لا شك أن كل واحد منا، وقد مر في مسيرته التعلمية أساتذة ناجحون تركوا بصماتهم المميزة على شخصيته، ويشهد بتأثيرهم العميق في نفسه، وتأثره بهم في بعض المجالات من حياته. فكم من طالب علم نبغ وتفوق نتيجة كلمة (أو كلمات) تشجيعية من أستاذه، سمعها واستقرت في نفسه وتلقاها فؤاده بالقبول، وأصبحت دافعا للمزيد من التحصيل والاستزادة من العلم.

    وعلى العكس يذكر كل واحد منا، أساتذة فاشلون تركوا أسوأ الذكريات في حياته، ولا يحب حتى أن تُنطق أسماؤهم على مسامعه؛ لأن هذا الصنف هو مدعاة لجميع أنواع الفشل والفتور والعقد النفسية.

    فما هو السر في نجاح الصنف الأول، وفشل الصنف الآخر في أداء الرسالة نفسها؟

الأسباب التي تدفع المتعلم إلى حب معلمه:

    طبعا لا يملك الأستاذ وصفة سحرية تجعله ناجحا مائة في المائة؛ إذ إننا لا نستطيع إحصاء جميع الأسباب التي تقود للنجاح في عملية التدريس؛ إلا أنه يمكن مقاربة سر نجاح الصنف الأول عبر ذكر بعض الأسباب أو أهمها كما يلي:

– فهذا الصنف يعتبر عمله عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، قبل أن يكون عملا معتادا روتينيا، أو مهنة هي باب من أبواب الرزق، فهم رساليّون لا خبزيّون.

– حب المهنة هو الذي يدفع الأستاذ إلى التفنّن في أساليبه التربوية، بصورة تستحوذ على قلوب المتعلمين؛ لأنه بهذا الحب يمكن أن يصل لدرجة الإنتاج والإبداع.

– طبيعة معاملة الأستاذ مع متعلميه ( طيبة / سيئة)، تترك أثرا إيجابيا أو سلبيا في نفسية المتعلم.

– حب الأستاذ لمتعلميه؛ حيث إن علاقته معهم لا تقف عند أبواب الفصول الدراسية، وإنما تتجاوز ذلك لتكون علاقة أبوية، مِلؤُها الرحمة والنصح والإخلاص، والحرص على النفع ودفع الضرر ما أمكن، فإنه يحدث أن تجد من التلاميذ من يتأثر بمدرِّسه مثل تأثره بأبيه أو أكثر؛ لأنه قد يجد في المدرِّس ما لا يجده عند الأب.

– هذا الصنف لا يظلم متعلما، ولا يسبه ولا يقذفه ولا يضربه؛ لأن العلاقة بينهما مبنيّة على الاحترام والتقدير المتبادل…

    إن تفعيلك أيها الأستاذ للأسباب التي تم ذكرها، كلها أو بعضها؛ سيجعلك حتما ضمن الصنف الأول الذي يترك الأثر الإيجابي في نفوس متعلميه، وتنال حبهم وتقديرهم مدى الحياة.

شهادة من الواقع:

   وإليك شهادة من الواقع التربوي المعيش، وهي وضعية حقيقية، وقعتْ أحداثها خلال الموسم الدراسي السالف (2016/2017) بإحدى الفرعيات المدرسية، التابعة للمديرية الإقليمية، تازة. وبمجرد أن علمتُ بمُجرياتها، قررتُ أن أكتب في هذا الموضوع؛ لأنه قلّما نُواجِه مثل هذه الوضعيات في واقعنا التعليمي.

