تحقيق: مغرب بدون "أمصال".. معاناة ضحايا يموتون في صمت بسم العقارب (الجزء الأول)
في هذا التحقيق الذي امتد على مدى عام كامل، جلسنا إلى الأهالي في الأماكن التي لُسع فيها الضحايا واستعادوا اللحظات العصيبة لرحيلهم بأصوات يخنقها الأسى، وانطلقنا في رحلة بحث من المغرب إلى تونس، ومراسلات واتصالات مع فرنسا والسعودية من أجل الوصول إلى معلومات دقيقة تنير الرأي العام وتجيب على سؤال واحد لعائلات الضحايا في المناطق النائية: لماذا تهدر حياة أحبابنا بهذا الشكل؟
عيد بدون ملائكة
لم يكن أحد ينتظر أن ينقلب العيد إلى مأتم، وأن يصبح يوم الفرح بالأضحية ”حالكا” كليلة سوداء غير مقمرة، ”لكبير الزوين”، واحد من المغاربة الذين ذاقوا “مرارة لسعات العقارب القاتلة“، شاءت الأقدار أن يفقد حفيدته الرضيعة هند -بسبب لسعة عقرب غادرٍ حرم ملاكا صغيرا من حقه في الحياة دون أن يدري أنه فتح جراح أسرة حالمة قبيل عيد الأضحى بيوم واحد، قصص ضحايا الحشرات القاتلة تعيد عقارب الساعة إلى جحيم مازال يعيش تفاصيله جزء كبير من المغاربة.
توفيت هند الرضيعة التي لم تتجاوز سنتين في المستشفى الإقليمي لمدينة سطات، بعد أن نقلت إليه من المركز الصحي لسيدي حجاج والذي نقلت إليه في وقت سابق من دوار “لوزاغرة” التابع لجماعة “مريزيك” بعمالة سطات يوم 24 شتنبر 2015، “ما دارو ليها والو في السبيطار“، يعلق السيد لكبير، يقصد أنها لم تتلق أي علاج في المركز الصحي، هذه الجملة ستردد كثيرا على لسان عدد من أسر الحالات التي التقيناها خلال هذا التحقيق.
بداية ونهاية
قرر المغرب منذ 13 سنة التوقف عن إنتاج الأمصال واللقاحات وإغلاق وحدة الإنتاج التابعة لمعهد باستور، وتخلى عن استعمال الأمصال المضادة لسموم العقارب واستيراد باقي حاجياته من الخارج. بينما نزيف ضحايا لسعات العقارب مستمر.
وزارة الصحة تؤكد عدم جدوى الأمصال بينما تؤكد عدة دراسات وأبحاث علمية نجاعتها، أما منظمة الصحة العالمية فقد امتنعت عن إعطاء رأي علمي صريح معتبرة أن استخدام هذه الأمصال يدخل ضمن “سيادة كل دولة” رغم أن بلاغاتها تؤكد على استعمال هذه الأمصال.
يثبت التحقيق كيف تسبب الاستيراد في رفع التكاليف وفتح باب للفساد الحكومي وفي الوقت نفسه تخفيض فعالية البرامج الحكومية في هذا الإطار، مما له أكبر ثمن يؤديه الناس من صحتهم ومن أرواحهم.
في سياق بحثنا، اكتشفنا أن حجم الأموال التي ينفقها المغرب من أجل استيراد الأمصال واللقاحات وكمياتها هو أحد الأسرار التي لا يكشفها المسؤولون وتراوغ “سانوفي” في تقديمها، بينما أكد معنيون ومختصون أن الاستيراد مدخل للفساد مستشهدين بفضيحة اللقاحين، وأن إعادة تأهيل وفتح وحدة الإنتاج سيخفف العبء على الميزانية ويشكل أحد الضمانات لإنقاذ أرواح المواطنين.
زيادة في الجرعة الواحدة تعادل الحد الأدنى للمعاشات
السيد لكبير الزوين، يعلم الآن أن المصل المضاد لسموم العقارب لم يعد متوفرا، لكنه لا يعلم شيئا عن قرار المدير السابق لمعهد باستور بإغلاق وحدة الإنتاج مطلع القرن الحالي، دون الرجوع إلى المجلس الإداري المخول له اتخاذ مثل هذا القرار، وهو القرار الذي تذرع بملاحظات لمنظمة الصحة العالمية وتوصيات تؤكد على ضرورة مطابقة المختبرات للمواصفات العالمية.
