لأن التاريخ أبٌ لكل حقيقة، فهو ثرثار للغاية حين يحكي عن تجارب من صلبِه، حينَ أخرجت الأزماتُ الإنسان أقوى من ذي قبل. تكفي الإحالة مثلاً، ونحن في سياق الحديث عن الأوبئة، على الطاعون الأسود الذي اجتاح أوروبا منتصف القرن الرابع عشر، وحصد أرواح 25 مليون إنسان بداخلها، أي ما يتراوح بين ثلث ونصف سكان القارة آنذاك. يُجمِع الباحثون على أن المأساة تلك ساهمت ولعبت دوراً حاسماً في النهضة الأوروبية ما بين القرنين 14 و16.

على ضوء هذا المعطى، أعتقد أن علينا الشروع منذ الآن في التفكير بجدية في مغرب ما بعد أزمة كورونا، لاسيما أن الوباء المذكور سيغيِّرُ جلد العالم بأسره كما يؤكد الخبراء، وخصوصاً أن شعبنا يجتاز اليوم أعسر امتحان يهدد وجودنا برمته، ولا نعلم بأي كلفة سنجتازه، والتي قد تصل حد استئصالنا من الوجود.. ليس بسبب الوباء فحسب، بل بسبب عوامل ذاتية فينا قبل تلك الموضوعية.

إن ما حدث في مدينتي طنجة وفاس وبعض المدن الأخرى، لا ينبغي السماحُ له بالمرور كما يمر الكرام، فقد كنا أمام لحظة فاصلة، أمام مشهدٍ صادم لما يمكن أن ينتج عن خلطة الدين بالجهل من أضرار، ومدى سُميَّتِها وفتكها وقدراتها التدميرية. ومن غير المسموح لنا أمام ما يهددنا من خطر اليوم، أن ندفن رؤوسنا في التراب كما دأبنا في الحالات الاعتيادية، ونتهرب من مواجهة حقيقتنا بتبريراتٍ واهية من قبيل: “أولئك لا يمثلون إلا أنفسهم”، “حالات شاذة وأقلية قليلة”، “لا يمثلون الإسلام…”، فقد آن الأوان كي لا نمضغ كلماتنا جيداً كما يقول الفرنسيون، ونصرح دونما لغة خشب: “لقد تحوَّلَ المغرب إلى مصنعٍ للأوبئة الفكرية، ومارستانٍ للعاهات الإنسانية”.

بدل التبرؤ منهم فحسب، لنحاول فهم التركيبة الذهنية لتلك الجحافل التي خرجت في تجمعات تتحدى الدولة وقراراتها، وتهدد أمن وبقاء شعب بأسره أمام وباء فتَّاك. تردد شعارات دينية جوفاء ينبغي أيضاً إخضاعها للتشريح. فهم أشخاصٌ لو سئلوا عن فهمهم لطبيعة فايروس كورونا المستجد، لوجدناهم يتصورونه في لا وعيهم شيطاناً من “شياطين الجن”، أو نفراً من “يأجوج ومأجوج”، أو أي من تلك المخلوقات التراثية والميثولوجية، التي يكفي التضرع إلى الله وتكبيره وتوحيده، كي يحفظنا وينجينا من “البلاء” الذي تمثله. باعتبار أنه الله “الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء”… فلا خوف إذن من الفايروس ضمن تجمعٍ يذكر فيه اسم الله.

هذا التصور الذي يضع الخالق عز وجل في مرتبة “”Gamer بلغة ألعاب الفيديو، يحمل بين كفيه بضجرٍ جهاز التحكم عن بعد في أحداث الكون، وينتظر من البشر (رشوة) على شكل دعاء، كي يُغير أقدارهم ولو على نحو لا منطقي يتحدى سلطان العلم، هذا الأخير الذي تصبح مبادئه بلا قيمة أمام “رحمة الله وأهوائه”.. هو تصورٌ شائعٌ جداً في مجتمعنا المغربي وباقي المجتمعات الإسلامية بشكل عام،  وليسَ معزولاً أو نتيجة لاهوت شاذ لدى أقلية قليلة من المجتمع كما يحاول البعض تصويره. بل هو نوع من “الجهل المقدس”، الذي يجثو كالكابوس على الضمير الجمعي لشعبنا ويؤطره، له أسبابه وعوامله التي تنبغي مناقشتها بل التصدي لها قبل فوات الأوان. فإذا أفلتنا من الانقراض بسبب جهلنا أمام جائحة كورونا، فقد لا ننجو من امتحانات أخرى أعسر إذا واجهناها بالسقف الفكري المحدود ذاته…

