الإنتاج العلمي في العالم العربي : واقع وأرقام
لا يمكن بحال فهم الحضارة العربية الإسلامية منذ بدايتها دون الوقوف على البعد العلمي فيها. بنيت هذه الثقافة العلمية الجديدة ابتداء من نقل علوم الأوائل وخاصة تلك التي ترعرعت في أحضان الحضارة اليونانية كما هو معروف. ولكن إذا تأملنا حركة الترجمة العلمية من فلكية ورياضية على الأخص، والتي كانت أكبر حركة ترجمة علمية عرفها التاريخ، فسيظهر لنا خاصية أخرى ذات معنى عميق. سنرى أن هذه الترجمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبحث العلمي والإبداع. فلم يكن القصد من هذه الترجمة إنشاء مكتبة علمية لإثراء خزائن الخلفاء والأمراء فقط، بل لتلبية حاجات البحث العلمي، ويكفي أن نذكر هنا أن المترجمين أنفسهم كانوا من قادة الحركة العلمية. بل إن بعضهم من العلماء الخالدين على مر العصور فمن بينهم الحجاج بن مطر وثابت بن قرة وقسطا بن لوق، كما أن اختيار الكتب لترجمتها وكذلك توقيت هذا الاختيار كانا وثيقي الصلة بما يعرض للبحث. فارتباط الترجمة العلمية بالبحث العلمي المتقدم حقيقة تاريخية توضح لنا قيمة الترجمة بالنسبة للباحثين والعلماء العرب.
آراء أخرى
– مفهوم الإنتاج العلمي :
إن الإنتاج العلمي من أشق وأرقى النشاطات التي يمارسها العقل البشري على الإطلاق ، وهو نوع من الجهاد المقدس، من أجل صناعة الحياة وتحقيق التطور والنهوض. وهذا الجهد المنظم لا يمكن أن يجري في فراغ، حيث ينبغي توفير الحرية والدعم و الأموال وبناء المنشآت والمعامل والأدوات، وتأهيل الكوادر البشرية، وخلق الحوافز المادية والمعنوية، التي تجعل من الإنتاج الفكري عملاً يستحق المعاناة والجهد المتواصل. إذ بالإنتاج الفكري نكون أو لا نكون ! .
ويعني الإنتاج بالمفهوم الشامل تحويل المدخلات من الموارد المادية والبشرية إلى مخرجات يرغبها المستهلكون ويطلبونها في شكل سلع أو خدمات. فالإنتاج هو عملية استخدام موارد طبيعية وبشرية لخلق قيمة عالية لهذه الموارد، من خلال توفير السلع والخدمات المطلوبة. ويكون خلق القيمة بدرجات مختلفة. فقد تكون القيمة المخلوقة مساوية أو أقل أو أعلى من قيمة الموارد المستخدمة.
والعلم هو مجموعة و منظومة من المعارف المتجانسة و المتناسقة التي يعتمد في الحصول عليها على المنهج العلمي دون غيره، أو مجموعة المفاهيم المتكاملة والمترابطة التي نبحث عنها و نتوصل إليها بواسطة البحث العلمي. والعلم كما يعرفه لالاند(2012) “يطلق على مجموعة من المعارف والأبحاث التي توصلت إلى درجة كافية من الوحدة والضبط و الشمول بحيث تفضي إلى نتائج متناسقة فلا تتدخل في ذلك أذواق الدارسين و إنما ثمة موضوعية تؤيدها مناهج محددة للتحقق من صحتها “.
والإنتاج العلمي هو كل ما كتب في موضوع معين ، بغض النظر عن شكل السند الذي يحمله . إذ أنه ” يصاحب أي نشاط ، و هو مرآة لدرجة التقدم و الاستقرار في المفاهيم الموجودة في إطاره و للنشاط التطبيقي في مجاله” بمعنى أن تقدم أو تدهور كل علم ، يقاس بما أنتج من مؤلفات تخدمه في مجاله .
– الإنتاج العلمي في الوطن العربي
22 دولة، لغة وثقافة واحدة تمثل الوطن العربي. يمتلك الفضاء العربي موارد طبيعية وبشرية كبيرة. وعلى امتداد المنطقة تاريخ غني في التعليم العالي وإنتاج المعرفة، بيت الحكمة في بغداد مؤسسة تعليمية ممتازة أنشأت سنة 813 م. جامعة القرويين في فاس في المغرب ، أنشأت عام 859 م، وقد اعتبرت أقدم مؤسسة تمنح درجات علمية في العالم. ثم تلتها جامعة الأزهر في القاهرة. واليوم هناك 242 جامعة عضو في اتحاد الجامعات العربية ، تنتمي إلى 19 دولة عربية. منذ عقود طويلة والحديث في الوطن العربي لا يكاد ينقطع عن أهمية البحث العلمي وكونه المدخل الصحيح إلى التغيير الشامل، والإصلاح الحقيقي المنشود، والمتأمل لواقع البحث العلمي العربي والمؤسسات البحثية من المحيط إلى الخليج ، يتبين له مدى الفجوة الواسعة بينه وبين المستوى البحثي والأكاديمي العالمي. فالدول العربية عموماُ تفتقر إلى سياسية علمية محددة المعالم ، والأهداف والوسائل ، فضلاُ عن العديد من المعوقات التي تحول دون رقي الأمة العربية إلى مستوى الحضارات والدول المتقدمة . .