أول نتائج هذا الإغلاق كان ارتفاع ثمن اللقاحات بعد أن لجأ المغرب إلى الاستيراد. ومن بين الملاحظات التي أوردها المجلس الأعلى للحسابات في تقرير افتحاص معهد باستور، أن “ثمن بيع اللقاح المضاد لسموم الأفاعي مرتفع جدا مقارنة مع اللقاح الذي كان ينتج محليا من طرف معهد باستور“، فقد وصل ثمن جرعة 10 مل إلى 1015,89 درهم، بزيادة 960 درهم للجرعة وهو رقم مهول يعادل الحد الأدنى للمعاشات في المغرب.
من تقرير المجلس الأعلى للحسابات
كان معهد باستور أول جهة طرقنا بابها من أجل لقاء مديرته الحالية، وفي جعبتنا سؤالان، ما هو المبلغ الذي تتحمله خزينة الدولة باستيراد اللقاحات والأمصال، وما هو ثمن هذه المواد؟ ثم ما مدى نجاعة الأمصال المضادة لسم العقارب القاتل الذي يسلب الأرواح بلا رحمة؟
طلبنا لقاء مع مديرة المعهد، لكن تم توجيهنا إلى مصلحة اللقاحات، مسؤول بمصلحة اللقاحات بدوره وجهنا إلى مصلحة مكلفة بالعمليات المرتبطة بالاستيراد، واستمر تحويل طلبنا من طرف لآخر إلى أن تم توجيهنا في النهاية إلى مصلحة مكلفة بالاتصال والإعلام. عدنا بخفي حنين وكان علينا الانتظار إلى مطلع سنة 2016، للقاء المسؤول الذي كان في عطلة. تركنا رقم الهاتف وتلقينا تأكيدا بالاتصال فور عودته لكن لم نتلق أي اتصال، وهواتف المعهد لم تعد تجيب.
حاولنا خلال التحقيق الاتصال بالمدير السابق الذي اتخذ القرار ولم يكن متاحا، وتمكنا من الوصول إلى نائبه الذي وافق على التحدث إلينا وتقديم توضيحات تنير موضوعنا، إلا أنه غير رأيه بعد موعدين ثم لم يعد هاتفه يجيب.
مساران كان على تحقيقنا التوفيق بينهما، كلفة الأرواح التي يؤديها المغاربة، وكلفة الأموال التي تؤديها الدولة جراء التخلي عن إنتاج الأمصال واللقاحات محليا، وتطوير وحدات الإنتاج لتحقيق اكتفاء ذاتي يغني المغرب عن الاستيراد، لذلك كان علينا الاتصال بالجهات المعنية في العاصمتين الإدارية والاقتصادية “الرباط” و”الدارالبيضاء”، وزيارة إحدى المناطق التي يسقط سكانها تباعا جراء اللسعات. بحث سيقودنا إلى المكان الذي عرف احتضار هند بلسعة قاتلة.
المنسيون وفوبيا العقارب
للوصول إلى بلدية سيدي حجاج قادما من خريبكة، تسلك سيارة الأجرة طريقا ضيقة ومتهدمة تكفي لسيارة واحدة، تمتد على مسافة تفوق 40 كيلومترا، طريق الرعب هذه ليس فيها أي مجال للتجاوز، وعبرها تدخل إلى منطقة أشبه بتلك الخارجة من حرب، تنقلك لا محالة إلى فصول من التهميش والنسيان ولن تصدق أنك على بعد أقل من 90 كيلومترا عن العاصمة الاقتصادية، القلب النابض للمغرب.
وصلنا بعد الزوال إلى مقهى بمحطة بنزين حيث التقينا أحد أقرباء هند، إنه عباس 30 سنة، يدير المقهى الذي رتبنا فيه للمقابلة الأولى، في الفترة التي كنا نرتب فيها للتوجه إلى بيت العائلة حدثنا عن الرعب الذي يعيشه سكان المناطق هنا، “الناس يعيشون في رعب من العقارب” يقول عباس، ويواصل “حتى إن لم تكن هناك عقرب فالناس مسكونون بها بسبب الضحايا الذين تخلفهم لسعاتها”.
