وحدهما. فهـمـا أمــران لهـمـا حدودهما، بينما تقتضي مثل هذه التجارب دعما مؤسسيا حقيقيا، لأنها تستدعي مصاريف متعددة، سواء للقيام بواجب الضيافة، بما يليق بسمعة المغرب في هذا الباب، أو لتمويل كافة الأدوات والوسائل التي تحتاجها مثل هذه التجارب. ناهيك عن تمويل الزيارات المتبادلة، خاصة أن الوفد يتشكل في القسم الأكبر منه من فئة التلاميذ. ولا يمكن أن نصف درجة الحرج الذي كانت تقع فيه اللجنة المنظمة عندما كانت الحاجة تستدعي اقتناء أجهزة أو أدوات، فلا نجد سوى جيب الوفد الألماني متاحا، ويكون على اللجنة أن تعتذر، دائما، بفقر المدرسة العمومية، وضعف الميزانيات المتاحة لها. وهو العذر نفسه الذي استعملته لتبرير الملاحظات التي كان العمل المشترك يؤدي إلى الاصطدام بها حول ضعف البنية التحتية للثانوية التأهلية أبو شعيب الدكالي واهتراء كثير من تجهيزاتها ومرافقها، فالمؤسسة تواجه وحيدة أمر تجديد وتجويد بنياتها، بالاعتماد على إمكانياتها المحدودة، على الرغم من كون هذه الثانوية واحدة من أقدم وأعرق المؤسسات التعليمية بالمدينة، وعلى الرغم من أن الثانوية قد وُعِدت أكثر من مرة، من طرف المسؤولين عن القطاع، ببرمجتها، ضمن المؤسسات التي سيشملها التأهيل الكلي أو الجزئي، غير أنها ولحد كتابة هذه السطور، ومنذ التحاقي بها أوائل  2006 لم تستفد من أي تأهيل لبنياتها، عدا تلك العمليات الـجـزئيـة التي تقوم بها الثانوية بمبادرات داخلية، تستنزف مواردها المحدودة أصلا، وتــأتي على حساب أشياء أخرى. فهل يلتقط المسؤولون، كل من موقعه، الرسائل والإشارات، خاصة أن بلدنا يحتاج إلى دعم مثل هذه المبادرات، التي يمكن إدراجها، بشكل أو بآخر، في إطار الديبلوماسية الموازية التي ستساهم في تصحيح صورة المغرب في متخيل الآخر، من جهة؛ وتفتح، من جهة أخرى، لأبنــاء المدرسة العمومية بابا للتواصل مع الحضارات والثقافات الأخرى، بما يُخَصب شخصيات تلميذاتنا وتلامذتنا، ويسمح لهم بتوسيع أفقهم والتفاعل الإيجابي مع الغير، في لحظة حضارية معولمة تستدعي وتستوجب الانفتاح كقاعدة للنجاح.