من الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمحاصرة وباء كورونا إغلاق المساجد ومنع الجُمُعات والصلوات الجماعية بشكل عام، ورغم أن للغالبية العظمى من الناس موقفا من هيمنة الدولة على الشأن الديني فقد تقبل الجميع هذا الإجراء الصحي والوقائي من منطلق خطورة الوباء وسرعة انتقاله في الأجواء الجماعية الكثيفة،

بعد الرفع الجزئي للحجر والسماح للكثير من الأنشطة ذات الصبغة الجماعية بالعودة إلى مسارها العادي (المقاهي، المطاعم، الأسواق، الحمامات…..)، ارتفعت الأصوات مستنكرة ومطالبة بإعادة صلاة الجمعة انطلاقا من الوضع الفقهي لهذه الشعيرة كفرض أسبوعي على المؤمنين أن يقوموا به جماعة كل ظهر جمعة (وجوب صلاة الجمعة وفرضيتها منصوصة قرآنا في الآيات الأخيرة 9 و10و11 من سورة الجمعة) وانطلاقا أيضا من الدور التوجيهي والاجتماعي لها من خلال الخطبة التي يوجهها الإمام للمصلين من خلالها،

ولن أخوض في النقاش الفقهي والطبي بين الطرفين (الشعبي والرسمي) لكنني سأسلط الضوء على الأبعاد والغايات الجماعية والاجتماعية في الإسلام لهذه الشعائر، والتي أعتقد أن هناك خللا كبيرا على مستوى الوعي بها وتمثلها فهما وسلوكا،

الغايات الجماعية:

الإسلام بالأساس دين جماعي، فإن كانت المسؤولية العقائدية والمحاسبة الأخروية فردية في علاقة العبد بربه فإن العمل الإنجازي هو مسؤولية جماعية، فالخطاب القرآني في عمومه متجه للجماعات “ياأيها الناس” ” ياأيها الذين آمنوا” ” ياأيها الكافرون” ” ياأهل الكتاب” “ياقومي” “كنتم خير أمة” …إلخ،

وفي السيرة حَرَص النبي (ص) على بناء الجماعة المؤمنة من حين انطلاق رسالته في مراحله المكية، ثم ترسمت وتمأسست في المدينة بعد الهجرة، في بعديها، الشعائري الروحي في المسجد، وفي بعدها الاجتماعي حوله وانطلاقا منه، وهكذا وتاريخيا وتأسيا بهذه السنة النبوية الاجتماعية، وحيث ما كان هناك تجمع مسلم تتواجد معه هاتان المؤسستان (المسجد والجماعة) مترابطتين ومتفاعلين وتمثلان البعدين الروحي والاجتماعي على السواء،

هذا من الناحية المؤسساتية الهيكلية، أما من الناحية الثقافية والأخلاقية، فتحث نصوص الدين كلها قرآنا وحديثا على معاني الأخوة والتضامن والتراحم والتعامل بمنطق الجسد الواحد وأعضاءه، كما أن الفقه الإسلامي شرع للجماعة مفهوم فرض الكفاية الذي بموجبه يتوجب على أعضائها تنظيم أنفسهم وتقسيم العمل بينهم، بحيث لا تُترك المهام الجماعية للتهاون والإهمال،

الأبعاد الاجتماعية:

وفي الحقيقة فهذه المعاني التضامنية الجماعية تجد لها في المنظومة العقائدية والسلوكية الإسلامية أصولا بارزة، ودراسة استقرائية للنصوص قرآنا وسنة توضح بما لا يدع مجالا للشك أن الجوانب الإيمانية المجردة مرتبطة ارتباطا تفاعليا بالجوانب الاجتماعية الملموسة، لا إيمان من دون عمل أو جهاد أو هجرة، والصلاة أيضا كسلوك روحي إيماني، تأتي دائما مقترنة بسلوك اجتماعي مادي كالزكاة والصدقة والإنفاق، ونورد النصوص التالية كنماذج تؤكد هذا المنحى:

من القرآن،

“أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ” (سورة الماعون)

“الذين آمنوا وعملوا الصالحات” (آيات متكررة في القرآن الكريم)

” والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاَ ” (سورة الأنفال الآية 47)

“الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون” (سورة البقرة الآية 3)

“وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة“(آيات متكررة في القرآن الكريم)

من الأحاديث،

” ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ” رواه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالك

“لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه” رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك

” الصلاة نور، والصدقة برهان “رواه مسلم عن الحارث بن عاصم الأشعري

….. إلخ

خلاصة القول، إن الإسلام دين قائم على ارتباط الروحي بالاجتماعي، بحيث يمثل الروحي جوهره الإيماني، ويمثل الاجتماعي امتداده الإجرائي الدال على صدقيته، وهكذا فإن الشعائر التعبدية يجب ان تجد لها امتدادا في حيوات الناس وهمومهم وانشغالاتهم، بحيث يكون صلاح الأحوال على هذا المستوى، دليل صلاح العبادات وفاعليتها التربوية والتزكوية،

فما هو واقع الحال عندنا؟ هل لشعائرنا وجُمَعِنا وجماعاتنا أثر في واقعنا وتفاصيل سلوكياتنا؟ هل للمساجد مواصفاتها التي حددها لها الدين؟ وهل الدين أصلا هو الحاكم فيها أم شي آخر غيره؟

الواقع:

كل ممارستنا التعبدية توحي بأننا مغرقون في الطقوسية الفجة، صلاة طقوسية وجماعات طقوسية، وواقع حال جماعات مساجدنا يوحي أنها أجساد بدون روح، وقد لا أبالغ إن قلت أن أغلبية رواد المساجد لا تربطهم ببعضهم البعض إلا علاقات مجاملات سطحية، وأن أغلبهم ليس مطلعا على هموم ومشاكل بعضهم، وعلى رأسهم الأئمة الذين يعتبرون من أفقر الشرائح المجتمعية ، بأجور تبتدأ من الف درهم ولا تتعدى في اغلب الحيان الألفين درهم، بدون تغطية اجتماعية ولا صحية، مما يجعلهم يلجؤون لإحسان الناس والمكرمات والجنائز… وربما في كثير من الأحيان ممارسة المحذور كالشعوذة وغيرها،

فإذا كان المحور الرئيسي للمساجد وجماعاتها على هذه الحال فكيف بباقي أفراد الجماعة، وقد تحدث مآسي وكوارث في محيط المسجد القريب أو البعيد ولن تجد لها صدى في بيوت الله، طبعا هناك التضييق والحصار الذي تمارسه الجهات الرسمية على هذه المؤسسة، لكن بالأساس – في تقديري – بسبب غياب روح ومفهوم الجماعة الحقيقي عن روادها،

ونُذَكِّر ببعض المآسي الأخيرة في بلدنا والتي كان بالإمكان لجماعات حية بمفهومها الحقيقي أن تتجنبها، كاختطاف الأطفال (عدنان، نعيمة ….) من وسط الأحياء والقرى الآهلة بسكانها واقتراف أبشع الجرائم (اغتصاب ، قتل ،دفن…) بحقهم وسطها، ولا من تفطن ولا من رأى ، والمخدرات والسيوف والدعارة في محيط المساجد، والمشردون يبيتون في البرد في محيطها ولا يجدون طريقا لداخلها الدافئ برحمة الله، البارد بغياب قلب الجماعة الحقة الحية،

لست متفقا البتة مع المستنكرين لحب الناس لبيوت الله وتسارعهم لبنائها، ولست من المطالين بهجران المساجد وجمعاتها، كوني مؤمن بأن المساجد العامرة هي آخر قلاع الدفاع المجتمعي ضد التغرب والاستيلاب والانقلاع الثقافي، لكن إن بقي الحال على ما هو عليه فسيخبو (بفعل الإكراهات والاستهدافات) التفاف الناس حولها، فلا مساجد بدون جماعاتها الحية، والجماعات كما ذكرنا سابقة على المساجد، وقد رأيتم كيف استُهين بها في قضية رفع الحجر وجُعلت أقل وآخر المحرَّرين من الحصار والقيود،

وفي ختام هذا المقال أجزم أن عودة الحياة للجماعات هي الكفيلة بعودة المساجد لله ولعياله من الناس والمستضعفين، فأعيدوا جماعاتكم لتعود مساجدكم كما أرادها الله “وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا” صدق الله العظيم.