رغم قربه من مركز “سيدي حجاج”، جنوب مدينة الدارالبيضاء، ليس من السهل الوصول إلى دوار “لوزاغرة”، ومن أجل الذهاب إلى هناك يلزمك البحث عن سيارة للنقل السري وهي الوسيلة الوحيدة المتوفرة إلى تلك الوجهة، وستحتاج إلى التفاوض على سعر رحلة الكيلومترات الثمانية التي تفوق كلفة الرحلة بين مدينتي “الدارالبيضاء” و”الرباط” ذهابا وإيابا بالقطار، كما تفوق ضعف ثمن الرحلة بين المدينتين ذهابا وإيابا بواسطة الحافلة.
إنها فوبيا العقارب تعيشها الساكنة، هذا ما قاله محمد الزوين، ابن عم هند أثناء حديثنا إليه بدوار “لوزاغرة” أمام بيت العائلة التي تعيش في تجمع سكني معزول غير بعيد عن سكة القطار، وما يفاقم الأمر ويزيد رعب السكان هو صعوبة، إن لم نقل استحالة، الوصول إلى المركز الصحي بسبب غياب وسائل النقل، سؤال طرحناه على السائق الذي أقلنا: ما الذي يمكن أن يفعله من أصابته لسعة العقرب هنا؟ فكان رده موجزا “ينتظر عناية الله أوالموت“.
هذه الفوبيا جعلت كل من عرف أننا نعمل على الموضوع، يشرع في سرد تجربته مع العقارب دون طلب بالحديث، خلال ذلك الأسبوع وجدت أستاذة عقربا في فراشها، ومن التقيناهم يخبروننا أن العقارب قد تتواجد في أي مكان حتى في أواني المطبخ، وبينما كنا نتحدث إلى طبيبة مركز “أولاد فارس” أخبرت إحدى المتواجدات في نفس القاعة زميلاتها أنها بالأمس وجدت عقربا بين الملابس، ما يمكننا من الجزم أن الكلفة النفسية للسعات العقرب مرتفعة جدا في المنطقة بسبب الهول الذي تخلفه.
العقارب تحصد الأرواح
“أولاد فارس” جماعة قروية تقع على بعد 14 كلم من مركز “سيدي حجاج” التابع لدائرة بن احمد عمالة إقليم “سطات”، عرفت بدورها حالتي وفاة بعد لسعات العقارب خلال صيف 2015، مما دفع الساكنة للاحتجاج على تردي الخدمة الصحية والغياب المستمر لطبيب المركز الصحي. مليكة عثمان 36 سنة، أم لطفلين، إحدى الضحايا التي أزهقت روحها بعد لسعة عقرب يوم الخميس 06 غشت 2015، وقصة مليكة تروي حجم المأساة. “كان يوم زوبعة، هطلت أمطار غزيرة بعدها ارتفعت درجة الحرارة” يقول الزوج نور الدين سعيف، وهو يحكي تفاصيل أيام احتضار زوجته كأنه يراها أمام عينيه.
انتقلنا مع نور الدين إلى المسكن الذي لسعت فيه زوجته، غرفة واحدة أمامها فناء صغير غير مبلط هي ما يشغله في جزء من مسكن العائلة، فقد اقتطع جزءا من فناء البيت ليبني سكنه، وأصبح جارا لوالده ووالدته وإخوته. الغرفة التي عرفت سنوات الزواج والاحتضار بنيت من الحجارة بطريقة تقليدية وسقفها من القصدير وتخصص الأسرة الصغيرة جزءا للأواني والثلاجة واللوازم، وفي الخارج جعلت العائلة من الصبار سياجا، كل الشروط المحيطة تشكل بيئة مناسبة بل ومثالية لتكاثر العقارب القاتلة.
