ـ الدجاجة هي السابقة إلى الوجود.

ـ بل البيضة أسبق.

ـ ولكن الدجاجة هي التي تلد البيض..

ـ والديك.. أليس ضروريا لكي تلد الدجاجة البيضة؟

ـ !!!

ـ الديك سابق على الدجاجة والبيضة إذا.

ـ بل الديك والدجاجة كلاهما خرج من البيضة.

ـ وهل البيضة خرجت من عدم !

ـ !!؟؟

هكذا هي الحلقة المفرغة التي قد يؤدي إليها السؤال القديم الجديد: من يصنع من: الفرد أم المجتمع؟،من أين يبدأ التغيير؟وعلى من يجب التركيز وتجدر العناية والمراهنة؟،على الفرد ودوره في تطوير المجتمع من جهة،أم على دور المجتمع في الحفاظ على طبيعة الفرد ودوره في المجتمع من جهة أخرى… ماذا يوفره المجتمع ومؤسساته للأفراد كي يكونوا صالحين وحتى يضيفوا إلى المجتمع قيما نافعة تساهم في النمو والرقي؟.

واقع العلاقة بين الفرد والمجتمع يعيد إلى الأذهان نفس الجدل النظري والعلمي القديم الذي بدأ مع أفلاطون و أرسطو ودار بين رواد العلوم الانسانية الأوائل أمثال إميل دوركهايم عن علم الاجتماع وغابرييل تارد عالم النفس؛إذ بينما نفى الأول “وجود الفرد”ككيان مستقل وكذات واعية خارجإطار المجتمع، ورأى بالتاليأن كل فرد يستمداسمهويتشكل وينشأ وسط معايير وشروط “العقل الجمعي”، وأن لا نمو ولا سمو إلا بما تمنحه وتسمح به مؤسسات الجماعة… خالفه غابرييل تاردبأن جعل الفرد هو المحور، وذلك لكونه”ذات”حرة وذات إرادة ووعي وإبداع،ومن ثم فهوـ أي الفرد ـ مصدر كل تنظيم وكل تطور في الأول والآخر… ولذلك يصنع الأفراد التاريخ (من حيث يشعرون ولايشعرون)،ويقدمون نماذج فريدة لشخصيات كاريزمية قد صنعوا ملحمات وبصموا تطور البشرية كلها؛(نيوتن، الإسكندر المقدوني، محمد(ص)، نابليون، هتلر، غاندي….). هذا التعارضفي الرأيأدى إلى تشكل نظرية “علم النفس الاجتماعي”(أوجست كونت) التي تحاول التوفيق والدمج بين النظريتين المتناقضتين من خلال توضيح العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع. وقبل هؤلاء وأولائك، كان ج.ج. روسو قد تصور الواقع بمنظور”العقد الاجتماعي”، الذي بموجبه انتقل الفرد من “حالة التوحش” إلى “حالة التمدن”، أي من الغريزة إلى الثقافة ليضمنالهدنة ويستتب الأمن والاستقرار ويحفظ الأفراد لأنفسهم شرط البقاء قيد الحياة في إطار التقاسم المشترك للواجبات والتنازل المتبادل عن الحقوق… ومع تراخي الزمن حدثت “الطفرة الوجودية”!فصار المجتمع فوق الأفرادبمثابة عبء ثقافييتحمله كل فرد كالهواء فوق كتفيه…ولعل ج.ب. سارتر قد قصد عبء المجتمع في قوله المأثور “الآخرون هم الجحيم”.

ما مناسبة هذا الكلام؟ لماذا طول هذه المقدمة؟.

أولا، لهول ما آلت إليه العلاقات بين الناس ولفضاعة القيم الوحشية التي صارت تطفو إلى السطح من خلال سلوكيات الأفراد، ولتراجع مؤسسات الدولة والمجتمع وحيادها السلبي عن أداء الدور المنوط بها… وثانيا، للمناقشات السياسية الخاصة والعامة حول دور شخص جلالة الملك في إصلاح أوضاع المجتمع المغربي… ارتأيت أن أقدم هذه المساهمة معبرا في البداية عن أسفي وحسرتي على هذا التوصيف الشقي لحالتنا، متمنيا أن أكون مجانبا للصواب والحقيقة.

تضبط الدولة ساعة الوطنومؤسساته على إيقاع حركية البورصات العالمية ومواعيد فتح وإغلاق الموانئ والمطارات…وينتشر أفراد المجتمع في الأرض سعيا وراء اسباب العيش لا الحياة، بينما الهاجس الحقيقي هو أن تحافظ “الدولة” على الوضع الماكروـاقتصادي وتضمن السيولة الإمبرـ مالية للطبقة العالمية التي تخوض حروبا استباقية تحت ضغط سرعة المبادلات وتكنولوجيا استنزاف الأرض ومن عليها حفاظا على مصالحها الحيوية وامتيازاتها في كل نقطة من العالم.