– الإنتاج العلمي العربي في العلوم و التكنولوجيا
يمكن بشكل عام قياس مخرجات البحث العلمي من خلال النشر العلمي حيث تقع الدول العربية وفق عدد المنشورات العلمية للسكان( 26 بحثا لكل مليون فرد في سنة 1995) ضمن المجموعة المتقدمة من الدول النامية والتي تضم البرازيل( 42 بحثا) والصين( 11 بحثا) والهند(19بحثا )، وإن كانت هذه الأعداد ما زالت تبعد كثيرا عن مستوى الإنتاج في الدول المتقدمة مثل فرنسا ( 840 بحثا) وهولندا( 1252 بحثا) وسويسرا ( 1878 بحثا) .
أما على المستوى المؤسساتي ، فقد كان عدد المؤسسات العلمية العربية التي نشرت أكثر من 50 بحثا سنة 1995 ،26 مؤسسة بينما اقتصر عدد المؤسسات العلمية العربية التي نشرت أكثر من 200 بحث على خمس مؤسسات.
ولكن عند فحص مضمون هذه المنشورات، يتبين لنا ضآلة البحث في العلوم الأساسية. فمعظم هذه المنشورات تتعلق بالميادين التطبيقية كأبحاث الطب والصحة وعلوم الحياة.
ومن المؤشرات التي يمكن أخذها في الاعتبار لقياس مستوى جودة الأبحاث عموما، قياس عدد الاقتباسات المرجعية منها، حيث تزداد الإشارة إلى البحث كلما ارتفع مستواه وأضاف جديدا إلى المعرفة الإنسانية . وقد ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول، عدد المقالات التي زاد الاقتباس منها عن 40 مرة كان مقالا واحدا فقط في كل من مصر والسعودية والكويت والجزائر في سنة 1987 بينما وصل هذا العدد إلى 10481 مقالا في الولايات المتحدة و523 مقالا في سويسرا .
تمارس نشاطات البحث والتطوير في البلدان العربية أساسا في مؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية التخصصية المرتبطة ببعضها، أو في مراكز وهيئات البحث العلمي، أو في هيئات ووحدات البحث والتطوير. ويبلغ مجمل عدد مراكز وهيئات البحث العلمي ومؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية التخصصية المرتبطة بها، وفق بعض التقديرات إلى 588 مركزا.
يتسم البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي بالعالم العربي بالطابع الأكاديمي، وترتبط ببعض الجامعات مراكز متخصصة للبحث العلمي تتفاوت في حجمها وإمكاناتها وإنتاجيتها، أما مراكز وهيئات البحث العلمي التي تتضمن الأجهزة البحثية المركزية ( مراكز ومعاهد أبحاث وطنية ) أو تلك المرتبطة ببعض الوزارات أو المؤسسات الصناعية والزراعية، فيبلغ عددها الإجمالي 278 مركزا أو معهدا.
– الإنتاج العلمي في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية
لقد كان للعلوم الإنسانية بوجه عام، بعض التقاليد الممتدة إلى ما قبل استقلال البلدان العربية، كما هو حال الدراسات في التاريخ والحضارة مثلا. إلا أن العلوم الاجتماعية بمعناها التخصصي، لم تظهر ولم تنتشر في هذه البلدان إلا بعد حصولها على الاستقلال، وبعد إنشائها جامعات ومراكز بحوث لتدريس هذه العلوم ولإجراء البحوث في مجالها. هذا يعني أن العلوم الاجتماعية، مع استثناءات قليلة أبرزها مصر، لم يكن لها حضور في الوطن العربي قبل ستينات القرن العشرين، علما بأنها لم تظهر في بعض البلدان كالخليج العربي، إلا خلال عقد لاحق.
وفي إجمالي الإصدارات في العالم، نجد أنه في 1991 أصدرت البلدان العربية 6500 كتاب مقابل
102000 كتاب من أمريكا الشمالية و42000 كتاب من أمريكا اللاتينية والكاريبي والملاحظة العامة أن هناك فقرا شديدا في إنتاج الكتب في البلدان العربية مقارنة بعدد السكان وهذا يشمل بطبيعة الحال الإنتاج الأدبي.
إلا أن إنتاج الكتب في البلدان العربية لم يتجاوز %1.1 من الإنتاج العالمي، رغم أن العرب يشكلون نحو %5 من سكان العالم . كما أن إنتاج الكتب الأدبية والفنية يعد أضعف من المستوى العام، فعدد الكتب الأدبية والفنية الصادرة في البلدان العربية لم يتجاوز 1945 كتابا في عام 1996 مما يمثل %0.8 فقط في الإنتاج العالمي وهو أقل مما أنتجته دولة مثل تركيا والتي لا يتعدى سكانها ربع سكان البلدان العربية. ويتميز الإنتاج العربي بغزارته في المجال الديني، وشح نسبي في المجالات الأخرى خاصة الأدب والفن والعلوم الاجتماعية. و الشكل رقم (3) يبين التوزيع النسبي للكتب المنتجة حسب المجال بالعالم العربي ومجمل العالم.