إذن هي كما أسلفت الذكر خلطة وبائية مقاديرها الدين والجهل، أي أنَّ علينا مساءلة المؤسسات التي تسهر على تدبير الشأنين الديني والتعليمي في البلاد. وعلى ذكر الشأن المؤسساتي، فنحنُ نعيش في ظل دولة تُسيِّسُ الدين على أعلى المستويات. يكفي أن الدستور المغربي يقول بصريح العبارة إن “المغرب دولة إسلامية”، ومن هنا تنطلق كل الأوبئة الاجتماعية والسياسية. فهذه العبارة الدستورية البسيطة التي يقرأها الكثيرون بفخر واعتزاز، تعني فيما تعنيه أن المغرب كيانٌ يستمد شرعيته الوجودية من الدين، وأن الدولة لا تحيى دون توظيف خطابٍ ديني مُحافظ، للحفاظ على وحدة وتماسك الشعب والدولة. وبالتالي، فإن هذا الخطاب الديني الذي يمثل عصَب دولتنا، ينسحب على عددٍ من مظاهر حياتنا المدنية، فهو حاضر داخل الأسرة وفي التعليم ووسائل الإعلام ولدى بعض الجهات والأحزاب السياسية، بل حتى الجمعيات الخيرية.. وهذه المؤسسات يسميها الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير بـ”الأجهزة الإديولوجية للدولة”، التي تُخضِعُ بواسطتها المواطنين للنمط الفكري الذي يضمن استمرارها واستمرار علاقات الإنتاج داخلها.

لا توجد دولة في العالم بدون أجهزة إيديولوجية، وبلا إيديولوجية أساساً، ولكن النماذج الناجحة على مستوى دول العالم، يقتصر فيها الخطاب الديني على المؤسسة الدينية فحسب (المسجد في الحالة المغربية). بينما تحظى بقية أجهزتها من مدرسة وإعلام وغير ذلك بنوع من الحياد على المستوى الديني. وبالتالي، يُمكن القول إن ما يميز الحالة المغربية عن الحالات الناجحة، هو تعرض المغاربة لجرعات تديُّن زائدة وغير طبيعية. وهذه الجرعة الدينية الزائدة، يقابلها بالضرورة نقصٌ في الجرعات العِلمية والفلسفية والإنسانية المطلوبة لبناء إنسانٍ عاقلٍ، لا يقترف جرائم كالتي حدثت في طنجة وفاس. وهذا بيت القصيد، فالدول الناجحة تستغل أجهزتها الإديولوجية لتمرير جرعات علمية وفلسفية وإنسانية…، قصد بناء مواطنٍ إنسان يُعتمد عليه في مثل هذه الأزمات على الأقل.

وكي لا أطيل، فمن بيدهم مقاليد هذه المؤسسات أو الأجهزة الإيديولوجية أو سموها بما شئتم مغربياً، مطالبون باتخاذ إجراءات جريئة في هذا الاتجاه، والاقتداء بتجارب الدول الناجحة، والدخول بشكل مباشر ودون مواربة ولا مراوغات إلى نظام الدولة العلمانية، التي تضع الدين في مكانه المناسب، أي المعبد، وتبقيه رهن تصرف معتنقيه الأوفياء، الراغبين في ممارسة طقوسهم ببراءة وحب، وتحميه في المقابل من الدجالين والمشعوذين وتجار الخرافة الذين يستغلون تعلق الناس بدينهم ومحبتهم لخالقهم، لتحويلهم إلى قطيع يسهل اقتياده للمذبح كما حدث أول أمس. ومن ذلك علمنة نظامنا التعليمي بالأخص، وجعله يضطلع بدوره في تبيين حدود الدين من حدود العلم، ومتى ينبغي اللجوء للدعاء، ومتى نحتكم لسلطان العلم والعقل بلا هوادة، لأن الله مثل القانون.. لا يحمي المغفلين.

ما أرجوه أن تكون لجنة النموذج التنموي تتابع معنا تطورات الأوضاع بعين القلق الوجودي نفسه، وبكثير من الملاحظة والتحليل والنقد، وأن يكون فايروس كورونا مُحركاً لخطوات جريئة صوب إعادة النظر في شكل ومحتوى أجهزة الدولة الإيديولوجية.