لقد بات تفكير معظم الشباب المغاربة منصب على الهجرة ومغادرة الوطن، ومن أجل ذلك يخاطرون بكل الممكنات، فتراهم يتسابقون لركوب قوارب الموت، دون التفكير في العواقب التي قد تؤذي بحياتهم، بل إن كل ما يهمهم عندما يقررون هذا الأمر هو أن يجدوا أنفسهم هناك في المهجر أو بلاد الغربة كما يصفونه، ولعلهم يحلمون بالاغتراب ونسيان وطن يدفعهم إلى اختبار الموت حتى في آخر المحطات، إذ لا يمل هذا الوطن من تخريب حياتهم بكل ما ملك من فوضى، والآن بعد أن تم فسح المجال أمامهم للمغادرة لأسباب مجهولة، لم تراعي لظروفهم وما ينتظرهم، بل كل ما في الأمر أنها تغاضت عن مراقبتهم، ولأن الأسباب التي جعلت الدولة المغربية لا تهتم بهذا الشأن تبقى مجهولة، فلقد بتنا نشاهد أفواجا من الشباب يركبون قوارب الموت من أجل الوصول للضفة الأخرى، هذا إن نجوا من الموت، ولعل الموت قد يكون أفضل لهم من تلك الظروف التي كانت تحيط بهم، وبذلك يمكن أن نعتبر أن ما يقومون به بمثابة مغامرة من أجل الحياة أو على الأقل الموت من أجل محاولة فعل ذلك، فإذا ماتوا فذلك لن يغير شيئا مما كانوا عليه، أما إذا نجحت مغامرتهم تلك فيمكن للظروف أن تساعدهم على تغيير أوضاعهم.

هذه الأوضاع التي باتت حديث لسان كل مغربي تؤكد على أن السيل قد بلغ الزبى في أوساط الشباب المغرب، وأن الصبر قد نفذ، ولم يعد هناك مجال للمزيد من الانتظار، إذ بمجرد ما فسحت الظروف أبوابها أمام هؤلاء الشباب لأسباب مجهولة، حاول هؤلاء الشباب استغلال هذه الفرصة لمغادرة هذا الوطن، نحو بلدان، ينظرون إليها كالجنة الموعودة، ولعل هذا الأمر طالما راودهم، ومن أجله يحاولون اصطياد الفرص التي يمكن أن تغير من ظروفهم نحو الأحسن، ورغم أن مستقبلهم مجهول في ظل هذه المغامرة، إلا أن كل ما يشغل بالهم هو الخروج من وطن لم يعودوا ينتمون إليه إلا بالجنسية، هذا الوطن فقدوا فيه الثقة في ظل الظروف المزرية التي يتخبطون فيها يوما بعد يوم.

إن ما نشاهده اليوم في مغربنا الحزين من فيديوهات لشباب يركبون قوارب الموت في اتجاه مجهول، ونحو مستقبل مجهول، يؤكد على أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة، إلى نقطة يجب النظر إليها بجدية، هذه النقطة هي التي ستجعل الكأس تفيض أكثر مما هي فائضة، لأن مثل هذه الأمور يندب لها الجبين، فلو وجد هؤلاء الشباب ضالتهم في موطنهم لما قرروا مغادرته هكذا، لكن الحق أنهم سئموا من الظروف القاسية ومن الأوضاع المزرية، وقررا خوض تجربة الموت، لعلها تغير مجرى حياتهم نحو حياة جديدة في موطن جديد وبعقلية جديدة.

لعل مسألة الهجرة بطريقة غير شرعية لم تعد جديدة على المغرب، لأنها كانت ولا زالت، وفي كل مرة تختلف الظروف والطرق التي تؤدي إليها، وفي كل مرة نسمع بموجة خاصة بالهجرة، إذ أنه قبل أن نلاحظ هذه الهجرة بكثافة اليوم، كانت هناك موجة بطريقة مختلفة، وهي الموجة التي تم فيها استغلال الجنسية السورية، فادعى الشباب المغاربة الذين اختاروا هذا النوع من الهجرة أنهم لاجئون سوريون، وذلك من أجل أن يتمكنوا من الوصول إلى تلك الأرض السعيدة، وبالفعل نجح العديد منهم في الالتحاق بالغربة، بعد المرور من تركيا ثم اليونان وصولا إلى ألمانيا، كما أن منهم أيضا من لم تحالفه الظروف ولقي حتفه، وهناك أيضا من تمت إعادته، هذا النوع الآخير ستزداد نفسيته هشاشة بفعل فشله في اختبار تجربة الحياة، ولأنه اقترب من النجاة، وأعادته الظروف إلى سابق عهده، فحتما سيكون سجين الإحباط، ولما وصلت المسائل إلى هذا الحد من التعقد، فذلك يؤكد على أننا نعيش أزمة وطن.

هذه الأزمة الإنسانية التي يعيشها المغرب تزداد بشاعة يوما بعد يوم، لتعطي صورة مريضة عن مغرب يعتقده الكثيرون من أجمل البلدان في العالم، بسبب تضاريسه وطقسه الجميل، لكن الجمال الذي يفترض أن يكون معيارا هو جمال الإنسان، ولما كان هذا الإنسان غائبا  أو بالأحرى مريضا، فلا مجال للحديث حول وطن يصبح فيه عنوان حياة البشر هو البؤس، ومن منا يمكن أن يشك في أن معظم المغاربة بؤساء رغم ما يظهرون، ورغم ما يتوهمون، البؤس هو واقعنا، ولا نملك إلا أن نتقبل حقيقتنا هاته، ولا مجال لننافق أنفسنا ونفتخر بوطن لا يعرف فيه المواطن البسيط أبسط شروط الحياة، وكل ما نلاحظه من رغبة جامحة في الهجرة بكل الممكنات هو دليل قوي يثبث أن هؤلاء البؤساء لم يعد بوسعهم أن يتحملوا أكثر.

يبدو أن الدولة المغربية لا تكترث بثاثا لما وصلت إليه الظروف في هذا الوطن، ولا تكترث لحال هؤلاء الشباب الذين يغامرون بحياتهم من أجل حياتهم، ولا تفعل حيالهم إلا دفعهم إلى المزيد من البؤس، أما أن تحاول أن توفر لهم حياة كريمة مقبولة على مستوى التشغيل والصحة والتعليم والخدمات، فذلك أمر فشلت فيه كل المخططات، لأن الأزمة تعمقت أكثر، فباتت الحلول غير صالحة في ظل ما وصلت إليه الظروف، وهكذا يمكن أن نجزم بأن هؤلاء الشباب لن يفتخروا بهذا الوطن مهما ادعوا العكس، أما عندما سيغاذرونه وذلك هو حلمهم، فإنهم قد يتنازلون عنه إلى الأبد.