لم يكن مولد النبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه، حدثا عاديا من حوادث التاريخ العابرة، وإنما كان منعطفا حاسما في تاريخ البشرية، لأنه أسس لمرحلة جديدة، شهدت نزول الوحي من السماء إلى الأرض، لإخراج الناس من ظلمات الجهالة، إلى نور الهداية، ولم يأت اختيار الله لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم عبثا، ولكن بناء على ما عُرف عنه من خصال وصفات أخلاقية عالية، حيث اشتهر بين قومه بالصادق الأمين.

كانت الجزيرة العربية، قبل ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، تعيش دوامة من الصراع والحروب بين القبائل، بسبب العصبية القبلية المستحكمة، كما شهدت ترديا أخلاقيا، وفراغا روحيا وانحرافا عقديا، من أهم تجلياته، عبادة الأوثان وتقدسيها، وكان نظامها الاجتماعي قائم على الرق والعبودية، والتمييز بين الناس على أساس الحسب والنسب والمال والجاه، فجاء مولد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ليعلن عن بداية حقبة فريدة في التاريخ العربي خاصة، وفي تاريخ الإنسانية جمعاء، على اعتبار أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، جاء هاديا للناس جميعا، كما أكد على ذلك القرآن الكريم في أكثر من آية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سبأ الآية 28، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء الآية 107.

ما يهمنا في حياة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ليست طفولته ولا شبابه، لأن هذه المراحل، كان فيها إنسانا غير مكلف بتبليغ وحي السماء، وإنما يعنينا في هذه المقالة، هي مرحلة البعثة، عندما جاءه الأمر بدعوة الناس إلى عبادة الله الواحد، وترك عبادة الأصنام، لإخراجهم من ظلمات الجهل بحقائق الوجود وخلق الكون والإنسان ومصيره، إلى نور العلم والمعرفة الإيمانية اليقينية، التي تعتمد على النظر والتدبر والتفكر في خلق السماوات والأرض، والتصديق  بما جاء به الوحي من أخبار وأحكام.

أهم صفة امتاز بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي حسن الخلق، حتى أن الله امتدحه في كتابه بقوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم الآية4، ما يدل على أن جوهر رسالة الإسلام، إصلاح الأخلاق العامة، وفي هذا يقول: (بُعثتُ لأتمّم مكَارمَ الأخلاق)، وحفز المسلمين على التحلي بالأخلاق الحسنة، قائلا: (إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً)، وقد استطاع أن يؤثر في الناس بالقدوة الحسنة، ويرسخ فيهم مكارم الأخلاق، باللين والرفق، والتبشير والتيسير.

لم يكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لينجح في تغيير السلوك المدني العام، دون أن يحدث ثورة عقدية وفكرية، خلخلت معتقدات وثنية راسخة في المجتمع الجاهلي، تدين للأصنام بالعبودية، لولا اعتماده على منهج الإقناع والتدرج والتراكمية، ولم يكن يعتمد على العنف والإكراه، ولذلك لاقت دعوته القبول بين بسطاء الناس ووجهائهم، وشبابهم وشيوخهم، ونسائهم ورجالهم، واستطاع أن يجعل من الانتماء للإسلام رابطة أوثق من روابط الرحم والعصبية..

إن ما تعيشه مجتمعاتنا العربية اليوم من حروب وصراعات، باسم الدفاع عن الإسلام أو باسم محاربة الإرهاب، ما هو إلا نتيجة للابتعاد عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، القائمة على قيم التعايش والحوار والتعارف بين الأمم والشعوب الأخرى، ونزع عوامل الفرقة والشقاق بين العرب والمسلمين، على أساس قيم المحبة والأخوة والتضامن والتعاون.

ما يموج به العالم العربي والإسلامي من تطرف عنيف، هو محصلة لانحراف عقائدي وفكري في فهم جوهر الرسالة المحمدية، القائمة على مبدأ الدفع والتدافع بالتي هي أحسن، حتى مع الأعداء، كما جاء في الآية الكريمة: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، إِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) سورة فُصّلت الآية 34.

وإذا كان التطرف العنيف ما هو إلا نتيجة انحراف فكري، أساسه الجهل بالهدي النبوي، فإن أي مواجهة له، يجب أن تعتمد على التعريف بحقيقة المنهج الرشيد لرسول الإسلام، محمد صلى الله عليه وسلم، لتنوير بيوتنا ومدارسنا وإعلامنا بسيرته العطرة.