منذ سنوات بدأت أمل شريف ليليان علاقتها بالفن، وظلت تنحت وتعالج مسيرتها بأناة وتؤدة، لكن دونما توقف أو كلل. فهي حاضرة في كل المحطات الثقافية بالمدينة، خاصة المبادرات الفنية التي تحفل بها مدينة الجديدة. تأخذ مكانها في زاوية ما، دون ضوضاء أو بهرجة. وتشارك في مبادرات فنية-إنسانية عديدة، شرطها في ذلك الاهتمام بالجمال، تشارك فيه حيثما ظنته موجودا، أو تصنعه وتتقاسمه بسخاء.

منذ البدايات الأولى التي تعرفت فيها على الفنانة كانت هناك خصوصيات تطبع أعمالها، وتسمها بعلامات ستزداد وضوحا وتطورا مع الوقت، منها انشغالها المتواصل بموضوع المرأة في كل أعمالها بدون استثناء، وحضور الإحساس بالانتماء إلى القارة الإفريقية، وبشكل أخص إلى الثقافة المغربية الأمازيغية. كيف لا؟ وهي التي رأت النور في واحدة من أجمل مناطق المغرب: آيت بوكماز. منطقة تشمخ بين جبال الأطلس، في إقليم أزيلال، وتختزل الجمال الأمازيغي: روعة ووعورة وتهميش وإقصاء.

بهذا قد نفهم ذلك البني الاستثنائي الذي يستوطن معظم أعمالها، ويشكل خلفية لكثير من لوحاتها قادما من ألوان جبال الأطلس، ومن لون المنازل الأمازيغية التقليدية المصنوعة من حجر مُـسَـيَّع بالطين، وبذلك أيضا قد نفهم ترف الألوان وسخاءها في لوحاتها، وكثيرا من الرموز التي تتجاور في إنتاجاتها الفنية.

تلك ملاحظات قد نعود إلى تفصيلها في مقالة لاحقة، إذ لا يهمني اللحظة إلا أحد أعمالها الأخيرة: لوحة القارئة المغربية. هكذا أسميته على الأقل، عندما رأيته أول مرة، وقت أن تقاسمته الفنانة على حائطها في الفضاء الأزرق منذ بضعة أسابيع.

الاحتفاء بالمرأة في الفنون التشكيلية ليس جديدا، وإن كان هذا الاحتفاء يرتكز أساسا على الجسد الأنثوي، لاعتبارات متعددة، منها كونه منبعا للجمال وتجسيدا له في صيغته المثلى. أما الاحتفاء بالمرأة باعتبارها فكرا، أو باعتبارها كيانا يسمو على الاختزال في الجمال، على الأقل، في أبعاده المادية، فهو أقل حضورا. وفي هذه المنطقة الضيقة بالذات تقيم لوحة القارئة المغربية.

من باب النصفة التاريخية أن نشير إلى أن كثيرا من اللوحات قد سبقت إلى الاشتغال على هذا الموضوع، وتضمنت معالجة جمالية للعلاقة بين المرأة والكتاب باعتبارها استعارة فنية لعلاقة المرأة بالفكر. لكن بأشكال وبخلفيات متباينة (لوحة فتاة تقرأ للرسام الفرنسي جان هونوري فراجونارد ( 1806 / 1732 )، لوحة القارئة (1910) للفنان البريطاني هارولد نايت، لوحة الفنان تشارلز إدوارد بيروجيني (1839/ 1918) التي يمثل فيها زوجته كوليت الابنة الأصغر لتشارلز ديكنز، لوحة القراءة للفنان الإسباني بيكاسو . . .) ، بعضها لا يعدو أن يكون ذاتيا.

