المعادلة سهلة: إطار وطني مؤمن بنفسه وبمن حوله، بيئة تنافسية محوكمة، العمل الصادق من منطلق وطني، إبعاد الضغوط المؤثرة على نفسية النخب الوطنية، استغلال النظريات السيكولوجية للرفع من الإنتاجية، والثقة في مواجهة المنافسين في كل قطاعات الدولة مهما علا شأنهم أو نقص… هكذا نجح المدرب وليد الركراكي، وهكذا يمكن تعميم تجربته.

لا يؤمن العربي ولا الأفريقي بنفسه البتة، وحتى أغلبية الحالات التي لا تنطبق عليها القاعدة، قد تكون وافدة من بيئة أجنبية نشأ فيها هذا الاستثناء، كما الحال في تجربة المدرب وليد الرڱراڱي، لو كان هذا الأخير ابن مدينة الدار البيضاء أو مكة الناس (مكناس) أو غيرها من مدن المغرب، هل كان الحال سيكون كما هو عليه الآن أم ماذا؟

البيئة الحاضنة والتنشئة الاجتماعية لها أدوار لا يمكن توقعها في نشوء الفرد، لهذا مبعث الاستثنائية في هذا المدرب على أنه تعلم وترعرع في فرنسا، ونشأ في مساحة من “الديمقراطية” تؤمن إلى حد ما بالكفاءة، والقدرة، والفعالية…

لهذا؛ كان هذا الرجل أكثر من مدرب، بل هو تجربة تعيد إلى أذهان العالم العربي والأفريقي مسألة الإيمان بالنفس، ومكابدة الصعاب مهما كانت، وكان استحضار هذه التجربة الرياضية وإلصاقها بالسياسة. فعلا، وبكل صدق، استغلالا لفرصة لا تعوض، وقد لا تعاد مرة أخرى، مفادها أن أي مجال أو قطاع يمكن للفرد تحقيق المستحيل ضمنه، متى ما كسرت حواجز الخوف والهوان…

و”رڱرڱت” الأنظمة السياسية العربية تعني أن تعيد النظر في ترتيبها في مجالات التنمية والصحة والاقتصاد وهامش الديمقراطية، عبر استغلال الموارد البشرية والمادية في بناء الإنسان أولا، وتنمية العمران، ووضع قطيعة مع الماضي الانهزامي في هذه البلاد، المليئة بالشباب الذي يلزم التعامل معه بحب، وكأنه جزء من عائلة واحدة.

توجد في البلاد العربية والأفريقية معدلات كبيرة من الفساد والزبونية والرشوة، وكلها عوامل تجعل هذه الأنظمة السلطوية تضع الإنسان الغير مناسب في المكان الغير مناسب، وتتواصل بذلك سلسلة استنزاف الطاقات البشرية الجيدة، ومسيرة موت الأمل لديها. وما وجود الكثير من لاعبي المنتخبات الكبيرة من أصول لا تنتمي لها، سوى إشارة واضحة على هجرة آباء هؤلاء اللاعبين من جراء ظلم ما، نظرا للسلطوية التي تمتاز بها هذه الدول، أو عدم وجود فرص أمثل للعيش المشترك داخلها، مما دعا هذا العدد العظيم من العائلات للهجرة، وبناء عائلات في بلاد المهجر.

يبدو- أشدد على يبدو لأن قابل الأيام قد يكذب كلامي – أن هذا المدرب يحاول دائما الابتعاد عن شكر السلطة السياسية أو الاقتراب منها، وهو بذلك يشدد على أن أي انتصار مهدى للشعب، وكذلك حارس المرمى “بونو” الذي أكد أكثر من مرة القول: “عاش الشعب”، وهي كلمات مأخوذة من الفعل الاحتجاجي الذي ساد العالم العربي والأفريقي، وهي مؤشرات على أشياء قد تحدث في المستقبل، تهم تغير أشكال الفرح التقليدية التي كانت غالبا ما تنسب للأنظمة السياسية، وتحاول بها هذه الأخيرة تجديد شرعيتها، وتزيين واجهتها السياسية مواجهة بذلك الأرقام المهولة للمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، والتعامل الحاط بكرامة الإنسان في مخافر الشرطة، لدى البوليس السياسي في كل ربوع هذه البلاد السلطوية…

