الرَّاكِضُون نَحو المَوت..!

عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب - والعلوم- بوغوطا- (كولومبيا)
السّرعة المفرطة ، والتهوّر، والإندفاع ، وعدم الإكتراث،وعدم أخذ الحيطة والحذر عند السّفر والرّحلة والترحال، كلّ أولئك أمور ما برحت تشكّل السِّمات البارزة التي ما زالت تطبع تصرّفات معظم مَنْ إنساب على عجلاته المطّاطية فى أرض الله الواسعة فى كلّ إتجاه بدون رادعٍ،ولا وازعٍ، ولا كابحٍ ولا رابط…. فهؤلاء الذين يسحقون الأرضَ سحقاً عنيفاً،وينهبونها نهباً مخيفاً، ما إنفكّوا يحصدون الأرواحَ البريئة كلّ يوم … إنظروا، وتأمّلوا وإلتفتوا إلى جميع مناطق وجهات وأرباض ونواحي بلدنا الحبيب من أقصاه إلى أقصاه ، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، أجل، ما زالت الأرواح تُزهق فى مختلف الطرقات من طرف هؤلاء الذين يركضون فى جنون نحو الموت والهلاك خاصة فى تواريخ العطل الصيفية التي نعيشها هذه الأيّام.. لاتعجبوا.. فليس هذا عنوان فيلم سينمائي درامي جديد، كما أنه ليس عنوان إحدى الروايات التراجيدية من روايات فولكنر، أو ألبير كامو،أو أغاثا كريستي،أو ميغيل أنخيل أستورياس، أوفرانز كافكا، أوميلان كونديرا، أو خوليو كورطاثار،أو غابرييل غارسيا مركيز.. وإنّما هي حقائق دامغة ،وأخبار مفجعة لما يجرى فى الطرقات،وعلى الأسفلت القار أمام أنظارنا، ونصب أعيننا من حوادث ، وكلّما قمنا بحملات وقائية للتقليل من حوادث السيّر إلاّ ورأيناها تزيد وتتفاقم.. إنها إنعكاسات مؤسفة، ورجعُ صَدىً مؤلم ،وردود فعل مفجعة لما تراه العين وهي غرقى بالدموع فى بلادنا عبر الطرقات السيّارة منها، ونصف السيّارة، والرئيسيّة، والمعبّدة، والسّاحلية، والثانويّة، والجانبيّة، والهامشيّة، والمهمّشة،والمهموشة..!
آراء أخرى
فى التأنّي السّلامة..!
كانا إثنين فرحيْن بالإستماع إلى باقة من الأغاني القديمة التي تنبعث من ثنايا الأقراص المُدمجة والتي تعود بهما نغماتها الرّخيمة ،وكلماتها الطليّة الزمانَ القهقرى، وتردّهما فى لمحٍ من العين إلى عهود الزّمن الجميل الذي ولّى، ومضى ،إنقضى، وذهب لحال سبيله، كانا جذلين كذلك بالإستمتاع بالطريق المعبّد الرابط بين مطار العروي ومدينة الناظور الذي تمّ توسيعه، وإصلاحه، وترميمه مؤخراً والذي كان قد طاله بعض الإهمال بعد إفتتاح الطريق شبه السيّار أو الطريق السّاحلي الجديد الرّابط بين مدينتي الحسيمة والناظور، المدينتان التّوأم اللتان يربطهما هذا الطريق الذي ينساب، ويشقّ طريقه كأفعوان بين التضاريس الوعرة،والأخاديد الضيّقة، والمنعرجات الخطيرة، والمنعطفات الصّعبة، والآكام الشّاهقة، والهضاب المنحدرة، والسهول النضرة، والسهوب المترامية الأطراف، والمناظر الخلاّبة، والجبال الكلسيّة المتآكلة التي نحتها التحاتّ بفعل التقادم، وعوامل التعرية، وتهاطل رذاذ البحر ورطوبته الناتئة المتسلّطة على هذه اليابسة الناعسة فى سكون أبدي ، وركود سرمدي منذ أقدم العهود السحيقة التي لا يتذكّرها أحد، ولا يذكرها أحد، هذا الطريق الذي جمع بين المدينتين الجميلتين اللتين يجمعهما الطريق السّاحلي الجديد، وحوض المتوسّط الساحر، والمصير المشترك كذلك،بعد طول إنتظار،وإتصال، وإنفصال ،وكأنّه حبل سُرّي أعاد إليهما الحياة والحيوية، والإنتعاش والرّواج من جديد لإحياء صلة الرّحم بين هاتين الحاضرتين المتقاربتين طوراً،والمتباعدتين أطواراً ،إلاّ أنه بالمقابل قلّل من شأن الطريق المعبّد القديم الرابط بين الناظور والحسيمة عبر ( الدريوش، ،والعروي،وتزطوطين، وميضار، وكاسيطا ،وبني بوعياش، وإمزورن،وبوكيدارن، وأجدير ثم الحسيمة ..) .