وتسيطر  لوبيات الدولة على مؤسسات المجتمع عبر الوزارات والقطاعات العامة والخاصة لا فرق!،فلا يتاح للأفراد والنخب العالمةإبداع”شيء” إلا بما يسمح به ذوو الثروة والسلطة والنفوذ؛ طبقة تابعة للمركز الإمبرـ مالي، تستحوذ علىالإدارة وتضمن لذريتها المناصب العليا بأجور خيالية ضاربة عرض الحائط مبدأ الكفاءة والأحقية، وفي نفس الوقتتستطيب رؤية الأدمغة المهاجرة ترحل ليبقى في البلد من يتجرع مرارة “الحكرة” ويستحلي خطاب الوعي الشقي وجلد الذات.

المجتمع الذي كان في الأصل حصنا تعاقديا يمنح الفرد فرص الانبثاق والتحضر والتطور، ها هو الآن يشهد تدهورا مرعبا فمؤسساته تنهار الواحدة بعد الأخرى وتتلاشى الأدوار، والعلاقات الاجتماعية تتفسخ والقيم تتحول إلى الأسوء… سوء تدبير المؤسسات يجعل الفرد وكل الموارد البشرية عرضة للهدر والانحلال. المؤسسات (الأسرة والمدرسة والمحكمة والحزب والمسجد…) تحافظ على الشكل وتفرغ المضمون، بل هذا هاجسها وشغلها. الفرد مجرد رقم في معادلة سوق العرض والطلب، يألف الناس عادات “البريك فاست”: (السرعة في الأكل والشرب والعمل والدراسة والفن… في كل شيء إلا النوم!)، وقد تطبعوا على مشاهدة الانحلال وانحطاط القيم. ويجد الفرد نفسه أمام مواقع التواصل الاجتماعي حيث يتخلص من “القهر الجمعي”المادي والرمزي ويبحث عن ترميم ذاته المكسورة عبر انخراطه في مجتمع آخر، مجتمع افتراضي واسع… في انتظار عودة الوعي للمجتمع ليضطلع بالدور الذي تأسس من أجله.

منذ صغره، يكتشف الفرد ذاته وقدراته فيعمل على صقل مواهبه من أجل انتزاع الاعتراف من المجتمع، سواء من الأسرة التي ينتمي إليها أو المدرسة أو الشارع أو الحزب أو الدولة. لكنه يصطدم أمام “الكاوس الاجتماعي” أي الانفلات الشامل للمؤسسات وقوانينها الأساسية والداخلية التي لم تعد تشكل الحضن الذي يربي ويعلم الفرد ويحد من “شره”… تكاليف العيش ومتطلبات الترفيه وحالة الاستيلاب وضغط التكنولوجيا… إكراهات تستنزف الوقت ولا تترك لأحد مجالا للتربية على قيم الجماعة والمواطنة والبيئة. في المقابل، ترى الطحالب السياسية ممن لا يميز الألف عن الزرواطة يفسدون.. ثم يتبوؤون منصبا برلمانيا ويتطلعون إلى عرش الوزارة، و”عندما يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليس لحساب أمة، يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن… وينصرف ليبحث عن مصلحته الخاصة”… فقد المجتمع بوصلته بتهريب العدالة وبتدمير قطاع التعليم وتشويه الحقل السياسي وانتشار البطالة والفقر والجهل حتى صار الفرد فاقدا للثقة في الوالدين والمعلم والفقيه قد يسمع لهم لكنه لا يعمل إلا بمزاجه هو، وهو شريد طريد وعرضة لكل فخ ومثلب…

ضمن هذه الشروط المتردية، يتخبط الفرد المعزول متمثلا محيطه البسيكوـ سوسيولوجي، مستدمجا ما يصادفه من السلوكيات والأفكار والأذواق. بل إن هذا قد جعل الفرد يتجاوزمفهوم المجتمع وقيمه ويحاول العيش خارج نطاق منظومته، وبسبب خوفه على مستقبله ومصير ذويه ممن يحبه، يختار لنفسه نمط حياة “شاذ” لا يخاف فيه العقاب ولا السجن ولا الموت ولا لومة لائم… ولم لا؟والكبار ينهبون ويتمتعون بالحرية بينما الصغار يسجنون ظلما وينتظرون العفو…

