نقطـــــــة نظــــــــام
تمنحنا ظروف الأزمات والاضطرابات فرصا للتطور والمضي إلى الأمام على خلاف حالة الطمأنينة والوئام اللامبدئي، لقد سبق للاقتصادي والفيلسوف كارل ماركس أن أشار إلى أهمية بعض الأحداث في مسار المجتمع والتنظيمات أكثر من غيرها، فقد تمضي عشرات السنين لكنها من الناحية التاريخية لا تتضمن إلا بضعة أيام، وقد تمضي بضعة أيام حاملة الانعكاسات التاريخية لعشرات السنين؛دعونا نؤكد هنا أن الأزمة التنظيمية مؤشر على صحة تنظيمنا وجدية مشروعنا إذا ما حاولنا فهمها واستيعابها بكيفية مفكر فيها، لذلك فنحن نحتاج اليوم إلى تحليلات تستند على تشخيص دقيق، “فمن لم يقم بالتحقيقات فلا حق له في الكلام”، حتى نساهم في تعميق النتائج العامة واختبار مدى صدقيتها، فالمبالغة في التعميم قد تكون خطأ فادحا في معالجتها. كما أن الخوض في هذا النقاش التنظيمي، يعتبر مساهمة جادة في العمل على مأسسته ونقله إلى فضاءات الحزب الرحبة والمتسعة، دون أي إحساس بالنقص أو خوف مرضي من الجهر بوجود أزمة تنظيمية داخل حزبنا، وهذه الممارسة نتمناها أن تتحول إلى سلوك تعويدي في ممارستنا الحزبية، خاصة وأنه من حق الرأي العام ومناضلي الحزب معرفة ما يجري داخل حزبهم.
آراء أخرى
إن الأزمة التنظيمية الحالية، لا يمكن فهمها واستيعابها بدقة، من خلال محاولة إضفاء طابع الشخصنة والذاتية بخصوصها رغم أهميته، ولكن ينبغي فهمها في إطار التأسيس للعناوين الكبرى المطروحة اليوم على طاولة نقاش جميع مكونات الحزب، وهي بمثابة أسئلة مزمنة رافقته منذ التأسيس، لم يتم بسطها والتفرغ لمعالجتها نظرا لكونها كانت لا تشكل أولوية أولويات الحزب، لكن اليوم وبعد مرور عشر سنوات عن التأسيس آن الأوان لمباشرة التفكير فيها والبحث عن سبل معالجتها، وهذا تحول مهم في حياة الحزب إن لم يتم الوعي به، سوف يبقى حديث المقاهي والصالونات المغلقة هو السائد في تحليل معطيات واقعية أكبر بكثير من الأشخاص والذوات التي قد تجهر بالخلاف أو الاختلاف. ومن بين هذه الأسئلة المزمنة في تاريخ الحزب، والتي تحتاج إلى معالجة أنية، هي تلك المرتبطة أساسا بالمعايير المؤسساتية للحزب السياسي كما حددها عالم السياسة الأمريكي هينتينغتون في دراستة للظاهرة الحزبية في العالم الثالث وهي كالآتي:
- مرونة الحزب أو تصلبه؛
- تعقيد البنيان الحزبي أو بساطته؛
- استقلالية الحزب أو تبعيته؛
- ترابط الحزب أو تفككه.
بخصوص المعيار الأول، أظن أنه بعد دورة المجلس الوطني الأخيرة، بدأت تظهر ملامح تليين المواقف والخرجات الإعلامية للحزب، خاصة في العلاقة مع الحزب الأغلبي، بحيث لم تعد معركة الحزب الأولى هي مواجهته إعلاميا، وهو ما دعت إليه قيادة الحزب بعدم الخوض في مهاترات جانبية في العلاقة بالحزب الذي يقود الحكومة، الذي يحاول جر الحزب إليها كلما طرحت لديه أزمة داخلية بحيث يسعى إلى ترميم صفوفه عن طريقنا. وبذلك تم استيعاب فكرة أن الانجرار وراء استفزازات الحزب الأغلبي سوف يخرج منها الحزب خاوي الوفاض. أضف إلى ذلك أن علاقة الحزب بباقي مكونات الحقل السياسي ببلادنا يسودها الاحترام المتبادل، وهذا ما جنى من ورائه الحزب رئاسة مجلس المستشارين وبأريحية كرست عزلة الحزب الأغلبي داخل مكونات أغلبيته. عموما يمكن القول بأن المعيار الأول متحقق لدينا.