قبل ذلك بحوالي ساعة من الزمان ،كانا ذاهبيْن إلى مطار العروي لتوديع أحد أقاربهما المتّجه إلى بروكسيل، كانا يتحدّثان عن الحياة، وجمال الطبيعة الخلاّبة ، والبحر الأبيض المتوسّط الجميل الممتدّ على جانبهما على مدى مرمى العين،الذي تنكسر لججُه المُزبدة على سواحلَ تمسمان الفيحاء،وتعانق مياهه اللاّزوردية الشواطئ الإسبانية عند الآفاق البعيدة المقابلة لنا التي نزل فيها ذات يوم صقر قريش عبد الرّحمن الدّاخل هارباً فاراً من بطش العبّاسييّن. وقبله نزل فيها الفارسُ الأمازيغي المِغوار طارق ابن زيّاد والقوط يفرّون مذعورين تحت سنابك خيوله المسوّمة، وتحت هدير صِفاحه، وحدّ أسيافه ،كانا يستمتعان بإشراقة الشمس السّاطعة بعد أيّام مُمطرة، وليالٍ مُكفهرّة. كانا يتحدّثان عن الحضارات التي ظهرت، وتألّقت، وسادت،وازدهرت، ثم بادت ، وعن الثقافات التي تمازجت، وتجانست،وأينعت، وأثمرت فى هذا الشقّ المنسيّ الجميل من الوطن الغالي، حيث أقيمت إمارة النكور أو إمارة بني صالح ، التي كانت أوّلَ إمارة إسلامية ظهرت فى الشمال الإفريقي بالمغرب سنة 710م ببلاد الرّيف الوريف، كانا يتجاذبان أطرافَ الحديث عن الماضي العتيد، والحاضر العنيد، والمستقبل الواعد، وجرّهما الحديث،وهو ذو شجون إلى المنافع والخدمات التي يجنيها إنسانُ العصر من هذه المُخترعات العجيبة ، وبالذات من هذه الآلة التي أطلق عليها اللّغويون مع فجر إنبلاج المدنيّة الغربية، وتفتّق التقدّم التكنلوجي إسم ” السيّارة” (من الكواكب السيّارة)،هذه الآلة التي تقرّب المسافات،وتُدني المبعدات، أو تلك التي تنوب مناب الإنسان فى المصانع، والمطابع، والمخادع، والمعامل ..إلخ.
قال لصاحبه، هذه حقائق لا يمكن نكرانها ،ولكن هناك ويلات قد تلحق بالإنسانَ فى بعض الأحيان من جرّاء هذه الآلة اللعينة، بحيث أصبحت حياة الإنسان فى هذا العصر المتطوّرحياة معقّدة صعبة ،محفوفة بشتى أنواع المخاطر، والأهوال التي تواجهه،والتي ينبغي عليه أن يعيشها بحذر وحيطة، لئلاّ تنزلق قدماه إلى هاوية الموت السّحيقة فى رمشةِ من العينٍ أو فى لمحٍ من البصر، وكأنّها الصّراط فى دار البقاء الذي نتحدّث عنه فى دار الفناء والشقاء .