مضى علينا وقت طويل لم نشهد فيه ولادة حكماء وعلماء وسياسيين وفنانين من طينة غاندي وهلموت كول وكانط وسارتروفرويد وأينشتاين ونجيب محفوظ وأم كلثوم وجورج أورويل… ويبدو أن رياح العصر الراهن هي فقط لأسفار التقنوقراطيين والمهندسين المقاولاتيين الذين يستجيبون لدورةالاستغلال والاستهلاك السريعين (“هندسة التاناتوس”: انتاج الموت في فيروسات معدية ومضادات حيوية وأسلحة تدميرية موجهة عن بعد وبرانم تطبيقية للمال والأعمال…). إن العنوان الكبير لهذا العصر هو بطش الحداثة وفقدان الجوهر الانساني. نحن في أزمة وندفع ضريبة العولمة بسبب تخلفنا وأنانيتناواستسلامنا لضعفنا واستكثارنا الالتحاق بالركب الحضاري للأمم. طبعا توجد عوائق كثيرة تفرضها العلاقات الدولية غير المتكافئة وتدبير التراث والثقافة السائدة وشح الموارد الطبيعية وتحديات البيئة، لمثل هذا توجد الدول كي تتحمل المسؤولية ومعها المجتمع برمته قبل الفرد،لأن المؤسسة الاجتماعية هي المهد الأول والحياة الثانية بعد “الطفرة”وبعد أن “صار الرجوع إلى “الأصل” أي المشي على أربع مستحيلا” كما عبر عن ذلك ج.ج.روسو. فإذن، الفرد هو من يتحمل مسؤولية حسن أداء المؤسسة، وأي فرد، هذا هو الإشكال!

تعلمنا الفلسفة الوجودية أن الفرد “ذات” حرة ومسؤولة في آن واحد، حرة في اختيار مشروعها المستقبلي، لكنها مسؤولة أمام الآخر الذي يشاركها نفس العالم، نفس الوجود.كيف ينمي الفرد عقله ويهذب ذوقه وهو لا يقدر على إنهاء قراءة كتاب واحد؟ كيف يتقاسم العالم مع غيره وهو فاقد الثقة في السياسي؟ كيف يساهم في التنمية ولا شيء يعمله بأصابعه العشرة؟ وكيف لا يجنح ولا يجني والقاضي يحنث؟؟؟.

لكن بالرغم من كل ما سبق يمكن تدارك الأشياء والمثل يقول: ” أن تجيء متأخرا أفضل من أن لا يذكر اسمك “.ولعل إصلاح التعليم والقضاء،هما المجالان الأساسيان والضامنان لكسب الرهان، لأنهما يختزلان الإشكالية الثنائية ويسهران على بناء الفرد والمجتمع لتحقيق الأمل المنشود.

التعليم الصحيح، الذي يجعل الفرد محور العملية التربوية والتعليمية، ويعمل على تنميته بالطرق العلمية والعملية والإعلامية والعالمية والعلمانية… لأن الأهداف المتوخاة من العملية كلها هي تحقيقالمواطنالصالح لذاته،المنفتح على غيره،الواعي بحقه، الغير قابل للاستغلال والشيئنة، بهذا المعنى ينبغي فهم مصطلح “تنمية الموارد البشرية”، وليس بمعنى “الموارد الطبيعية”القابلة للاستنزاف والاستنفاذ، (الغريب في الأمر أن هذا المصطلح بالذات والذي تم نقله وترجمته عن الأوربيين يعنى بالموارد “الإنسانية” Humaines لا “البشرية”؟؟؟ التي توحى بالنمطية والقطيعية…).

     مؤسسة القضاء، حيث العدل أساس الملك، وفيها يسهر القاضي علىسلامة الجماعة طبعا وليس على الفرد، ولا يدين الفرد إلا من جهة إخلاله بتمفصلات المجتمع .ولكنالقاضي عليه أن يقدر الظروف الاجتماعية للمتهم الفرد، ولا يصدر في حقه حكما دون استحضار كل حيثيات المجتمع الذي ضره وتضرر منه… إن مؤسسة القضاء ـ  في الأمم الراقية ـ تقاضي المؤسسات المخلة والماسة بحق الفرد في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية،لذلك يتحمل رعاة المجتمع ـ (كل واحد من موقعهسواء في الأسرة، والمدرسة، المصنع والشركة، الجمعية والبلدية، الحزب والحكومة، الدولة والأمة …) ـ المسؤولية المضاعفة.

    للمتفائلين فقط، يمكن إعادة بناء الثقة في الذات الفردية والجماعية إذا صلحت مؤسسات القضاء والتربية والتعليم.