لا أحد، مهما كانت خلفيته الفكرية والسياسية، يستطيع أن يُشكّك في المكانة الكاريزمية التي كان يتمتّع بها الأستاذ عبد السلام ياسين ـ رحمه الله ـ داخل تنظيمه وخارجه، عند تلامذته وأصدقائه وخصومه؛ مكانة بناها الأستاذ لنفسه ـ عن وعي ـ منذ شبابه إلى يوم رحيله بقوة وصرامة ومُثابرة قلّ نظيرها. وبـ”لغة” مُغايرة نقول ـ مُستيقنين ـ بأن هذه الكاريزما الاستثنائية تجلّى في صناعتها بشكل لا تخطئه العين تدبير الله تعالى وحفظه وتوفيقه، كما تجلّى قبل ذلك مع رموز كثيرة على طول تاريخ البشرية الممتدّ.

وسواء يوم كان إطارا تربويا تعليميا، أو يوم وجد نفسه أمام أزمة روحية دفعته للبحث عن مخرج منها لدى فلسفات ورؤى مختلفة حتى وجد صوتا قاده للجلوس بين يدي شيخ مربّ، أو حين اكتشف المنهاج النبوي لتغيير ما بالإنسان فغادر الزاوية لأن رؤيته للعلاقة التي يجب أن تربط السياسي بالتربوي، والدّور الذي ينبغي أن يلعبه الفرد في التّغيير المجتمعي جعلته يقتنع أن حركية مَحْضِنِه السابق دون البُعْد الذي يُشيرُ إليه الخطاب القرآني النبوي، أو عندما أسّس مدرسته التي اتخذت من “العدل والإحسان” شعارا لها، فإن الأستاذ ياسين كان نموذجا نادرا للقوّة والصّدق ونبذ التجزيء والتّسطيح.

بِلُغة السياسة، لقد جمعَ الأستاذُ ياسين رأسَمالٍ رمزيا جعله يتبوّأُ مكانة مُتقدّمة ضمن الطبقة الأولى من رواد التفكير والتغيير في تاريخ الأمة، ولكن “المُعاصرة” ـ كما دَيْدَنُها دائما ـ تحجبُ عظمة الأكابر.

وفي الحقيقة، مهما مَدَحْنا الرّجلَ وتغنّينا بمَزاياه وأفضالِه، ومهما كانت الخلفيات التي نصدر عنها: “مُريديَّةً”، أو تَلْمَذيةً، أو أكاديمية، فإن “فِعلَه” ـ في نهاية المطاف ـ سيبقى دائما محكوما بسقف “البشرية”، ولا يجوز لأحد ـ عقلا ولا شرعا ـ أن يَخرجُ به إلى فوق ذلك، لأن هذا السّبيل سيقود إلى القول بكمال فكره وعصمة سلوكه، بينما كان دائما ـ شأن جميع البشرـ يشتغل في إطار الاجتهاد والاقتراح والتقدير.

وحتى الخطاب الذي يَمْتَحُ من التّصوف ويستدعي لغتَه، حيث يلحّ على أن الأستاذ ياسين كان “وارثا كاملا” فإنه من السهل مواجهته بأن تَصرُّفاتِ الرسولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسِه لم تكن تصدر دائما عن منزع واحد ـ كما فصّل ذلك علماؤنا ـ  بل كان يتحرّك انطلاقا من خلفيات تفصيلية متنوعة: نبوةً أو قضاء أو فتوى أو تبليغا أو إمامة، وكانت تمظهرات ذلك ومآلاته تختلف لدى جيل التّلقّي الأول، لأن النّبي صلى الله عليه وسلم هو من وضّح لهم ذلك بشكل إجرائي عملي. ومَن كان منهم في اتّباع كُلّيّ لتصرّفاته ـ صلّى الله عليه وسلم ـ مهما بَسُطت،  فإنما كان حاديه الأدب، فنِعم الحادي !