نور الدين أمام الغرفة التي لسعت فيها زوجته
“لسعتها العقرب على الساعة العاشرة من ليل الخميس، فسارعنا للاتصال بسيارة الإسعاف التابعة للجماعة لكنهم أخبرونا أنها نقلت في تلك الليلة مصابا آخر بلسعة عقرب”، يواصل نور الدين سرد قصة نقل زوجته، فالدوار الذي يقطن فيه لا يبعد عن المركز الصحي سوى بكيلومتر ونصف، لكن تطلب نقلها 45 دقيقة، بعد أن تطوع أحد الأقارب الذي كان في زيارة للمنطقة، ونقلها بسيارته الخاصة.
طيلة فترة مكوثها بالمركز الصحي حقنت مليكة بثلاث حقن، ثم أعادها زوجها إلى المنزل، لكن في اليوم الموالي تطورت حالتها بشكل سيء، وتفاقم وضعها الصحي بسبب إصابتها بمرض السكري ما استلزم استدعاء الممرض إلى البيت حوالي الساعة السادسة مساء. الفحوصات التي أجراها الممرض دفعته ليؤكد على ضرورة نقلها إلى مستشفى الحسن الثاني بمدينة “سطات” (40 كلم عن المركز)، وفي غياب سيارة الاسعاف كان لزاما البحث عن سيارة شخصية لأحد المعارف، لتصل إلى المستشفى في حدود الساعة الرابعة من صباح يوم السبت.
تفاصيل كثيرة يحكيها نور الدين دقيقة بدقيقة وهو يسرد معاينته لاحتضار زوجته التي تطلب فحص بالأشعة نقلها إلى مصحة خاصة بمدينة “الدارالبيضاء” بسبب عطل جهاز المسح الضوئي (السكانير) في المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد (أحد أكبر المستشفيات الجامعية في المغرب)، ثم أعيدت مليكة إلى غرفة الإنعاش بمستشفى الحسن الثاني بمدينة “سطات” لتخرج منها للمرة الأخيرة جثة هامدة صباح يوم الأحد 09 غشت 2015.
ضحايا بلا علاج
“ما داروا لينا والو، والعقرب كتبورد علينا“، “لـم يفعلوا لنا شيئا، والعقرب طغت علينا“، هذه هي الجملة التي ستسمعها كثيرا في مركز “أولاد فارس” وفي الدواوير المحيطة، فالمارة بمجرد علمهم بوجود صحافي في المكان يسعون وراءه ليحكوا قصصهم. مرافقنا عادل، أستاذ الفلسفة في ثانوية المركز، كان عليه أن يستغل سمعته واحترام الناس ليساعد على أخذ شهاداتهم واحدا تلو الآخر؛ مجمل الشهادات تؤكد أن التوقف عن استعمال مصل السموم المضاد للعقارب فاقم وضع المصابين وهدد حياتهم إن لم يجهز عليها بالفعل، فيما يؤكد البعض في جدال على هامش الشهادات أن الوسائل التقليدية “التشراط” بشكل خاص وسيلة ناجعة، مفيدا أن ابن أحد المزاولين القدماء لهذه المهنة بدأ نشاطه بالفعل في السنوات الأخيرة، “والأمر ناجع وتؤكده التجربة، يقول أحدهم.
تعقب أثر تهديد العقارب أوصلنا إلى صيدلية الدكتور “المسعودي”، الصيدلي والناشط المدني الدي قدم لنا نسخا عن تغطيات صحافية لاحتجاجات وبلاغات للساكنة ومراسلات عدة إلى المسؤولين تطالب بتأهيل مركز “أولاد فارس” وبتوفير الأمصال. من بين الوثائق التي اطلعنا عليها عريضة بمئات التوقيعات وشكاية أحد المواطنين إلى وزارة الصحة يطالب فيها باتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن وفاة ابنته بعد لسعة عقرب لم تتلق بعدها أي علاج، المراسلة أرسلت في ماي من سنة 2012 ولم يتأكد إن كان تلقى جوابا إلى حدود زيارتنا منتصف أكتوبر 2015.
