الدارجة بين الجهل المقدّس ودعاوى الأكاديميين
(4/4)
آراء أخرى
دعوى أن اعتماد الدارجة سيُحدث قطيعة مع التراث:
ومن الدعاوى التي يبرر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون رفضهم لأن تصبح الدارجة لغة مدرسة وكتابة وإنتاج ثقافي وفكري، تخوّفهم من انقطاع الصلة بالتراث العربي الإسلامي المكتوب بالعربية الفصحى. فالأستاذ العروي يقول بأن الدارجة، إذا تم إقرارها كلغة مدرسية وكتابية، «ستخلق جيلا جديدا منفصلا تماما عن العربية وثقافتها وما تزخر به من كنوز ستحرمه من الاطلاع عليها»، تضمّ «كتاب “ألف ليلة وليلة” و”بخلاء الجاحظ” و”كليلة ودمنة”». ويقول الدكتور شحلان بأن العامّيات «كلها لم تصنع علماً لأنها انفصمت عن تراث لغوي تمثل فيه إرث أربعة آلاف سنة زماناً». بل هو يربط مفهوم قداسة العربية بكونها لغة التاريخ والتراث، فضلا عن كونها لغة لقرآن. يقول في هذا الصدد: «فأنا أجد مفهوم القداسة متمثلا في اللغة العربية من وجهين: الأول لأنها لغة تاريخي وتراثي ولغة القرآن». ولذلك يحذّرنا من أن استعمال الدارجة، كلغة مدرسة وكتابة، سيؤدّي إلى القطيعة مع تراثنا، إذ «نحدث قطيعة بينا وبين موروثنا المعرفي التاريخي المحلي والتاريخي الإنساني». ويكرّر الدكتور الكنبوري نفس الشيء عندما يشرح أن التعليم بالدارجة سيؤدّي إلى «القطيعة المعرفية والثقافية بين الأجيال المستقبلية وبين التراث العربي»، موضّحا في تدوينة على الفايسبوك أن الداعين إلى الدارجة، «في ظل الحملات ضد الإسلام وأبي هريرة والأحاديث ووووو، يعرفون أن المعركة لن تنجح من دون قطع الشجرة من الأسفل لكي ينشأ جيل لا تحتاج معه إلى حملة أصلا، لأنه يكون قد فقد الروابط مع تاريخه من خلال قطع وريد اللغة […].هذا التاريخ الذي لا يراد له أن يستمر وأن يتذكره الجميع». كذلك يحذّرنا بدوره الدكتور مصطفى بنحمزة من أن التعليم بالدارجة سيؤدّي بالمتعلم إلى الانقطاع «عن تراث أمته فلا يقرأ منه فكرها أو أدبها أو قيمها، فيفقد بهذا معنى الانتماء إليها، وينحجر في شرنقة لهجته التي عزلته عن محيطه الثقافي والحضاري القديم والحديث».
هذا التهويل من مخاطر القطيعة مع تراث الأمة، والتي قد يتسبب فيها التدريس بالدارجة، ويبرر بالتالي استبعادها كلغة تدريس، يطرح العديد من الأسئلة ويستدعي مجموعة من الاعتراضات:
1ـ على فرض أن هذا سيحصل بعد جيلين أو ثلاثة، لو أصبحت الدارجة لغة تدريس وتعليم، فهل من الضروري أن يؤدّي ذلك إلى هذه القطيعة مع التراث، حتى لو أن الجزء الأهم من هذا التراث يحتاج إلى مثل هذه القطيعة للتخلّص منه كعامل تخلّف وكابح لكل نهوض وتقدّم؟ لماذا لا نستحضر الكيفية التي تعاملت بها أوروبا المسيحية منذ عصر النهضة، ابتداء من القرن الخامس عشر، مع تراثها اللاتيني المسيحي، بعد أم لم تعد اللغة اللاتينية، التي دُوّن بها ذلك التراث، هي لغة التعليم والكتابة وإنتاج المعرفة ونقلها، إذ حلّت مكانها الدوارج العامّية، مثل الإيطالية والإسبانية والفرنسية والألمانية والبرتغالية… فحسب منطق هؤلاء الرافضين لتدريس الدارجة والتدريس بها بمبرر أن ذلك سيؤدّي إلى الانفصال عن تراث الأمة المكتوب بالعربية الفصحى، فإن الإيطاليين والإسبان والفرنسيين والبرتغاليين والألمان والهولنديين…، يكونون قد تخلّوا، منذ أن بدأوا في استعمال لهجاتهم العامّية التي حلّت محل اللغة اللاتينية