– إحصاءات مقارنة حول الإنتاج العلمي
نسبة إنتاج الوطن العربي من الأوراق البحثية إلى الإنتاج العالمي تعتبر نسبة منخفضة إذا ما قورنت بنسبة عدد السكان والتي تقدر بحوالي 5.4% . أما نسبة الباحثين العرب الذين يسهمون في النشر العلمي لا تتجاوز10% من مجموع حملة الشهادات العليا.
خلال هذه السنوات العشر كان الإنتاج الكلي من الدول العربية هو 135.176 ورقة. وتفصيل هذه الأرقام يوضح إسهامات الدول والموضوعات التي لها الاهتمام الأكبر من قبل الباحثين العرب، لقد وجدنا أن معظم الإنتاج العربي يأتي من أربع دول هي : مصر، السعودية ، تونس والجزائر. فعلى سبيل المثال أنتجت مصر خلال هذه الفترة 39.501 ورقة وهو يمثل حوالي 29.2 % من الإنتاج العربي الكلي، علما بأن نسبة عدد سكان مصر إلى العالم العربي تساوي تقريبا 22.55 % السعودية تأتي في المرتبة الثانية بنسبة 14.3 % وهي التي تمثل حوالي 14 % تقريبا من عدد السكان. أما تونس والتي تأتي في المرتبة الثالثة بنسبة تقترب من 13 % من الإنتاج ومن 2.78 %من السكان في الوطن العربي، فهي بذلك تأتي في المرتبة الأولى من حيث نسبة الأبحاث لكل نسمة .الجزائر تسهم بحوالي 9 % من مجموع الإنتاج العربي.
وللمقارنة مع دول كإيران وتركيا و إسرائيل، فإن الإنتاج العلمي المنشور لهذه الدول خلال الفترة من 2000-2011 يفوق ما نشر بالوطن العربي علما بأن تعداد مصر لوحدها يفوق تعداد سكان إيران بحوالي عشرة ملايين، وأن تعداد الوطن العربي يساوي تقريبا 4.7 مرة من تعداد إيران ، و4.6 من تعداد تركيا ، و 47 مرة من إسرائيل.
وتنفق إسرائيل على البحث العلمي ضعف ما ينفق في العالم العربي، في عام 2004 وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل إلى 4.7٪ من ناتجها القومي الإجمالي. .
علمًا بأن معدل ما تصرفه حكومة إسرائيل على البحث والتطوير المدني في مؤسسات التعليم العالي ما يوازي 30.6٪ من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله، بينما يصرف القطاع الخاص ما نسبته 52٪ من الإنفاق العام على الأبحاث والتطوير. وإذا قورن وضع إسرائيل بالدول المتقدمة الأخرى ، نجد أنها تنافس وتسبق كثيرًا من الدول الغنية والبلدان المتقدمة في هذا الميدان ، حيث تحتل إسرائيل المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد «وادي السيليكون» في كاليفورنيا وبوسطن ، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى في العالم المنتجة للأبحاث والاختراعات. أما بالنسبة إلى عدد سكانها قياسًا إلى مساحتها فهي الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية.
بالنسبة لبراءات الاختراع وهي المؤشر الأكثر تباينا بين العرب وإسرائيل، فقد سجلت هذه الاخيرة ما مقداره 16805 براءة اختراع ، بينما سجل العرب مجتمعين حوالي 836 براءة اختراع في كل تاريخ حياتهم ، وهو يمثل 5% من عدد براءات الاختراع المسجلة في إسرائيل .
أما عن نشر الأبحاث العلمية في المجلات العلمية فقد نشر الباحثون الإسرائيليون 138,881 بحث، بينما نشر العرب حوالي 140,000 بحث. على الرغم من أن عدد الأبحاث متقارب إلا أن جودة ونوعية الأبحاث الإسرائيلية أعلى بكثير من الأبحاث العربية ، وهذا يمكن الاستدلال عليه من عدد الاقتباسات لتلك الأبحاث.
المراجع :
– ابوطه محمد. إحصائيات مختصرة حول واقع البحث العلمي في العالم العربي. جامعة القدس المفتوحة. نشرة البحث العلمي العدد الثاني 2008.
– برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 نحو إقامة مجتمع المعرفة.
– محمود ، أسامة السيد . المكتبات و المعلومات في الدول المتقدمة و النامية : الاتجاهات – العلاقات- المؤسسات – الإنتاج الفكري – القاهرة : العربي للنشر والتوزيع ، 1987 .
– منظمة المجتمع العلمي العربي(أرسكو) . تقرير حصاد عقد من البحث العلمي العربي (2001-2010).
– Lalande, A. . Vocabulaire technique et critique de la philosophie. Paris : Quadrige/PUF ,2002