أما المعيار الثاني المتمثل في تعقيد البنيان الحزبي أو بساطته، فهو يحتاج إلى وقفة تأملية بحس جماعي في التفكير، لأن الآلة التنظيمية للحزب، لازالت لم تستطع بعد، القيام بما يتوجب. فبالرغم من وفرة التنظيمات الموازية والمنتديات إلا أن سؤال الأداء بقي سؤالا مزمنا، فباستثناء بعض الاجتهادات المحدودة، يظل الركود هو السمة البارزة. وانطلاقا من ذلك، فإن أولوية بناء الأداة الحزبية ترتبط اليوم أشد الارتباط بتبسيط البنيان الحزبي، وهنا أقترح تشكيل لجنة لمباشرة هذا الورش تتكون من المكتب السياسي والمكتب الفيدرالي وسكرتارية المجلس الوطني، تعمل على صياغة تصور يرفع إلى المكتب الفيدرالي لمناقشته والمصادقة عليه.
إن الوعي بأهمية هذه النقطة، سوف يخول للحزب أن يلعب أدواره كأحد الموارد المؤسساتية التي تسهم في تشكيل السياسات العمومية وتقرير الخيارات الأساسية للمجتمع، وضمان مأسسة الحزب عبر تشتيت القوة السياسية وتوزيعها بين مؤسساته التنظيمية وليس بين الأفراد، حتى لا يؤدي التنظيم إلى حكم الأقلية وتحكمها في القرار السياسي، نتيجة تركيز القوة السياسية للحزب في أيدي مجموعة قليلة من الأفراد، كما عبر عن ذلك روبيرتو ميتشلز في مقولته عن القانون الحديدي للأوليغارشة. فكلما كانت مؤسسات الحزب قوية كلما كانت القوة السياسية موزعة ومشتتة بين المؤسسات وليس بين الأفراد، وهذا سوف يصب لا محالة في مصلحة تقوية الحزب وليس تقوية الأفراد.
وبخصوص استقلالية الحزب أو تبعيته، كمعيار ثالث ضمن معايير مأسسة الحزب المعبرة عن قوته كما وردت لدى هينتينغتون. هنا لابد من التوقف عند سؤال لماذا تم استحضار هذا العالم السياسي في هذا النقاش؟ سوف أجيب ببساطة، لأن هذا العالم من بين المساهمين الأساسيين في دراسة الظاهرة الحزبية خاصة في دول العالم الثالث.