في التعليم والإنتاج الكتابي، عن تراثهم الديني والثقافي والفلسفي للقرون الوسطى وما قبلها، المكتوب باللغة اللاتينية، وأحدثوا معه قطيعة تضيع معها كنوز هذا التراث. بل حتى الفرنسيون والهولنديون سوف لا يعرفون شيئا عن فيلسوفيهما الكبيرين، “سبينوزا” الهولندي (1632 ـ 1677) و”ديكارت” الفرنسي” (1596 ـ 1650)، لأن الأول كتب مؤلفاته باللاتينية والثاني كتب بها أهم كتبه الفلسفية، وهو كتاب “تأملات في الفلسفة الأولى”، والذي ألفه في 1641 باللاتينية تحت عنوان “Meditationes de Prima Philosophia”. لكن المعارضين لتدريس الدارجة والتدريس بها يعلمون ويعترفون أن لا شيء من هذه النتائج “القاطعة” للتراث ومع التراث، المكتوب باللاتينية، قد حدث وتحقق. وعلمهم واعترافهم بذللك هو اعتراف بأن الدارجة لن تؤدّي إلى القطيعة مع التراث، حتى لو حلت محل العربية كما فعلت الدوارج الأوروبية التي حلت محل اللاتينية، التي كُتب بها تراث ضخم وغزير. فالمعلوم أن هذا التراث اللاتيني محتفَظ به كاملا، بجزئيه الوثني والمسيحي، بعد أن تُرجم إلى اللغات الوطنية للشعوب الأوربية، وهي اللغات التي كانت تُعتبر، إبان هيمنة اللغة اللاتينية، مجرد عامّيات لا تصلح لنقل المعرفة ولا إنتاجها ولا كتابتها ولا تدريسها، كما يقول اليوم عن الدارجة الرافضون لها كلغة للتدريس والتعليم. فإذا لم يوجد اليوم، خارج المتخصّصين في اللغة اللاتينية، من هو قادر على قراءة كتب “سبينوزا” أو “تأملات” ديكارت في نصوصها اللاتينية الأصلية، فإن قراءة هذه الكتب هي متاحة اليوم لكل الأوربيين بلغاتهم الوطنية التي تُرجمت إليها هذه النصوص التراثية اللاتينية.
النتيجة إذن، إذا كان صحيحا أن التدريس بلغات عامّية لبلدان أوروبية كانت لغة التدريس والكتابة بها هي اللغة اللاتينية لقرون طويلة، لم يؤدّ إلى القطيعة مع التراث المدوّن بهذه اللغة اللاتينية، وذلك بالرغم أن تدريس هذه اللغة لم يعد إجباريا مثل اللغات الوطنية للبلدان الأوروبية، والتي كانت في الأصل دوارج وعامّيات للتواصل الشفوي، وهو ما نتج عنه اختفاء اللاتينية، ليس فقط من الاستعمال الشفوي مثل العربية، بل حتى من التواصل الكتابي بها، عكس العربية، (إذا كان ذلك صحيحا) فهو أصحّ بالنسبة لحالة استعمال الدارجة كلغة تدريس وكتابة. لماذا هو أصحّ؟ لأن العربية ستستمر، عكس اللاتينية، كلغة تُدرّس كما كانت منذ الاستقلال حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي عندما فرضت كلغة للتدريس. فتراث “الأمة”، المكتوب بالعربية، سيكون إذن في متناول كل متعلّم، إذ يمكنه الاطلاع على هذا التراث باللغة الأصلية التي كُتب بها وهي العربية، حتى لو أن لغة التدريس التي سيتلقى بها تكوينه هي الدارجة. إذن لن يؤدّي استعمال الدارجة ولا الأمازيغية إلى القطيعة مع التراث المكتوب بالعربية، وحتى في أسوأ الحالات التي يُفترض فيها اختفاء العربية، كما حدث للاتينية، من التعليم كلغة تُدرّس إجباريا. ففي هذه الحالة التي تمثّل الوضع الأسوأ، وكما جرى ذلك مع التراث المكتوب باللاتينية، يمكن مستقبلا للمغاربة، غير المتمكنين من العربية، أن يقرأوا التراث المكتوب بالعربية مترجَما إلى لغتهم الدارجة، مثلما قرأ العرب أنفسهم “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” وفلسفة الإغريق مترجمة من الفارسية واليونانية إلى لغتهم العربية.
