في دلالات وأبعاد التعاقد" المشؤوم"
يقول الدكتور حميد اتباتو: «ثقافة المسؤولية والاعتراف ورثنا إياها الواقع»، ويضيف الشاعر كمال كمال: «وحدهم من يعطون من قلوبهم، من يبقون في ذاكرة الشعوب».
آراء أخرى
لا غرو أن ما يعتمل في المجتمع المغربي اليوم من تضاربات، وتطاحنات عمودية، وأفقية ينذر بالسوء، وضبابية المآلات التي لن تكون إلا سوداء تعمق الأزمة، وتفرخ ما لا نهاية من البؤس الاجتماعي. إن المتأمل بعين الناقد لن يحيد عما سبق ذكره، ولن يختلف طبعا سوى مبنى الصياغة اللغوية، والقوالب التعبيرية، فالمقام إذا يستدعي جردا موضوعيا بمقاربة سوسيو- ثقافية، تجد لها امتدادات في حقول أخرى.
في محاولتي المتواضعة، سأركز على حقل التربية والتعليم، باعتباره عصب، ومدخل كل الرهانات المنشودة، فإذا كان المغرب يراهن في اقتصاده على التصنيع، حيث جندت لهذا الغرض ملايير الدراهم لصياغة مخططات تعليمية تلو الأخرى، غرضها تكوين جيل_رأسمال بشري_ قادر على خلق الثروة، حسب ما ورد في المنهاج التربوي، وهو ما تؤكده الرؤية الاستراتيجية في الفصل الثالث منها المعنون ب ‹من أجل الارتقاء بالفرد والمجتمع› حيث تضمن الفصل مايلي: «ملاءمة التعلمات والتكوينات مع حاجة البلاد ومهن المستقبل..تعزيز موقع المغرب ضمن البلدان الصاعدة..الانخراط الفاعل في مجتمع واقتصاد المعرفة…».
ناهيكم عن التدابير ذات الأولوية التي تضمنت مجموعة من التدابير القمينة بالعبور بمنظومتنا التربوية إلى ضفة النجاة، وهو ما يتعزز بالمحاور التالية المضمنة بهذه التدابير:
• المحور الثالث: دمج التعليم العام والتكوين المهني وتثمين التكوين المهني.
• المحور التاسع: التكوين المهني:
فالكلمة الفيصل إذا ملخصة في الاستثمار في البشر، حيث تضمن المحور الثامن من التدابير ذات الأولوية «تخليق المدرسة». فكل الإشارات شعارات، براقة تغني عن التشاؤم وتدعو إلى الإكثار من التفاؤل في مستقبل منير مشع يضمن الإنصاف، وتكافؤ الفرص والجودة للجميع، والارتقاء بالفرد والمجتمع، وريادة ناجعة للتغيير.
نأتي الآن على ذكر الواقع في سرد موضوعي للكائن، فالحكومة التي راهن المغاربة على صدق شعاراتها الرنانة، إبان مرحلة انسداد الأفق، وبروز الدعوة الملحة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، للقطع مع ما سمي بنضوب السياسات العمومية من أي بديل حقيقي يؤسس لمشروع مجتمعي يساير تطورات العصر.
جاء أول رئيس حكومة في تاريخ البلاد ‹عبد الإله بنكيران› بصلاحيات دستورية تشرعن له أن ينزل وعوده بمرونة أكبر. لكن ومع كامل الأسى، والأسف، استهل السيد مشواره في مسؤولية البلاد، بالانشغال أكثر بمعارك الانتقام والتأديب والزحف على المكتسبات التاريخية التي لم تتجرأ أية حكومة منذ 1956 على المساس بها. ألهب أسعار المحروقات، وقال في أحد الحوارات التلفزية «خص المواطن يخلص شوية» «المغاربة مافاهمينش» ، مستنجدا بقاموس ينهل من حقل الحيوان (التماسيح) والغيبيات (الجن والعفاريت). و أصدر صيف 2015 مرسوما فصل فيه التكوين عن التوظيف في توجه أعمى بيروقراطي لخوصصة قطاع التعليم دون مراعاة شروط المغاربة، وإمكانية تسجيل أبنائهم في تعليم خصوصي سوقي ربحي لا فيه من الجودة إلا الاسم (جله).
صرخ الأحرار والحرائر صرخة هامش، صرخة، وجودية تنشد كسرة خبز وكرامة، مدافعة عن مدرسة عمومية تموت بالتقسيط، فكان الرد قاسيا بتكسير الجماجم، حيث سالت دماء المحتجين في شوارع المدن وأزقتها، إلى أن فرضت جماهير الأساتذة والأستاذات خيار الإنصاف، وهو إلغاء مرسوم الخزي ذاك.
واصل عنترة البيجدي حماساته القروسطية، فأصدر من جديد وفي ظرف وجيز، ووسط جنح الظلام، مقررا مشتركا مع وزير المالية ضرب أبناء الهامش ضربة قاسمة للظهر، مقررا جعلنا نتيه في سراديب «الحكرة واللاعدالة اجتماعية»، جعلنا نفكر بلا توقف في «مسخ وجودي» كما أسميه إنه شبح «التعاقد»، ويا للهول من هذا الشبح.
ولأنه في الليلة الظلماء يفتقد البدر، كان العكس تماما حيث خلق جيل جديد من المحتجين بتعبير الباحث في العلوم السياسية عمر الشرقاوي. جيل رفع شعارا واحدا عريضا قويا، ومدويا مؤداه الموت ولا المذلة، فغدا هذا الشعار لازمة تتردد في وعينا ولا وعينا، في فنجان القهوة وفي زجاجة الكولا في الباصات وعربات الخبز، وفي كل بقعة ورقعة. فتأسست التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد كرد فعل حتمي وطبيعي على «التعاقد المشؤوم». استمرت مرحلة رص الصفوف ما يقارب الشهرين، لتنتفض شريحة البسطاء من الناس في وجه القهر المطبق من على، وذلك يوم 6 ماي، وتبين من خلال جمهور المقاومين أن براقش جنت على نفسها، وأنها تسعى إلى خلخلة توازن الوطن الجريح بقرارات لا وطنية لا ديمقراطية لا شعبية، تريد أن تزج بالمواطنين كاملي الصفة في غياهب القرون الوسطى، بإحياء وبعث مفاهيم من قبيل الأقنان، وأعمال السخرة، بعيدا عن الأصل الذي هو التدبير التشاركي لقطاع غاية في الأهمية، والحساسية كقطاع التربية والتعليم.
مرت الأيام ونضج الفعل الجماعي ضدا على «التعاقد»، بتنظيم مسيرات مدوية، وإضرابات تنذر بتسويد وجه كل من سولت له نفسه أن يتجرأ على أبناء البسطاء والصادقين من الناس، فكان أول الضحايا هو رئيس الحكومة سيء الذكر الذي غدا يرافق الجموع في الجنائز وفقط، بعده يصدر «نظام أساسي خاص بأطر الأكاديمية»، رفض طولا وعرضا من طرف كل أطياف المجتمع من مؤسسات الوساطة والهيئات الحقوقية… والمقاومين على الخط، لن يحيدوا في خط تصاعدي وخطى تصعيدية، ترهب تزعزع السواكن حتى رفع قهر الانمحاق الذي أطبق عليهم.
وفي الختام كنا هنا، ولازلنا مجندين برعاية الله وتضامن الجميع، وصلابة عزيمة الأستاذ والأستاذة حتى النصر المبين، عاشت التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد صامدة ومناضلة.