وعلى هذا الأساس فإننا نفرق بين الأستاذ ياسين المربي، والأستاذ ياسين المفكّر؛ ففي الحالة الأولى يصحّ لكل من اختار مَدخل التّلمذة أن يكون “مريدَه” يتّبع توجيهاته التربوية حذو النّعل بالنّعل متى استطاع إلى  ذلك سبيلا، بل ـ وأبعد من ذلك ـ يصحّ أن يكون أمامَه كما “الميّت بين يدي غسّاله” كما نصح بذلك الكثير من شيوخ أهل الفنّ؛ فذلك اختيار مُحترم أبانت وقائعه عن جدواه بالنسبة للكثيرين. وأمّا في الحالة الثانية، فالأمر مختلف، بل ويجب أن يبقى مختلفا، لأننا نكون حينها ضمن دائرة التقديرات والاجتهادات والاقتراحات التي تبقى في إطار “النسبي” مهما ارتقت وتزيّنت بزينة التّوفيق الإلهي، لأنها في نهاية التحليل ليست وحيا.

هل كان الأستاذ عبد السلام ياسين مُجرّد مفكّر عادٍ؟

سؤال لا يطرحه تلامذتُه ومُحبُّوه فقط، بل يتردّد على لسان العديد من الباحثين والأكاديميين الذين اقتربوا من الرجل وفكره. وهو سؤال يمتلك حظا وافرا من المشروعية بالنظر إلى ما ورّثه الرجل من أدبيات كثيرة ومتنوعة، وبالنظر أيضا إلى تجربته وممارسته التربوية والسياسية.

ما يهمّنا هنا هو المسكوت عنه لدى بعض تلامذته أثناء طرحهم لهذا السؤال؛ فهم يقصدون لا رَيْب: كيف يحضر “الغيب” في كتابات الأستاذ ياسين؟ خاصة وأنهم استمعوا لحكايات كثيرة يرويها بعض المقرّبين منه حول كيفية اختياره للقضايا التي يكتب فيها، وعناوين كتبه، وعدد صفحات ما سيكتبه، ومُسودّاته، وغيرها من تفاصيل، تشي بأن “في الأمر لأَشياء” وجب استجلاؤها، أشياء نُؤمن بها ولا نكذّبها، ولكن ـ على أية حال ـ لا يمكن “قياسُها” و”إثباتُها” والحديث حولها مع غير المُحبّ أو المُتعاطف، بل نعمل ـ إن لزم الأمر ـ على ردّها إلى قدرات الرجل وخبراته، وهي من جملة المآخذ التي عدّدها الأستاذ محمد بشيري ـ رحمه الله ـ يوم خرج من الجماعة، فقد اعتبرها ـ والتّعبير منّي ـ مجرّد مناقب كَرَامَاتِيَّة يرويها “المريدون” لتجميل صورة شيخهم والرّفع من مقامه ضمن لائحة الأولياء.

بعض التلامذة يُسيئون إلى الرجل وإلى فكره ومدرسته من حيث يظنون أنهم يحسنون، وذلك حينما يحشدون مرويات لا تثبت عند أوّل محك نقدي، ويُلوون نصوصَه ويُبعدون في تأويلها لتخدم فهما نراه سقيما، لا يدفع بالفرد ولا بالمجتمع نحو الأفق الذي مات الأستاذ وهو يبشّرُ به.

كلّ فكر بشري ـ وأدبيات الأستاذ ياسين من ضمنه ـ يموت إن أصرّ التلامذة على التعامل معه بجمود ورفضوا النظر إليه باعتباره مرّ بمراحل تطوّر فيها، حيث وُلد، ونشأ، وارتقى، ووقف ينظر إلى نفسه في مرآة النّقد والمراجعات المُؤسَّسَة عن دراية واقتناع دون ضغط سريع للوقائع والظروف والمستجدات.

الفكر الحيّ يضمّ بين جوانحه ثوابت ومتغيرات؛ ثوابت قليلة ومتغيرات واسعة، وحتى تلك القليلة من علامات قوّتها وعنفوانها أن تمنحَ المُتلقّي إمكانيات واسعة للتأويل. هذا إن أرادَ أصاحبُه امتدادَه في الزمان والمكان، وغير ذلك جمود وتطرف، وخَطْوٌ نحو الحَتْف.

نُراقب خطاب جماعة العدل والإحسان عن كثب، ونعتقد ـ يقينا ـ أنها تسير نحو تفجير إمكانات كثيرة ومتعددة ورائدة تسعدُ بها البشرية ـ بحول الله ـ كامنة في النصوص التأسيسية التي أثّلها الأستاذ ياسين، ومات فرحا لأنه تاركها في  أيد أمينة.