أطفال في غياهب الأميَة
بينما نحن جلوس في أحد المقاهي بمدينة أحفير، دخل علينا طفل بدا من ملامحه و هيئته أنَه لم يكن يتجاوز العاشرة من عمره، و في يديه كيس بلاستيكي و بضعة مناديل كان يعرضها للبيع على زبائن المقهى. لمَا اقترب من مكان جلوسنا سألناه إن كان يذهب إلى المدرسة، فأجاب بلا. لقد تفاجأنا و صدمنا لرؤية طفل في ذلك العمر يجوب الشوارع و المقاهي في الثَامنة و النَصف ليلا بينما مكانه المناسب في تلك اللحظة كان لابدَ أن يكون في البيت، و في حضن والديه، و مع دفاتره و كتبه. زاد آسفنا عليه لمَا أحضرنا له ورقة و قلما و طلبنا منه أن يكتب اسمه الكامل، فلم يكتبه لأنه، بكل بساطة، لم يكن يعرف الكتابة. يحدث ذلك في زمن المناداة بإلزامية التعليم، و محاربة الهدر المدرسي، و رفع شعارات حقوق الطفل بشتى انواعها. فلمَا استفسرنا عن محيط الطَفل الاجتماعي ، وجدناه يعيش في وسط هش سمته الفقر والتفكك العائلي. ففي سياق هذه العيشة الضنكى، حرمت الوالدة طفلها من التمدرس و أجبرته على الخروج إلي الشارع لكسب قوت اليوم حتى و إن كان خبزا حافيا، ناسية هذه الوالدة أو متناسية أن طفلها مهدَد بالتعرَض للتعنيف الجسدي و النفسي ناهيك عن التحرَش الجنسي و الاغتصاب وتشغيله من طرف عصابات الإجرام.
آراء أخرى
علمنا كذلك أنَ أشخاصا ،إمَا تطوَعا او نيابة عن جمعيات مدنية، لمَا تدخَلوا لإقناع والدة الطفل بضرورة إرساله إلى المدرسة، وجدوا أنَ لديها اطفالا آخرين حُرموا من حقَ التمدرس، و أمسوا يرتادون المقاهي لبيع المناديل . فلم تكن محاولات إقناع الوالدة مُجدية لأنَها كانت تُصرَ على أنَ المدرسة لن تكسبها قوتا. فانتهى الموضوع، وما يزال الطَفل يجوب الشَوارع من طلوع الشَمس إلى غروبها بينما أقرانه المتمدرسون يتعلَمون في المدارس رغم قساوة الظروف المعيشية عند الكثيرين منهم. فالأمر لا يتعلق بالأساس بفقر أوليَاء أمور الأطفال بقدر ما يتعلَق بالوعي بضرورة تربية الأطفال و تعليمهم. فالآباء الواعون بذلك يكدَون ويشتغلون ليل نهار مقابل أجر بسيط يعينهم على مجابهة متطلَبات الحياة، و التاريخ يشهد على أنَ آباء كانوا فقراء، صار أولادهم خريجي جامعات، حيث فيهم الآن الطبيب و المهندس و المحامي و الأستاذ. فمثال الطفل بائع المناديل ما هو إلا غيض من فيض. إذن، فإلى متى سيبقي الأطفال بائعو المناديل بلا تمدرس؟.
مادام حق التربية و التعليم تكفله القوانين و المواثيق، فلابدَ من التدخَل الفوري لإنقاذ الأطفال بائعي المناديل، اللذين هم في الحقيقة متسوَلون يستعطفون الناس بمناديلهم، من أغلال الأمية و الجهل حتَي ينعموا بالمواطنة و المعرفة ،و بذلك يبنون شخصيَاتهم و فكرهم، و يبنون مجتمعهم و هم مواطنون صالحون عوض أن يبقوا تائهين و مهمَشين و معرَضين لشتَى أنواع التأثيرات السلبيَة. ففي هذا الإطار، يمكن للمجلس الأعلى للتربية و التكوين، عبر مهامه و صلاحياته، أن يجري دراسة مستفيضة حول وضعيَة الأطفال المحرومين من التمدرس، و بناء على نتائج الدَراسة يرسم برنامجا واستراتيجية تدخَل فعَال بالَتنسيق مع القطاعات الوزارية المسؤولة عن الشؤون الاجتماعية و رعاية الطفولة، و بالذات، قطاع التربية و التعليم التي بدوره مطالب بالسَهر على تحقيق ذلك على مستوى الأكاديميات الجهوية و المديريات الإقليمية. فعند إحصاء الأطفال غير المتمدرسين، ودراسة وضعياتهم الاجتماعية داخل أسرهم، من الواجب اتخاد الإجراءات القانونية و الإدارية لتوفير شروط إلحاق الأطفال المحرومين من التعليم بالمدارس التابعة لأماكن سكناهم.
ففي حال التغاضي عن أداء الأدوار و تحمَل المسؤوليات، فحتما ستتنامى ظاهرة الأمية عند الأطفال و سيُنتج جيل لن يستطيع مجاراة متطلبَات العصر الرَقمي الَذي لم تعد فيه معرفة الكتابة و القراءة كافية لمسايرته، حيث لا بُدَ من الانفتاح على التكنولوجيات الحديثة لتيسير ظروف التعليم و التعلم، والعمل و الاتصال و التواصل، ويعسر تحقيق ذلك إن بقيت الأمية متجذَرة في مجتمع درج على سماع كلمة « اقرأ»، لكن، و للأسف، لا يعمل بها.