في هذا السياق تأتي لوحة أمل شريف، وضمنه تتميز بمعالجتها المختلفة. فالفتاة في اللوحة بدون ملامح مُخَصِّصة. ومن خلال تغييب الملامح تغيب امرأة وتحل المرأة. ففي لوحات تشارلز إدوارد بيروجيني ، مثلا، عن القراءة كان البعد الذاتي حاضرا من خلال الحضور القوي لملامح زوجته كوليت ديكنز، حتى إن المرء ليتساءل إن كانت اللوحة انتصارا للمرأة المفكرة، أو كشفا لعشق عميق لامرأة محددة، وهي تمارس فعل القراءة…

في لوحة أمل لا تحضر امرأة محددة، بل المرأة عندما تلتقي بالكتاب، وتكتب به حضورا مختلفا. ولكن التعميم يتم تقييده بمجموعة من الدوال التشكيلية، توجه التأويل نحو المرأة المغربية تحديــدا، بدءا من القفطان المغربي بتفاصيله المميزة التي حولته إلى رمز ثقافي، تكتنزه الثقافة المغربية وتغتني به، وتستعيره اللوحة أداة لتوجيه التلقي، مرورا بالضفيرة التي ترتب بها المــرأة المغربية امتداد شعرها في الوجود الخارجي، فتقيد حركته، بحركة هندسية بديعة، تفتل بها الشَّعر بالشعر، وتحدد مجال حركته، حتى لا يحدد هو مجال حركتها، هي المتورطة في الحركة صباحا ومساء. وهي في هذا الفعل تمارس فعلا ثقافيا وجماليا، ينظم الشعر الأنثوي وفق رؤية اجتماعية جمالية، تتفنن النساء في إتقان تنويعاتها، تحول الحجب إلى إظهار.

أما اختيار القفطان بالذات لباسا للمرأة القارئة فهو اختيار دقيق وذكي، بالنظر إلى وضع القفطان في الثقافة المغربية. فمنذ ظهوره في القرن الثاني عشر الميلادي، مع الدولة الموحدية، لم يسقط القفطان عن عرشه الذي تبوأه، وجعل منه لباس الملوك. وحتى عندما لـم يعد مقتصرا علـى القصور، وصار وجوده معمما لدى الطبقة المتوسطة، خلال القرن الخامس عشر الميلادي، في العصر الوطـاســي، ظل القفطان، دائما، لباسا متميزا، يرتبط بالاحتفال والمناسبات والأفراح. وهو ما يُـخرج لحظة اللقاء بالكتاب من وضعها العادي، إلى وضع طقوسي، يتم التحضير له بلباس يؤشر إلى تميز الحدث وخصوصيته وأهميته، وكأن القارئة كانت على موعد مع حبيب، وليس مع مجموعة أوراق.

وقد عمدت الرسامة إلى تأكيد اختيارها بالإلحاح على التفاصيل التي تثبت أننا فعلا أمام القفطان المغربي بكل مميزاته، فهو قطعة واحدة من الثوب، تغطي جسد المرأة، من أعلى إلى أسفل، مع شقوق جانبية، في المنطقة السفلى، بالإضافة إلى التطريز الذي يلازم كل حواف القفطان، ويرصع صدره. دون أن ننسى الحزام المميز (المضمة ) الذي يرافقه، وإن لم يكن هذا العنصر ضروريا دائما في القفطان المغربي، وخاصة الرجالي منه.

المظهر الآخر المثير في اللوحة هو الكتاب الذي تحمله المرأة. والغريب فيه هو وجود عنوان مقروء، يسمح باختراق الدال اللغوي للدال الأيقوني، في تفاعل مخصب. لكن الأغرب هو موقع العنوان. فعلى غير المعهود يوجد العنوان في المنطقة اليسرى من كتاب عربي، وكأن هناك إصرارا من الفنانة على أن نقرأ هذا العنوان، ضمن قراءتنا لباقي مكونات اللوحة، حتى لو اقتضى ذلك أن يكون في غير مكانه الطبيعي. أما العبارة التي يتشكل منها العنوان فهي: سحر سبو.

يخرجنا العنوان من ثنائية المرأة / الكتاب إلى مثلث تجتمع فيه المرأة والكتاب والنهر. وبهذا تنفتح اللوحة على مجال دلالي آخر به تتسع وتغتني. والموقف من النهر واضح في العنوان من خلال قرنه بالسحر. فالكتاب حديث عن سحر النهر، بل عن سحر نهر سبو حصرا.