شكاية مواطن إلى مندوب وزراة الصحة بعد وفاة ابنته (8 سنوات) بلسعة عقرب
الدكتور المسعودي تحدث إلينا عن واقع التهميش الذي يعيشه المركز الصحي لأولاد فارس، وأشار إلى أن الأمصال المضادة لسموم العقارب والأفاعي كانت متوفرة سابقا وتباع للعموم في الصيدليات فضلا عن المراكز الصحية، ’’الأمصال التي كانت متوفرة هي التي كان ينتجها معهد باستور، ومنذ أن بدأ الاستيراد لم تعد توزع على الصيدليات‘‘ يقول المسعودي.
وفي نفس السياق حدثنا إبراهيم، مساعد صيدلي وناشط مدني، في لقاء معه عن العديد من الحالات، الرجل الذي ينشط في إدارة صفحة على “الفايسبوك” باسم “معا من أجل أولاد فارس“، يتوفر على أغلب معطيات الإصابات وبوسعه أن يتذكر الحالات العديدة وغالبا عدد الحالات بالتواريخ ومآل الضحايا. معطيات كثيرة وغياب حملات التوعية بما يجب القيام به للوقاية، دفعت إبراهيم ونشطاء آخرين بينهم أطباء لإعداد فيديوهات نشرت على موقع “يوتيوب” من أجل التوعية الصحية والوقائية بشكل عام، فيما يشير إلى أن أغلب الضحايا الذين لقوا حتفهم بسبب العقارب توفوا في مدينة “سطات”، مشيراً إلى بعد المسافة وغياب تجهيزات الإنعاش في سيارة الإسعاف، بينما يرافق الضحايا سائق ليس له أي تكوين في المجال في غياب أي إطار طبي.
إنقاذ بالمراقبة
الحديث عن غياب العلاجات والأمصال دفعنا للتوجه إلى المركز الصحي “أولاد فارس”، هناك أوضحت لنا الدكتورة نجوى فوزي أن الإجراءات المتبعة هي نفسها في جميع المراكز الصحية في المغرب “المريض بعد معاينته يخضع للمراقبة ثلاث ساعات إن لم تظهر عليه أية أعراض غير طبيعية في البداية كالعرق أو الارتعاش أو غيرها“، البروتوكول المتبع هو نفسه ويمر عبر ثلاث مراحل تتكفل المراكز الصحية بأولاها وهي المراقبة “إن تطورت حالة المصاب يتم نقله إلى أقرب مستشفى يتوفر على وسائل الإنعاش” تقول الدكتورة فوزي.
“تغيرت الإجراءات المتبعة منذ أكثر من عشر سنوات“، تضيف الدكتورة فوزي، “توقفت الوزارة عن استعمال الأمصال والآن يتم اعتماد بروتوكول الإنعاش“، كلام أكده وزير الصحة في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية “الأمصال لديها أعراض مميتة وربما إن استعملنا الأمصال قد نقتل المصاب“، ويضيف الوزير “ما يلزم التكفل به هو الطب السريري، هؤلاء الناس يلزمهم الأوكسيجين والسيروم (مصل مغذي) وأدوية القلب“.
وواصل الوزير في ذات التصريح، “هاد الناس يلزمهم التكفل في المستشفى وفي المركز الصحي، وإن كانت الأعراض خطيرة يتم نقلهم إلى العناية المركزة أو الإنعاش“، وذكر الوزير بأن الوزارة تخلت عن استعمال الأمصال منذ سنة 2000 ويجب نسيان الحديث عنها، واسترسل، “ما أذكر به، هو أنه لدينا 30 ألف إصابة سنويا ولا يحتاج سوى 10 في المائة منها للاستشفاء، فيما 1,5 في المائة فقط تحتاج الإنعاش، في المغرب كانت لدينا 400 حالة وفاة سنويا واليوم لا نتجاوز 56 حالة وفاة سنويا“.
وزير الصحة يعترف بأن “الأمصال” قاتلة
الأمصال قاتلة؟!
