كثر اللغط مؤخرا، كما هي العادة دائما، على مواقع التواصل الاجتماعي حول زواج الفاتحة، مشروعيته أم لا، ما له وما عليه…الخ

وننسى في خضم ذلك فئة لا يستهان بها من ″السياسيين الجدد″ الذين يعملون في صمت وتكتم كبيرين وإما عن طريق الخرجات الإعلامية المثيرة للجدل أم من على منابر الوعظ والإرشاد منذ عقود من الزمن لأجل الهدف ذاته أعلاه : زواج الفاتحة ! 

فارق بسيط : موضوع الشهوة هذه المرة ليس هو الطيف العريض من العذراوات الجميلات الساذجات وإنما هو…الشأن العام وما يصاحب تسييره والزواج به من لذة عارمة…وبالفاتحة أيضا !

كيف ذلك؟

لنرجع إلى الوراء، ستة قرون مضت، إلى عصر مؤسس علم الاجتماع العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وبالضبط الفصل السادس من الكتاب الأول من مقدمته الشهيرة والذي افرده إلى إشكالية لا زلنا نعيش تداعياتها اليوم بفعل الجهل المركب الجاثم على أذهاننا منذ قرون.

يقول هذا العالم الفريد في الفصل السادس تحت عنوان :″ في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم.″

″ ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فان كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر اتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء…وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد…ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء، إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجا، وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصفاعين…واكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بأسبابها العادية…″

ما أشبه البارحة باليوم !

ما أشبه ساسة اللحية والفاتحة اليوم بموسوسي وملبسي ابن خلدون !

ما أشبه الجهل المطبق″ لفقهاء السياسة″ اليوم بأسلافهم بالأمس !

ولمزيد من الاستغراب، راجع مقالنا في الموضوع : تجارة الدين…من الفرجة إلى التراجيديا السياسية.

لكن، كيف تم زواج الفاتحة هذا؟

ببساطة، تسلق العارفون بخبايا السياسة ومنازلها ″ مدارج السالكين ″ لابن قيم الجوزية في لمح البصر ليصبحوا بين عشية وضحاها موظفين سامين وبرلمانيين ووزراء و…والوسيلة طبعا هي الإشهار المجاني بالدين.

وفاتحة الطريق لهذا الصعود السياسي المفاجئ ما هي إلا الخطاب الأخلاقي المتضخم أو التأصيل الشرعي للظواهر الاجتماعية المعقدة بعيدا عن الدراسات العلمية والحلول الواقعية أي في غياب تام لأي مشروع مجتمعي واضح المعالم والأركان.

ولتقريب الصورة أكثر من القارئ نقدم بعضا من سمات ″سماسرة الدين الجدد″ الذين ابتلينا بهم في عالمنا العربي الإسلامي تتميما وتوضيحا لما ذكره عنهم العلامة ابن خلدون في مقدمته :

1- ثقافتهم مزيفة ولا حظ لهم سوى القشور ومفردات اللغة الخشبية التي يتباهون بها من الحقل الديني.

2- يتلونون كالحرباء وراء الأشكال العديدة للتدين المغشوش بغية التستر على عقدهم النفسية.

3- مضاربون بالوكالة لآله الشر في بورصة القيم الإنسانية يبيعون بالجملة مبادئهم لمن يدفع كثيرا.

4- مؤمنون دائما أنهم على صواب وان الآخرين دائما على خطأ بلداء لا يفهمون شيئا لا في الدين ولا في السياسة.

5- يتناقضون مع أنفسهم في المواقف والأقوال والأفعال دونما أدنى حرج ويجرون وراءهم حبلا طويلا من الكذب والوعود الزائفة والقناعات الهشة والتناقضات الفكرية والسلوكية العديدة التي يسهل اقتفاء أثرها والتأكد منها اليوم بواسطة وسائل الاتصال والتواصل التي تعري كل شيء، اللهم من فضل وهم العمى على حقيقة الإبصار.

6- يقيمون الدنيا ويقعدونها من اجل″ فواصل فكرية″ Emile Cioran ومعارك شفوية حول قضايا عفا عنها الزمن واندثرت إلا في عقولهم القروسطية من ارث وحدود شرعية وزواج الفاتحة و…في عصر الأقمار الاصطناعية والتقنية الذكية التي تحملهم ولا يحملونها لأنهم لم ولن يبلغوا مستواها بعقولهم الحجرية.

7- ينكمشون كالرخويات داخل قواقعهم وينسحبون ويسحبون أذيالهم كالقطط المذعورة أمام الفساد والاستبداد. ويتجبرون على المحرومين والبسطاء.

8- يحسنون التمثيل والظهور بمظهر الفقيه الورع التقي ولا تنطلي حيلهم إلا على البلهاء أو غير العارفين بتقنيات التواصل الاجتماعي.

باختصار، هم أفراد منحرفون نفسيا وذهنيا، مكانهم الطبيعي كما ذكر ابن خلدون هو المصحات النفسية والعقلية ليخضعوا للعلاج على يد المختصين.

قد يبدو هذا الحكم قاسيا نوعا ما، لكن الحقيقة التي يجمع عليها كل خبراء علم النفس أن الخصائص التي تطرقنا إليها في حق هذه الفئة من الناس هي من أعراض المرض النفسي التي تستوجب العلاج الفوري لأنها من علامات الانفصام الاجتماعي La schizophrénie sociale

ملاحظة أخيرة :

قد يكون في صفوف هؤلاء الموسوسين ناس أسوياء وذووا نوايا حسنة، لكن وكما لا يعذر احد بجهله للقانون، لا يعذر أيضا من صاحب هذه الفئة المهووسة بالسلطة والشهرة إلى درجة اللعب بالنصوص الدينية وتطويعها لأغراض نفسية دنيئة.