    ” حكى لي أحد الزملاء، وهو أستاذ التعليم الابتدائي بإحدى المجموعات المدرسية التابعة للمديرية الإقليمية تازة؛ أنه خلال قيام إحدى الجمعيات بتوزيع بعض المساعدات العينية على تلامذة الفرعية التي كان يعمل، تقدم رئيس هذه الجمعية إلى زمرة من المتعلمين في ساحة المدرسة سائلا إياهم: هل أنتم سعداء؟ وإذا كانت هناك من أشياء أخرى تنقصكم، لا تترددوا في طلبها منا؟ أتدرون ماذا كان جوابهم؟ لم يطلبوا ملابس، ولا أغطية، ولا أغذية، ولا أدوات مدرسية… لقد قالوا له: إننا نريد أن تعيدوا إلينا أستاذنا؛ لأننا نحبه. تفاجأ السائل، وتفاجأ المدير الإقليمي الذي كان حاضرا، إذ لم يسبق لهم أن واجهوا مثل هذه الوضعية، التي جعلت السرور يدب في نفوسهم. وعلى جناح السرعة وعَدوا المتعلمين بالنظر في طلبهم هذا، وشرَحوا لهم الظروف التي تجعل الأستاذ ينتقل من مدرسة لأخرى، ووعدوهم بالاتصال بأستاذهم المحبوب، من أجل الحضور إليهم في ما يُستقبل من الأيام؛ للتحدث معهم في هذا الشأن، فهو صاحب القرار أولا وأخيرا.

    اتصل المدير الإقليمي بزميلي، وأثنى عليه وشكره على الأثر الإيجابي الذي تركه في نفوس متعلميه، بل وفاجأه بإرسال شهادة تقديرية تحمل توقيعه. كما طلب منه أن يزور أولئك التلاميذ؛ لكي يشرح لهم ظروف انتقاله والإكراهات التي دفعته لذلك.

    وبالفعل، انتقل الأستاذ المحبوب إلى أحبّته، والتقى معهم وطيب خاطرهم، وشرح لهم ظروفه ووضعيته التي حتّمت عليه الابتعاد عنهم، قبل أن يفارقهم والكل يجهش بالبكاء…”

    إن هذه الوضعية الواقعية تجعلنا نطرح عدة أسئلة من قبيل: لماذافضّلهؤلاءالتلاميذعودةأستاذهمإليهم،علىكلماسواهمماهوماديصِرف؟وماهيالأسبابالتيتجعلالمتعلميحبأستاذهأويكرهه؟وهليمكنأنيكونحبالأستاذطريقالحبالمادةالمُدرَّسةوالإقبالعليها؟

    لا شك أن صاحبنا قد أدرك معنى زرع الحب في نفوس متعلميه، وأن إذكاء الرغبة في التعلم في نفوسهم، يمر عبر الحب المتبادل بين الطرفيْن، وإذن لن نتردد في كونه من الصنف الأول المتحدث عنه آنفا.

نظـرة الفكـر التربـوي الإسلامـي لهـذه العلاقـة:

    عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك“، فقال له عمر: فإنه الآن والله، لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الآن يا عمر“(1)، على ألا يُفهم من ذلك أني أدعو لحب الأستاذ أكثر من أنفسنا؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كسائر المحبة لأي شخص آخر؛ فإن محبته عبادة نعبُد بها الله عز وجل وقربة نتقرب بها إليه، ودليل ذلك قوله تعالى: ” النبي أولى بالمومنين من أنفسهم“(الأحزاب، الأية 6).

    فمحبة النبي واجب على كل مسلم، وهي من صميم الإيمان، ولابد لهذا الحب أن يكون أقوى من أي حب ولو كان حب المرء لنفسه. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.”(2)

   ولكن لا مانع من التأسِّي بأسلوب النبي في تربية وتعليم صحابته. هذا الأسلوب الذي كان قِوامه الحب والموعظة الحسنة، والمقصد العام منه هو جلب المصلحة ودرء المفسدة؛ بل إننا في أمسّ الحاجة لهذا التأسي؛ لنتعلم منه كيف علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحب، وكيف قدم لهم الحب قبل أن يعلمهم، فأقبلوا على العلم بروح نهِمة ورغبة قوية، فتعلموا دينهم وتفقهوا فيه، وأبدعوا في حمل العلم وتعليمه.

    أما الفكرالتربوي الإسلامي، ومن خلال أعْلامه، فقد حثّ على أهمية الحب المتبادل بين المعلم والمتعلم، ودوره الكبير في إذكاء الرغبة في التعلم في نفوس طلبة العلم. فهذا الغزالي رحمه الله جعل الوظيفة الأولى من وظائف المرشد المعلم: ” الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بَنِيه“، مستدلا على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” إنما أنا لكم مثل الوالد لولده“(3).