اختيار النهر هو اختيار للحركة والتحول، ورفض للوقوف والانتظار، واختزال للعلاقة المعقدة بين السماء والأرض، ففي النهر يجتمع الماء القادم من السماء بالماء الذي ينفجر من الأرض. والنهر اعتراف بالتواضع، وامتنان للغير، فالنهر لا يصبح نهرا، ولا يكتنز بالماء، إلا بقبوله بجداول وروافد متعددة، تصنع كينونته. وهو وصل بين الأعلى والأسفل، بين الجبل الذي ينبثق منه الماء، والبحر الذي ينتهي إليه. يمكن أن يكون النهر أيضا فصلا بين عالمين وفضاءين، هما الضفتان. ولكنه في هذه الحالة لا يستدعي السحر، وإنما يستدعي ألــم الابتعاد والافتراق.  ولذلك تستبعده قراءتنا.

تتضاعف هذه المعاني والإيحاءات عندما تقترن بسبو، فهذا النهر، وإن لم يكن الأطول في المغرب، إلا أنه من أهم انهاره، ومسؤول عن الأمن المائي، لمنطقة يراهن عليها المغرب في تحقيق أمنه الغذائي، وهي منطقة الغرب. فعلا قد لا يقترن السحر بالطعام، ولكنه لا ينفصل عنه، فالفنان سيبحث عن السحر البصري تحديدا في المنطقة التي يتزاوج فيها الماء بالأرض، حيث تحدث الولادات التي تعطي للضفاف أسرارها وبهاءها. ولكن ما مصدر هذا الإحساس بالارتياح ونحن نشاهد هذا التزاوج المبهج للماء بالأرض؟ وهل يمكن فصله، في لا وعينا، عن الطمأنينة التي يبعثها وجود الخضرة بما هي معادل للكفاف. هل يوجد السحر في الخضرة ذاتها؟ أم فيما تسلزمه وتستدعيه من إحساس بطمأنينة الشبع والرواء؟

في مكان آخر من اللوحة توجد كلمة أخرى، تفتح منطقة أخرى فيها، فعلى ظهر كتاب موضوع في رف خلفي نقرأ بوضوح كلمة الشابل. وهو اسم لسمك يملك وضعا خاصا واستثنائيا في الثقافة المغربية. ويعتبر اختفاؤه من الفضاءات المائية المغربية خسارة حقيقية للمطبخ المغربي أولا، وللثقافة المغربية التي فردت هذا السمك بمجموعة من الأسماء، من أهمها الحوت النبيل، أو الحوت الفقير، مع التنبيه إلى أن كلمة الفقير، هنا، مستعملة بمعنى يمتزج فيه البعد الاجتماعي الاقتصادي للكلمة بالبعد الصوفي، ومن غرائب هذا السمك في المجتمع المغربي أن تدبيره كان، وهو أمر غير عاد، إطلاقا، موكولا إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.

فلماذا يوجد هذا الاسم على كتاب موضوع على الرف؟ وليس على طاولة قرب القارئة؟

الكتاب على الرف كتاب مقروء بالقوة فقط، وقد لا يقرأ بالفعل، أو هو كتاب قرئ في زمن مضى، وانقضى. أما الكتاب على الطاولة فهو كتاب قيد القراءة. إنه الفرق، إذن، بين فعل غائب أو منقض، وبين فعل يتحقق، ويواصل تحققه. الأمر أشبه بكناية عن سمك غاب عن الموائد، وفقد فيها مكانه، فخرج من التحقق إلى التذكر، ولم يعد يقيم إلا في ذاكــرة الناس. ألا يتطابق ذلك مع ما انتهى إليه علي أنوزلا وهو يروى بأسى حكاية اختفاء هذا النوع من الأسماك  في المغرب، عندما يقول: «إن ما بقي منه هو مجرد ذكريات وقصص تروى اليوم مثل الأساطير التي يغذيها المخيال الشعبي، لكنها كانت حتى الماضي القريب حقيقة مازالت الوثائق وكتب التاريخ ترويها بدقة وتفصيل يتداخل فيها الاجتماعي بالثقافي والديني والسياسي». (علي أنوزلا ــ قصة الشابل . . حوت الدين والسياسة ــ الجزيرة نت ).

لــوحة القارئة المغربية، إذن، لوحة فريدة، مفتوحة على شبكة مركبة من الدلالات، تنهل من رموز الثقافة المغربية، وتحاورها، ومن خلالها تقرأ وتسائل ما يقع في المجتمع المغربي، وبهذه الأفعال تكتب وجودهـا. وهي بهذا تستدرج البصر إلى متعة يختلط فيها الجمالــي بالفكــري.