استقلالية الحزب أو تبعيته، تكمن في بناء القرار السياسي للحزب هل من داخله أو من خارجه؟ وهذا لا يحتاج إلى جهد كبير من أجل إقناع بعضنا البعض بأن القرارات الحزبية ينبغي أن تنبع من رحم الحزب لا من خارجه، وأن الممارسة السياسية السليمة تقتضي هذا الأمر بشكل منطقي. لكن هذا مرتبط بترسيخ قناعة لدى مناضلات ومناضلي الحزب، مفادها أن الحزب للباميات والباميين وليس لأحد، وبناء على ذلك ينقصنا فقط القليل من الجهد في تحكيم المنطق حتى يتسنى لنا التحرر من سلطة العادة، والتسلح بالثقة في أنفسنا وفي قدرتنا على صياغة واتخاذ القرارات وتدبير اختلافنا وفق الشروط التي تمليها الممارسة الجماعية، وتأهيل ذواتنا من أجل التخلص من الفكرة الغريبة التي تسكننا على نحو غريب والمتمثلة في إيماننا بوجود أشخاص بيننا فوق التنظيم وتسمو على القوانين التي نحتكم لها جميعا داخل حزبنا، تستمد شرعيتها من قربها في فترة من الفترات من المؤسسين الأوائل أصحاب الفكرة. إن هذا الوهم إن لم يتبدد لدينا سوف نبقى في علاقتنا بمأسسة الحزب كالباحثين عن قطة سوداء داخل غرفة مظلمة. وهذا الوهم لا يتحمل مسؤوليته أي كان إلا المناضلات والمناضلين أنفسهم، الذين عليهم الخروج من كهف أفلاطون الذي عمروا فيه طويلا. ولنا في ذاكرة الحزب العديد من الأدلة الدامغة على ما أقول، فكم من شخصية غادرت الحزب، فهل سجل يوما أن اتصل أحد من أجل إرجاعها إلى الحزب؟
أظن أن مسألة استقلالية الحزب محسومة شريطة وعي مكونات الحزب بذلك، فباستثناء القرارات المرتبطة بقضايا الوطن الكبرى التي تبقى بحاجة دوما إلى التنسيق والتشاور بخصوصها، تبقى جميع القرارات الحزبية قابلة للنقاش والحسم فيها يتم عن طريق قواعد الحزب.
فيما يتعلق بالمعيار الرابع والأخير والمعبر عنه بترابط الحزب أو تفككه، فيمكن القول أن امتداد مجال انخراط مختلف الفئات الاجتماعية بحزبنا، قد كثف من التناقضات بين هذه الفئات، وأصبحت مشكلة دمجها في الخط السياسي للحزب أكثر صعوبة؛ إن لم نجتهد بشكل مكثف في البحث عن الخيط الناظم بين مختلف المكونات التي يتشكل منها الحزب والتي تتميز بانحدارها من مدارس متعددة ومختلفة ومتناقضة أحيانا، وهذه ليست نقطة ضعف بل هي إحدى نقط قوة الحزب، إذا ما تم تدبيرها بدقة التفكير وبعد النظر ، خاصة وأن البعض من هذه الفئات إن لم تستوعب بذكاء من طرف الحزب سوف تتحول إلى مصدر للعداء والمخاصمة.
فالحزب لا ينبغي أن يتحول إلى أداة تجميعية للرغبات والرؤى بشكل أمين، ولكن- على العكس- فإن الحزب عليه أن يلعب دور المنظم لهذا الشتات والميسر لتفاعل هذه الرؤى والرغبات ويستخرج من داخلها عمق الأصالة وأفاق المعاصرة، حتى يتحول إلى مشتل لتكوين الأفكار الجديدة، بالبحث عن آليات الربط والاتصال بين هذه الأفكار لكي تشكل قوة سياسية معبأة بشكل جيد وموجهةً. هذه هي الصيغة التي من الممكن أن تساهم في تحلل القيم القديمة التي سادت من داخل الحزب منذ التأسيس، وتبلور قيم جديدة تتحدى الأسس التقليدية في ممارستنا السياسية، الأمر الذي سوف يخلق الحاجة إلى تشكل هوية جديدة في الممارسة، تجعل من القديم والجديد والتقليدي والحديث تدريجيا أكثر وعيا بنفسه وترغمه على التكيف والتطور مع المستجدات والمتغيرات بشكل عام.
إن وجود حزب قادر على ممارسة وظائفه،سواء في صياغة وتجميع المصالح أو إضفاء الشرعية على مخرجات السياسة العامة، لا ينبغي أن يقلل من أهمية التوجه الإيديولوجي والإفراط في السعي إلى تحقيق الانتصار الانتخابي رغم أهميته، ولا التعامل مع السياسة بمنطق المباراة الصفرية (أي الانتصار المطلق أو الهزيمة المطلقة)، بل علينا الاجتهاد أيضا من أجل توضيح الخط السياسي للحزب والعمل على ترسيخه لدى مكونات الحزب وتملكه بطريقة تجعل عملية الفرز واضحة بين خصوصية الحزب وباقي مكونات الحقل السياسي.