2ـ ثم من هي هذه “الأمة” التي سيؤدّي تدريس الدارجة والتدريس بها إلى فقدان تراثها والقطيعة معه، كما يقول المعارضون لهذا التدريس؟
ـ فإذا كانوا يقصدون، من منطلق ديني إسلامي، “الأمة الإسلامية”، فهذه حجة ضدهم وليست معهم، ذلك أن الشعوب الإسلامية الأعجمية تدرس التراث الإسلامي وتحافظ عليه بلغاتها الوطنية غير العربية. فالأتراك والإيرانيون والباكستانيون والماليزيون والإندونيسيون يدرسون هذا التراث الإسلامي، ويحافظون عليه بلغاتهم الوطنية، التركية والفارسية والأوردية والماليزية والإندونيسية… فمن يمنع المغاربة من أن يدرسوا تراث الأمة الإسلامية، مستقبلا، ويحافظوا عليه بلغتيهم الوطنيتين، الأمازيغية والدارجة، مثل باقي الدول الإسلامية غير العربية، المشكّلة للأمة الإسلامية التي ينتمي إليها المغاربة؟
ـ أما إذا كانوا يقصدون، من منطلق قومي عروبي، “الأمة العربية” ـ وهذا ما يقصدونه بالفعل ـ، فسيكون اعتماد الدارجة لغة للمدرسة والتدريس فرصة لتأكيد الانتماء الهوياتي، الترابي واللغوي ـ الأمازيغي لكون الدارجة إنتاجا أمازيغيا نشأت بالبلاد الأمازيغية لشمال إفريقيا وعلى يد الأمازيغيين، مثلها مثل أمها الأمازيغية ـ، للمغرب، وقيام أمة مغربية مستقلة عن الأمة العربية التي يستميت التعريبيون، من سياسيين ومثقفين، في إلحاق المغرب بها قسرا وشذوذا عبر سياسة التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي إلى جنس عربي، والتي يسميها المدافعون عنها بسياسة التعريب.
هكذا يكون تخوّف التعريبيين المتحوّلين من الدارجة، ليس بسبب ما قد تؤدّي إليه من قطيعة مع تراث الأمة، كما يدّعون، وإنما من القطيعة مع أمتهم العربية الوهمية. أقول الوهمية لأنها تقوم على وهم أن بلدان شمال إفريقيا ومصر والشام تنتمي كلها إلى أمتهم العربية. فالدارجة المدرسية مرفوضة، مثل الأمازيغية، ليس لأنها قد تفصلنا عن التراث، بل لأنها قد تفصلنا عن العرب والعروبة. فالتراث، مثل اللغة العربية، ليس إلا وسيلة للغاية التي هي التبعية للعروبة. فكل شيء، إذن، في منطق التعريبيين المتحولين، يصبّ في العروبة وفي التعريب والتحوّل الجنسي، القومي والهوياتي. وهذه الغاية العروبية والتعريبية هي التي جعلتهم يساوون بين التراث والعربية والعروبة. ولهذا فإن الحفاظ على التراث يعني لديهم الحفاظ على التبعية للعرب وللعروبة.