عرفت حالة وفيات المصابين باللسعات منذ توقف معهد باستور عن إنتاج الأمصال سنة 2003 ارتفاعا ملحوظا على مدى السنوات الخمس اللاحقة. فبينما سجلت الإحصاءات الرسمية 24 حالة وفاة سنة 2003، تم تسجيل ارتفاع منذ تلك اللحظة إلى حدود سنة 2008 على الأقل حيث سجلت 91 حالة وفاة سنة 2004، وارتفعت إلى 98 حالة وفاة سنة 2005، بينما ذكرت الإحصاءات الرسمية أنه منذ توقيف إنتاج الأمصال سجلت 634 حالة وفاة، ما يعني أنه خلال سنوات 2006، 2007 و2008 توفي 421 مصابا بمعدل 140 حالة وفاة كل سنة.
هذه الأرقام توجهنا بها إلى الجهات المعنية، حيث أوضحت الدكتورة رجاء العوفير من المركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة العلاجية، أن التكفل العلاجي أكثر نجاعة وأن الأمصال لا تجدي في حالة التسممات بلسعات العقارب، وعزت ارتفاع أرقام الوفيات فقط إلى ارتفاع عدد التبليغات عن الإصابات والوفيات، فيما يرفض مؤيدون لاستعمال الأمصال هذا التفسير.
وأفاد تقرير نشره المركز أن الإجراءات التي تم اعتمادها ساهمت في التقليص من عدد الوفيات من 400 حالة وفاة سنة 1989 إلى 65 حالة وفاة سنة 2012، وبينما أورد التقرير، الذي نشر في المجلة التي يصدرها المركز، تطور نسب الوفيات والحدوث لم يورد الأرقام، فيما يمكننا أن نلاحظ أن 65 حالة سنة 2012 تشير إلى ارتفاع كبير مقارنة مع سنة 2003 التي لم تتجاوز 24 حالة وفاة جراء هذه اللسعات.
جانب من تقرير المركز المغربي لمحاربة التسممات واليقظة العلاجية
المجلس الأعلى للحسابات، وهو جهة رقابية دستورية في المغرب، أشار في تقرير له خلال السنة الماضية إلى أن التكفل العلاجي لا يعطي النتائج المرجوة، التقرير المتعلق بمتابعة توصيات مراقبة تدبير معهد باستور، أشار إلى أن إحصاءات الفترة بين 2008 و2012 سجلت 284 حالة وفاة، وهو ما يعني أن “التكفل العلاجي بدون المناعي (بدون أمصال) لا يرقى إلى المستوى المطلوب”. (النقطة 31 من التقرير الخاص بمتابعة توصيات المجلس الأعلى للحسابات، يونيو 2015، الصفحة 9).
جدل علمي: رحلة البحث عن المصل
لم تتوقف في المغرب الأصوات المطالبة بإعادة إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب والأفاعي، فقد طالبت الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة في أكثر من بيان بإعادة إنتاج الأمصال واستخدامها لإنقاذ أرواح المصابين، كما تحول الأمر إلى مطلب عفوي لدى ساكنة المناطق التي تعرف “غزوا” حقيقيا للعقارب والأفاعي، وفي كل مرة يأتي رد وزارة الصحة أن الأمصال غير مجدية، رد دفعنا إلى البحث في حقيقة جدوى هذه الأمصال.
بدأ إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب بمعهد باستور المغرب سنة 1960 تحت إشراف الدكتور “جان لويس Jean Louis“، وكان المغرب يصدرها إلى فرنسا سنتي 1984 و1985، وبعدها بسنتين سيقوم المغرب بتصديرها إلى ليبيا، فيما “كان كان المعهد سباقا في إنتاج أول لقاح مضاد لداء السعار (داء الكلب) بمعهد باستور طنجة. بحيث كان يلبي طلبات المغرب، ويصدره إلى إسبانيا وجبل طارق”. يوضح محمد كريم، بيولوجي متقاعد من نفس المعهد وعضو المكتب النقابي للجامعة الوطنية للصحة المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل.
من تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول فعالية الإجراءات المتبعة بعد التخلي عن “الأمصال”
* في الحلقة الثانية والأخيرة:
رحلة البحث عن المصل التي ستدخلنا إلى دوامة التكتم، كيف سيخفض فتح وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات من العبء على ميزانية الدولة في ظل نزيف أرواح متواصل
* أنجز هذا التحقيق في إطار برنامج ثروات الأمم الذي تديره مؤسسة طومسون رويترز