وتطير من أفواههما الكلمات طيّعة مِطواعة، سَلسة مُنسابة، حاملة معها فلسفتهما البسيطة ، والسيّارة تسير بسرعة معتدلة مخافة المجهول من أيّ إنزلاق مفاجئ،أو تزلّجٍ،أو تزحلق مباغت، خاصّة بعد الأمطار الغزيرة التي هطلت بدون إنقطاع بشكلً مفاجئ فى المدّة الأخيرة بعد طول إنتظار،وبعد جفاف قاتل، وبعد أن خرج المؤمنون أفواجاً أفواجاً ، وزرافات ووحدانا وهم يتسابقون للمشاركة فى صلاة الإستسقاء لطلب الغيث العميم، إلاّ أنّ الجوّ بعد ذلك سرعان ما أصبح صحواً وجميلاً، فبعد العاصفة يأتي الهدوء..!
سيارات تنهبُ الأرضَ نهباً
كانا يلمحان على الجانب الأيسر منهما بين الفينة والأخرى ظلالاً تمرّ مرّ البرق فلا يتبيّنان ما عساها أن تكون …حتى تتراءى لهما من بعيد، فيدركان أنها كانت سيارات تنهب الأرضَ المعبّدة نهباً،وكأنّها فى سباق مع الزّمن ، وكانا لا يحمدان عاقبة هذه السّرعة الجنونيّة المفرطة التي يفقد معها الإنسانُ توازنَ وجوده فى الحياة،وكأنّ قلبيهما كانا على علم بالغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله، فما أن إقتربا من موضع الحادث على الطريق الرابط بين مدينتي العروي والناظور، وما هي إلاّ لحظة حتى رأيا حشوداً من الناس مجتمعين ، ولقد إصطفّت العديد من السيارات على جانبي الطريق ،فخيّل إليهما أوّل الأمر أنّ هناك سوقاً، أوسمكاً، أو سلعةً أوخُضراً أو فواكه موسمية،أو بضاعة معروضة للبيع أو ما شابه ذلك، وتباطآ قليلاً فى سيرهما حتى وصلا إلى عين المكان ، فإذا بمجزرة رهيبة كان ضحاياها أناس آدميون أبرياء، وعلى حافة الطريق ببضع أمتار عن الأسفلت رأيا حافلتين ملتحمتين، متلاصقتين وكأنهما أصبحتا شقفة، أو كتلة، أو كومة واحدة من حديد معوجّ فاقد الشكل ، ضحايا لا ذنب لهم فارقوا الحياة على الفور – كما أُخْبِرَا- مجندلين ، طريحين على الأرض بلا حِراك، ،إنفطرت ألبابهما للمنظر الفظيع ، وإصفرّت معها وجوههما، وزادت نبضات قلبيْهما، وكانت سبب هذه الحادثة اللعينة كذلك السّرعة المفرطة على الرّغم من أنّ هناك علامات تشير إلى محدوديتها فى هذا المقطع من الطريق.
وفي العجلة الندامة..!