دعوى أن العربية لغة فكر وعلم وحضارة:
لا يكلّ التعريبيون، حتى يقنعوا أن العربية هي المؤهّلة دون غيرها لتكون لغة للتدريس والتعليم، من التذكير أنها لغة علم وحضارة وثقافة وفلسفة وأدب، وأنها اللغة الرسمية لأزيد من ثلاثمائة مليون من البشر، وأنها لغة رسمية كذلك لمنظمة الأمم المتحدة، وأن هناك إقبالا متزايدا على تعلّمها في كل العالم، وأن استعمالها في شبكة الأنترنيت في تنامٍ مطّرد… حتى إذا سلّمنا أن هذه المظاهر الإيجابية للعربية هي حقيقة لا تُناقش، فإن التحجّج بها لإثبات أنها هي الأولى بالاعتماد كلغة للتدريس، سيكون غير منتج ولا مفيد، لأنه خروج عن الموضوع وتهرّب منه وتهريب له إلى مجال فرعي وجانبي. سيكون ذلك التحجّج في محلّه لو كنا نقول إن العربية لا تصلح أن تكون لغة التدريس في التعليم الابتدائي والثانوي لأنها ليست لغة علم وحضارة وثقافة وفلسفة وأدب، وأنها ليست لغة رسمية لمنظمة الأمم المتحدة ولا لأية دولة في العالم، وأن هناك نفورا متناميا من تعلّمها لدى كل الشعوب، وأن استعمالها في شبكة الأنترنيت ضئيل جدا وفي تناقص مطّرد… إذن عندما نقول بأن العربية تشكّل، باعتمادها لغة للتدريس ـ وليس لغة تُدرّس كما كان يجب أن يكون وضعها ـ عاملا حاسما في تدهور النظام التعليمي في المغرب، فنحن لا ننفي ما ينسبه إليها التعريبيون من مفاخر وأدوار وتفوّق وتميّز. بل نضيف إلى ذلك أن العربية، إذا كنت لغة تبدو صعبة التعلّم والإتقان على من يجهلها، فإنه بمجرد ما يتقنها أي شخص ويستوعب نسقها اللغوي، ويضع يده على مفاتيح أسرارها النحوية والصرفية والاشتقاقية والبلاغية، حتى يهيم بها ويقع في هواها وغرامها، فتأسره برُوائها وجمالها، وتسحره بغنى معجمها وغزارة مترادفاتها، وتفتنه بروعة بلاغتها وعذوبة تعابيرها.
إذا كانت العربية بكل هذه العبقرية والكمال، فكيف لا تستحق أن تكون لغة للتدريس لتنقل عبقريتها وكمالها إلى التلميذ؟ لأن اللغة، وهذا ما يتجاهله التعريبيون، تستمدّ حياتها من مصدرين: أولا من التخاطب الشفوي في الحياة، وهو المصدر الأول والأصلي والطبيعي لحياة اللغة، لأنه أصل ومصدر وجودها تاريخيا، ولأنه كذلك أصل ومصدر اكتساب الإنسان الفرد للغة، إذ يتكلّمها قبل أن يكتبها، وثانيا من الاستعمال الكتابي الذي يأتي في مرحلة ثانية، كما كان ظهوره تاريخيا لاحقا للاستعمال الشفوي للغة، وكما أن الفرد يتعلّم الكتابة في مرحلة لاحقة لاكتسابه للاستعمال لشفوي للغته الأولى أو الفطرية (لغة الأم). ومعلوم أن الاستعمال الكتابي للغة، رغم أنه عملية إرادية وغير طبيعية لأنها ليست تلقائية، بل تحتاج إلى تدخّل خارجي (المدرسة أو ما يقوم مقامها)، لتعليم هذا الاستعمال الكتابي، إلا أنه يتأسس على الاستعمال الشفوي للغة المعنية بالكتابة، من حيث هو امتداد وتطوير لها، ومستوى ثانٍ لممارسة نفس اللغة الشفوية كتابة. وبالتالي فلا يعتبر هذا الاستعمال الكتابي للغة لغة ثانية غريبة أو أجنبية عن أصلها الشفوي المستعمل في التخاطب. ومن هنا تكون اللغة الموسومة بالحية، مثل الألمانية والفرنسية والإنجليزية واليابانية والكورية والإسبانية (الفشتالية)…، تستمدّ حياتها من استعمالها الشفوي في التخاطب ومن استعمالها الكتابي، الذي قلنا إنه نابع ـ وتابع له ـ من استعمالها الشفوي الأول هذا.
