الترحيب على الطريقة المخزنية !
في سنة 2014 قام البابا فرنسيس بخطاب أمام البرلمان الأوربي في مرحلة حرجة تمر منها الإنسانية، وهي مرحلة تشهد عدة حروب تنكيلية وتشريدية، ويعتبر هذا الخطاب بمثابة خارطة طريق للعالم، وبما أن خطاب بابا الفاتيكان هو خطاب إنجازي، له سلطة، يستمدها من مكانته الرمزية والتاريخية في العالم المسيحي. فلابد لجميع المحللين أن يتوقفوا عند بنيته المفاهيمية، لأن هذه الأخيرة هي الكاشف الأكبر لذهنية صاحبها؛ إذ يمكنني أن أصنفك بالتقليدي من خلال مفاهيمك والعكس صحيح… وما نريد التركيز عليه هنا بأن أهم ما ورد في خطابا البابا مفهوم «الشخص» (La personne). ففي عالم أكثر تعقيدًا وأكثر حركيَّة وأكثر تواصلًا بين شعوبه يبدو مفهوم «الشخص»، بحسب سيّد الفاتيكان، طرحًا قابلًا لأنْ يُؤخذ في الاعتبار كأساس لمدرسة فكريَّة تشكّل بوصلة لعالم اليوم ومستقبله. والشخص في نظر بابا الفاتيكان هو التجسيد الحقيقي «للإيمان بالإنسان»، ليس كمستهلك في سوق اقتصادية ضخمة، ولا كرقم بلغة الانتخابات والإحصاءات بل كيانا نفسيا متميزا، مريدا، واعيا، ومبدع دائم لشخصيته. إن الشخص حسب هذا التصور لا يمكن أن يعامل بوصفه موضوعا قابلا للفحص والتفسير والتعريف، لكونه ذات وتجربة غنية، وثروة لانهائية، ونشاط معيش … وهذا التصور الذي ورد في خطاب بابا الفاتيكان هو تصور يمتح دلالته ومعناه من تيار فلسفي أصيل في الفلسفة المعاصرة وهو تيار الفلسفة الشخصانية، وهي نظرية أخلاقية واجتماعية مؤسسة على القيمة المطلقة للشخص، وبهذا المعنى فهي نزعة إنسانية، تضع الإنسان في صميم اهتمامها.
آراء أخرى
يقول مؤسس الفلسفة الشخصانية الفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونييه، إن فضاء الشخص هو فضاء الإنسان، حيث تريد الشخصانية أن تقدم نفسها كخلاص للإنسان، من خلال الكشف عنه كشخص يختص بالخلق الذاتي وبالغنى الروحي الداخلي غير القابل للاستنفاد، كما يختص بالقدرة على الحوار والاندماج.
الكرامة الشخصية هي أول وأهمُ مجال مِن المجالات الشخصانية، والتي تشيرُ بشكل مباشر إلى تأكيد ضرورةِ احترام كرامة الشخص بصفته الإنسانية، وتوفير كافّة الحقوق التي تسهم في المحافظة على إنسانيته في كافة الظروف، والأحوال التي يوجد فيها، ويؤكد هذا المجال على أنّ الكرامةَ الشخصية لا تنفصل عن السلوك الأخلاقي، والمرتبط باحترامِ الأفراد لبعضهم بعضا داخل المجتمع.
إذا كان هذا هو الجهاز المفاهيمي الذي يمتح منه بابا الفاتيكان رؤيته للعالم، فهل ما استقبلناهُ به، يمكن أن يشعره بعمق حضارتنا وجمالها وقيمها النبيلة؟ أعتقد بأن هذا المطلب لن يتحقق في المناظر التي رصدناها في تغطيتنا الإعلامية؛ فإذا كان «المخزن» يرى بأن الاستقبال هو استقدام أشخاص من أمكنة بعيدة أو قريبة، وأغلبهم من الفئات المهمشة والمفقرة، لتصفق وتهتف وتبارك، دون أن تدرك حيثيات مجيئها أو بمن ولمن تصفق، فهذا تعامل خارج الجهاز المفاهيمي للفلسفة الشخصانية والقيم الإنسانية الحديثة التي تقدس الشخص ومشاعره وإنسانيته… بل هذا استقبال تقليدي لا يندرج ضمن سياق الجمال والرقي والعقل الحديث.
وهذا يبرز لنا بأن من يقرر في تفاصيلنا لا يدرك تاريخ المفاهيم والأفكار والقيم، وبالتالي يظل رهين نظرته المحدودة للأشياء، وهي بالضرورة نظرة تؤثر على مستقبل الوطن ومواطنيه، لهذا نؤكد بأنه يجب على الدولة أن نتواصل مع العالم بلغته وبقيمه لا بقيها، مع ضرورة احرام قيمنا وتطويرها. كيف لنا أن نقنع الأمريكي على سبيل المثال لا الحصر، بلغة العاطفة والتاريخ دون أن تلم إلماما شاملا بالفلسفة الرغماتية الأمريكية التي يعد العمل أو المصلحة جوهرها الناظم …
وحاصل القول، ربما آن الأوان للدولة أن تغير بنيتها المفاهيمية التقليدية التي تجعل عملها وفعلها يؤطر جميع التصرفات والقرارات والإجراءات في مختلف القطاعات، داخل إطار عتيق يتسم بالسلطوية والتعامل مع الناس كرعايا لا مواطنين، وإن كنا نعلم بأن هذا الانتقال ليس اختيارا للإرادات أفراد، بل هو حتمية تاريخية لتطور الشعوب، إلا إذا ترجمنا هذه القيم في مناهجنا التربوية واختصرنا مسار التاريخ؛ وكيف يمكن لنا أن نأمل هذا الحلم الجميل والوطني، في ظل سياسة الحط من كرامة الأستاذ والمدرسة التي وصلت السقف في الاستهداف ؟ !