إن الأزمة التنظيمية الحالية هي اختبار حقيقي لمدى قدرتنا جميعا على التطور والتكيف مع المتغيرات التي نعيشها على مستوى الحزب، بفتح ورش مأسسته عبر اعتماد الديمقراطية الداخلية وإعادة النظر في مفهوم المسؤولية الحزبية وربطها بالمحاسبة ومكافأة المناضلين بناء على اجتهادهم وأدائهم… وكل هذا يتطلب وقتا للتكيف معه واستيعاب فلسفته القائمة على منطلق أن الحزب السياسي قوة حاسمة للتحديث في كافة المجتمعات المعاصرة، بحيث أن النمط الخاص بالتحديث الذي تتبناه المجتمعات المعاصرة، تحدده غالبا أحزابها بلغة عالم السياسة دافيد أبتر وبالتالي فلا يمكن أن ننشد التحديث إن لم نباشر نحن تحديث ممارستنا السياسية. فمن زاوية التنمية السياسية على وجه التحديد، فالقضية الأهم، بما يتعلق بممارستنا الحزبية، ليست هي مزايا أو عيوب الممارسة القديمة، وإنما بالأحرى قوة التنظيم الحزبي وقابليته للتطور والتكيف واستيعاب تطوره الموضوعي وحسن تدبيره للقضايا التي تطرحها الممارسة الجديدة؛ وهذا يتطلب درجة عالية من اليقظة والحكمة والنضج والابتعاد عن شيطنة الأخر وشخصنة الصراع.
إن حل الأزمة التنظيمية الحالية، لا يمكن أن يكون ذا جدوى بدون التفكير بعمق في هذه النقط وطرحها للنقاش، لأنه من وجهة نظرنا البسيطة والمتواضعة، لا نسجل اختلافا في وجهات نظر معبر عنها بعمق حول القضايا الحالية والإستراتيجية للحزب، وكل ما يتم تداوله إعلاميا لم يلامس جوهر المشكلة المطروحة اليوم داخل الحزب، والتي تعبر عن مخاض حقيقي يعيشه، وما لم يتحمل الجميع مسؤوليته بحس جمعي سوف نخسر لحظة هائلة تتاح أمامنا اليوم لاقتلاع الأزمة من جذورها، فعملية التجاوز لن تكون سليمة بدون تجفيف مستنقعاتها حتى لا تتكرر من جديد. هذه الأزمة التنظيمية هي مناسبة للتأسيس للتنشئة السياسية لحزبنا في مرحلتها الجنينية، فغياب التجانس بين روافد الحزب سوف يشكل تحديا أساسيا خلال هذه المرحلة، ولا يمكن تجاوزه إلا عن طريق تحقيق التكامل ببلورة ايديولوجيا متماسكة والقيام بأنشطة التعبئة السياسية ومأسسة هذا النقاش الداخلي داخل جميع تنظيمات الحزب، بمبادرة العناصر التي تتوفر فيها شروط قيادته والذين يدينون بالولاء لمشروع الحزب قبل أي شيء أخر، حتى يعبر الحزب عن ولادة جديدة يدعمها لا أن يقلل منها أو أن يتجاوزها، وانطلاقا من هذه الرؤية سوف يتعرف الحزب على خصائصه المتفردة المرتبطة بطبيعته وعلى الشروط التي يمكن أن تتيح له تجاوز ظروف أزمته لكي يلعب دوره كاملا في التخلص من التخلف التنظيمي وليس تكريسه، وهنا لا ينبغي أن تستمر فترة الفراغ التنظيمي فكلما زادت فترة الفراغ التنظيمي كلما أصبحت الأوضاع أكثر تعقيدا.