أما العربية فهي تحيا بالاستعمال الكتابي فقط بعد أن فقدت وظيفة التخاطب في الحياة. ولهذا فهي، كما أكرّر دائما، نصف حية لأنها تحيا بمصدر واحد للحياة وهو الكتابة، أو هي نصف ميتة لأن مصدرها الأول للحياة، وهو وظيفة التخاطب، قد مات واختفى. وينتج عن كونها لغة كتابية فقط لا تستعمل في التخاطب، أنها لغة اصطناعية وغير طبيعية، تُصنع في المدرسة صنعا كلغة ثانية وجديدة بالنسبة لمن يتعلّمها، لأنها لا تتوفّر على نسخة أولى وأصلية للاستعمال الشفوي في التخاطب ينبني عليها الاستعمالُ الكتابي ويكون امتدادا وتطويرا لها، كما رأينا بالنسبة للغات الحية. ولهذا عندما نتحدّث عن عبقرية العربية وكمالها، فذلك يخصّ فقط استعمالها الكتابي، والذي برعت وتفوّقت فيه بشكل ربما لا تضاهيه فيها اللغات الأخرى. ولهذا فحتى إذا أصبحت العربية لغة رسمية لكل دول العالم وليس فقط للدول العربية ولمنظمة الأمم المتحدة؛ وحتى إذا ألقى بها كل وزراء الخارجية لكل الدول خطاباتهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس فقط وزيرة خارجية النمسا التي استهلّت بها مداخلتها في افتتاح الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة ليوم 29 ـ 09 ـ 2018، وهو ما أصبح يتبجّح به التعريبيون كانتصار وتفوّق للعربية؛ وحتى إذا أوصى كل وزراء التعليم لكل دول العالم بتعميم تدريسها، وليس فقط وزير التربية الوطنية الفرنسي الذي دعا في تصريح له يوم 10 سبتمبر 2018 إلى تعميم هذا التدريس للعربية بالمدارس الفرنسية، وهو ما بات التعريبيون يذكّرون به بتباهٍ وافتخار كدليل على عالمية العربية وجدارتها وكفاءتها؛ وحتى إذا أتقنها كل أطفال العالم وليس فقط الطفلة المغربية، ابنة تسع سنوات، العبقرية مريم أمجون التي أحرزت، يوم 30 أكتوبر 2018، الجائزة الكبرى لمسابقة تحدّي القراءة العربي المنظّمة بدولة الإمارات، وهو ما غدا موضوعا شهيا لدى التعريبيين يستحضرونه كشهادة على سهولة تعلّم العربية والتمكّن منها لدى الأطفال كجزء من عبقريتها وعظمتها وتميّزها…، فإن كل هذا الذي يعتبره التعريبيون إشعاعا عالميا للعربية، وإقبالا متناميا على تعلّمها وتدريسها في كل بلدان المعمور، واستعمالا رسميا دوليا متزايدا لها، لن يعيد لها وظيفة التخاطب التي فقدتها بصفة نهائية وأبدية، ففقدت معها أهم مصدر لحياة اللغة. وبالتالي فإن كل هذه الخصائص، التي تجعل من العربية، في مجالها الخاص بالكتابة، لغة عبقرية وكاملة ومتفوّقة، راقية ورائقة، عظيمة وجميلة، ساحرة وجذّابة…، لن تجعل منها يوما لغة للتخاطب يستعملها في الشارع المجيدون لها من الوزراء الذين يلقون بها كلماتهم في مناسبات بروتوكولية خاصة، ولا الأطفال الذين يتقنونها مثل الصغيرة العبقرية مريم أمجون… ولهذا إذا كان صحيحا أن العربية، كما يذكّر بذلك التعريبيون، وهو شيء نتفق فيه معهم، لغة عبقرية وفذّة وكاملة، متميّزة ومتفوقة على العديد من اللغات الأخرى، أنتجت فكرا وثقافة وأدبا وعلما وفلسفة وحضارة…، فإن ذلك مقصور فقط على المجال الذي تحيا فيه وبه، وهو مجال الكتابة.