وعندما توقفا ليتفقّدا الأمر، وسألا إذا ما كان فى إمكانهما تقديم أي خدمة،أو مساعدة ،وبينما كان رجال الدرك والإنقاذ يقومون بواجبهم من تقديم الإسعافات الأوّلية للمصابين الذين طالتهم جراحٌ خطيرة فى هذا الحادث المؤسف والمؤلم للغاية، إنتهت إليهما التعاليق التي كانت تنثال،وتتسابق، وتتلاحق، وتترى بين الناس الذين تجمهروا حول مكان الحادث، كانت هذه التعاليق تخرج من أفواههم كالشّرر المتطاير فى غضب، وعصبيّة، وتشنّج وإنفعال: إنّها السّرعة المفرطة ولا شكّ ، التي كانت تسير بها الحافلة القادمة من الدر البيضاء ، مما أدّى إلى إصطدامها بعنف بحافلة أخرى أصغر منها حجماً كانت تقلّ العمّال العسيفين،الكادحين الذين كانوا متّجهين ككلّ يوم لضمان قوت عيشهم اليومي، قال قائل : إنّ الحافلة الكبرى كانت تسير بسرعة جنونية على الأرض ، وقال آخر : لقد رأيت ذات الحافلة تتجاوزني بسرعة فائقة قبيل الحادث، وقال ثالث: لا إنها الطريق التي تمّ إنجازها بسرعة ،مع نقص وخصاص فى بعض الآليات،والمعدّات وإنعدام المعايير الضرورية اللاّزمة من وضع إشارات تنبيهيّة ، وعلامات الخطر،والإرشاد، والمطبّات ،والأشغال، وعدم وضع الشِّبَاك المعدنيّة لتفادي تساقط الأحجار فى بعض المناطق من الطريق، أوتثبيت صُوىً أو صُوّات، أو يافطات لتحديد مسافات الأمان التي ينبغي أن تفصل بين السيارات …إلخ ، وقال رابع : ألم ترَ كيف أنّ الطريق ضيّقة، ويتوسّطها خطّ أبيض متّصل يحظر التجاوز فيها نظراً لكثرة المنعطفات، والمنعرجات،والإلتواءات التي لا تنتهي، ويكاد هذا الخطّ أن يظلّ متّصلاً ومتواصلاً بدون إنقطاع لمسافات بعيدة.
عادا إلى سيارتهما وفرائصما ترتعش، وأسنانهما تصطكّ من هول ما رأياه، وعندما إنطلقت بهما السيارة من جديد بحذر شديد وببطء أقلّ من السّابق،قال لصاحبه : لم يكن هذا إلّا نتيجة السّرعة المفرطة، والتهوّر الجنوني اللّامسؤول ولا ريب، وإلّا لما حدث ما حدث، وظلّت صورة الضحايا عالقةً نصب أعينهما، وتابعا المسير،وتأكّد لهما فعلاً إستكمالاً لحديثهما السّابق أنّ الإنسان المعاصر يعيش على حافة الموت، وهو يطلّ باستمرار على جرف التهلكة على مختلف الواجهات، وبين ثانيةٍ وأخرى يكون قد إنتقل إلى دار البقاء..!
زربْ تعطّلْ..!
وبعد أن نأيا عن مكان الحادث،وبَعُدَا عن الكوكبة أو ” الحلقة” من الفضوليين من المسافرين، الذين تجمهروا حوله، وأصبحا على مشارف المطار، إستأنف صاحبنا الحديث من جديد فقال لرفيقه: قطعاً هناك من سيقول أنّ ذلك من صنع القدر، فإذا إنقضّ فلا مردّ له..! إلاّ أنّ صديقه أردف قائلاً على الفور: ولكن ينبغي ألاّ ننسى فى الوقت ذاته أنّ الله تعالى يأمرنا بأن لا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، فالسّرعة المفرطة تفضي حتماً إلى ” التهلكة ” المحقّقة لا محالة، وهي خطر حقيقي داهم مُحدّق بكلّ من وضع قدميْه داخل علبة كبيرة من حديد إسمها السيّارة ! …. مهلاً أيّها السّادة المسافرون ..مهلاً أيتها السيّدات المسافرات، حتى تقوا وتحفظوا أنفسَكم (نّ) ،ومَنْ معكم (نّ)، وتقوا الغير، وتذكّروا ولا تنسوا أبداً وهذا هو الأهمّ.. ( التحذير والتذكير) دائماً جهاراً، ومراراً،وتكراراً بالقولة الشّهيرة المُختصرة والمُبتسرة المأثورة التي نراها وتقابلنا فى مختلف الطرقات السيّارة وغير السيّارة وهي مكتوبة بدارجتنا السّهلة،والمَهلة، واليسيرة، والمُيسّرة، والبسيطة، والمُبسّطة فى ذلك المثل ، الشائع، والذائع، والسّائرالمشهور،والمأثور : زْرَبْ تَعَطّل.ْ..!…
ويُحكى فى الأمثال الأوربية أنّ نابليون بونابارت كان يقول لزوجته جوزفين عندما كانت تساعده على أرتداء ملابسه : ألبسيني بتأنٍّ وبطء لأنني مُستعجل ..!