وكذلك نجد الماوردي يذكر من آداب المعلمين: ” ألا يعنّفوا متعلما ولا يحقّروا ناشئا ولا يستصغروا مُبتدئا؛ فإن ذلك أدْعى إليهم وأعطفُ عليهم وأحثّ على الرغبة فيما لديهم.”، ومما ذَكَر أيضا ضمن شروط التعلم:” الظفر بعالم سَمْحٍ، مُتَأَنٍّ في تعليمه“(4)

   وابن خلدون بدوره، خص الفصل 40 من مقدمته بهذا العنوان: ” في أن الشدة على المتعلمين مضرّة بهم“(5)  . والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الشأن من داخل الفكر التربوي الإسلامي، وكلها تدعو إلى ضرورة الرأفة بالمتعلم ومعاملته معاملة الوالد لولده، واجتناب الشدة والغلظة عليه، أو تحقيره وإهانته أمام زملائه؛ لذلك أكتفي بما تم ذكره مراعاة للاختصار.

    كما أن البيداغوجيات الحديثة جاءت بالنظرة نفسها، مؤكدة على مركزية المتعلم في العملية التعليمية، وأن باقي المكونات يجب أن تكون في خدمته؛ من أجل تحفيزه وإذكاء الرغبة لديه وتجويد تعلماته.

علـى سبيــل الختــم:

    إن التدريس يجمع بين المهنة والوظيفة والرسالة، فهو يتضمن الرقابة الذاتية؛ لذلك لا بد للمدرس من حب هذا الفعل. ثم إن التدريس فن؛ لأنه عندما نتحدث عن الفن نستحضر الجانب المهاري وجانب التقنيات، وذلك لا يكون إلا بحب المهنة، وبالممارسة فإن العمل فيها يصبح لذة ومتعة.

    فهل تجد أيها الأستاذ الفاضل مثل هذا الحب؟ وهل تجد علاقك بمتعلميك على مثل الصورة المُتحدَّث عنها؟ إن نصف مهمتك أيها الأستاذ، تنتهي حين تُفلح في جعل متعلميك يحبونكَ، فيصير حبهم هذا سبيلا لحب المادة المُدرّسة، وحب التعلم بصفة عامة؛ فيُقبِلون عليه برغبة ومتعة.

   أما أنتم أيها المسؤولون فنصيحتي لكم، حين تزورون المؤسسات التعليمية على متن سيارات الدولة ذات الدفع الرباعي؛ اجتنبوا المقاربة الأمنية ما أمكن، ولا تركزوا كثيرا على الشكليات؛ إذ يكفيكم أن تسألوا المتعلمين عن مدى حبهم لأستاذهم، بدل استفسارهم عن مدى ضبطه لأوقات الدخول والخروج، وغيرها من الأمور التي تعتبر من البدهيات، التي يتعيّن على أي أستاذ احترامها وهو يزاول مهمته.

    ورسالتي أيضا للآباء، أن تجعلوا من حبكهم لأبنائكم، وحب أبنائكم لكم، طريقا لتربيتهم على القيم النبيلة والاحترام المتبادل والصدق في القول والعمل، ليقبلوا بنصائحكم وتوجيهاتكم عن اقتناع منهم؛ لأن المُحِب في الغالب الأعم، يرضى بما يأتيه من قبل المحبوب.

   أختِم بقولة لسقراط، قالها قبل بعثة الإسلام بكثير. فقد سُئِل عن السبب الذي جعل أحد طلابه لا  يظهر عليه أثر تعليمه له ، فردّ سقراط قائلا: ” ماذا تريدونني أن أعلمه؟ إنه لا يحبني.”.

              هذا؛ والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

1. (أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، حديث رقم 6632).

2. (أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حديث رقم 15.)

3.(إحياء علوم الدين، ط1/ 2003م، ج1/ ص68)

4. (أدب الدنيا والدين، المكتبة العصرية صيدا 2014م ص: 76-98 ).

5. (المقدمة تحقيق درويش الجويدي 2002م ص 538 وما بعدها)

 أستاذ باحث