وأين المشكل إذا كانت العربية لغة عبقرية وكاملة ومتميّزة في مجال الكتابة؟ أليس هذا سببا إضافيا يدعم أحقيتها في أن تكون لغة للتدريس، وهو مجال تُستعمل فيه اللغة المكتوبة؟ المشكل الوحيد هو عندما تُستعمل لغة للتدريس والتكوين في مرحلة التكوين الأساسية للتلميذ، التي تشمل المرحلة الابتدائية والثانوية. لماذا؟ لأنها، كما سبق شرح ذلك، ليست باللغة الفطرية (لغة الأم) للتلميذ ولا بلغة للتخاطب، وهو ما يفرض على هذا التلميذ تعلّمها كلغة جديدة وثانية، مبتورة الصلة بلغته الأولى. وهو ما يجعل التعلّم بها كلغة للتدريس عملية عسيرة تعيق التعلّم الطبيعي للتلميذ، لأن التدريس بهذه اللغة يتطلّب تعليم لغة جديدة، وهو ما يتضمّن في نفس الوقت العمل على مقاومة لغة التلميذ الفطرية، التي تقاوم بدورها تعلّمه لهذه اللغة الجديدة عندما تكون لغة للتدريس. كل هذا يجعل من التعليم، الذي يعتمد لغة لا تستعمل في التخاطب، عملا شاقّا ومكلّفا في الوقت والجهد والمال، وغير فعّال من حيث الحصيلة والنتيجة وجودة التكوين. وهذا عكس التدريس بلغة التلميذ، أي لغته الفطرية (لغة الأم) التي يتعلّم ـ كلغة يعرفها أصلا ويتقنها شفويا ـ قواعد كتابتها في المدرسة، التي تعمل على تنميتها وتطويرها، عكس ما يحدث مع العربية التي، بدل أن تطوّر لغة التلميذ الفطرية، تقوم بإقصائها ومحاربتها لإحلال محلها لغة جديدة ثانية.
إذن الوضع المناسب للعربية، حتى تحتفظ على مكانتها كلغة عبقرية وفذة ومتميّزة، وذات باع طويل في الإنتاج الثقافي والأدبي والفكري، هو أن تُدرّس كلغة، وهو ما يتيح الفرصة للتعمّق في دراستها وإتقانها لمن يختارها كشعبة للتخصص.
المثقّفون كعائق للاستقلال الهوياتي واللغوي للمغرب:
تبيّن لنا هذه المناقشة أن العديد من المثقفين المغاربة، مثل السادة الأساتذة الذين أشرنا إلى مواقفهم من الدارجة، يعارضون ويرفضون كل ما هو مغربي أصيل باسم العربية والعروبة، وحتى باسم الإسلام الوهابي بالنسبة للبعض منهم. فإذا كانت معارضتهم للأمازيغية مفهومة لأنها تعبّر عن انتماء غير عربي، وهو ما يرفضونه، فإن معارضتهم للدارجة وحرمانها من المدرسة رغم أنهم يقولون بأنها لهجة عربية، هي شهادة على أنهم يعارضون ويرفضون كل ما هو مغربي أصيل، مثل الدارجة التي هي، مثل أمها الأمازيغية، منتوج مغربي محلي أصيل. والغاية من هذا الرفض للدارجة لتكون لغة مدرسة، هي رفض قيام أمة مغربية حقيقية ومستقلة لغويا وهوياتيا عن الأمة الوهمية، التي يسمّونها الأمة العربية. ولهذا فإننا نظلم المخزن عندما نحمّله مسؤولية كل مظاهر التخلّف التي يعاني منها المغرب، في الوقت الذي لا نلوم فيه المثقفين الذين يساهمون بقسط كبير في أساب هذا التخلّف، وعلى رأسها إلحاق المغرب بالعروبة التي لم تطلب منهم ذلك، والعمل على نشر فاحشة التحول الجنسي، القومي والهوياتي، بالاعتماد على الجهل المقدّس والجهل الأكاديمي حول هوية المغرب الأمازيغية، ولغتيه الهوياتين الوطنيتين، الأمازيغية وصنوتها الدارجة. وهذا ما يتطلّب من الأحرار والحرائر، حتى يبقى المغرب منبتا للأحرار كما يقول النشيد الوطني، وليس منبتا للشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي، أن يناضلوا، ليس فقط ضد سياسة المخزن، بل ضد أفكار المثقفين الذين يعادون كل ما هو مغربي حقيقي وأصيل، مثل الأمازيغية والدارجة، ويقفون سدّا منيعا أمام الاستقلال الهوياتي واللغوي للمغرب، مكرّسين تبعيته، هوياتيا ولغويا وثقافيا، لأمتهم الوهمية، رافضين أن يكون أمّة مستقلة في هويتها ولغتها عن هوية خرافية ولغة أسطورية.