لم تكن مونيه اللبناني الشرايبي في كتابهاPartis politiques et protestations au Maroc (1934-2020) متوقعة أن النظام السياسي بالمغرب يمكنه أن يجدد شرعيته السياسية عبر الانتصارات الرياضية، رغما نبوغها في توقع أن نخبة ممن يعملون تحت الطلب أو بمقابل في الحملات الانتخابية، عندما يتضررون ويخرجون في حركات احتجاجية يثمنون/ يوظفون المهارات التواصلية والخطابية المكتسبة في الفضاء الانتخابي، ضمن فضاء الحركات الاحتجاجية.

وقياساً لهذا؛ لا يمكن تصور هامش التحرر الذي وقع على هامش فوز المنتخب المغربي، ولو أن هناك الرغبة في الركوب على هذه الموجة، وهذا من المنتظر. ولكن مع ذلك هذا التحرر، وإعادة الاعتبار للذات، وتحقيق الحلم الرياضي قد يؤدي في أحيان كثيرة لرغبة الأنظمة السياسية في توقف هذا الحلم، لأنهم لم يعودوا يتحكمون في تداعيات الانتصار المستحيل… واستحضر هنا أحد الصحفيين الذي تفاعل مع المدرب وليد الركراكي قائلا: “لقد انتصرت، وفرح الملك بذلك عبر خروجه مرتديا القميص الوطني”. فأجابه الركراكي: “أين السؤال؟!”… فأومأ إليه الصحفي: “هذه فقط رسالة باش نوصيكم”. فرد عليه المدرب: “ما تحتاج توصينا”…

أما دولياً؛ أخافت هذه الانتصارات الكروية الغرب، لحجم الطاقة الإيجابية التي تحملها للبلاد العربية والأفريقية، وإعادتها تقسيم أوراق- وإن كان ذلك فقط رياضياً- اللعبة التي قد تصل لدرجات غير متوقعة، تشمل الاستغناء عن الآخر، والإيمان بالقدرات الذاتية والكفاءات المحلية، الأمر أعمق مما يتصوره، أي جالس في مقهى عابر ينتظر صافرة نهاية مباراة كروية، قد يمتد عويل هذه الصافرة ليصل كل المجالات والأصعدة والدول لينهي زمن التبعية للمستعمر/ المحتل…

وأهم نقطة من كل ما سبق؛ اتضح أن “تطبيع العلاقات مع اليهود” كان فقط على مستوى فوقي، مع النخب الحاكمة، أما على مستوى الشعوب العربية والأفريقية فهم غير معنيين بشكل واضح، والأكثر من ذلك أن تتسلل – إيه نعم – أن يتسلل علم الوطن الفلسطيني إلى داخل الملاعب القطرية، ويلتقط المنتخب المغربي آلاف الصور معه، هو أمر يشي بالكثير من الريبة على مستوى من قاد مسار “التطبيع” في المغرب، إذ لا يتصور عظم هذا الإجراء لدى صناع القرار اليهودي، إذ إن هناك من يطالب باعتذار رسمي عما وقع. لغاية هذه اللحظة تشكل لدى السلطة السياسية اليهودية البون الشاسع بين قرارات الحاكمين وردات فعل المحكومين التلقائية. هنا تظهر المباريات الشرسة التي تقع بالموزاة مع المباراة الكروية…

سيكون لهذا الفوز الكروي عوائد إيجابية، وأحداث غير متوقعة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً لدى البلاد العربية والأفريقية، عبر تجاوز عقدة الانكسار، والخروج من الانطباع الدائم أنك لا يمكن أن تكون إلا مهزوماً… ولا ننسى الحضور الجامح للمرأة في متابعة الشأن الكروي قد يدفعها للحضور في الشأن العام، ومتابعة أدق تفاصيله، فأي تغيير لا يتصور دون هذا المحرك الأساسي الذي لا ينضب، وله فعالية خاصة.

وأخيرا؛ لا غرابة أن صناع القرار البرلماني والحكومي يقومون بتمرير القوانين الجاحفة، في لحظات السعادة العابرة، وتتم أيضا ضمنها تصفية أشد الملفات خطورة وشراسة، وهي فرصة تاريخية للزيادة في الأسعار.