يحرص الفقهاء الرسميون المشتغلون في قطاع الحقل الديني ببلدنا، على المناداة بضرورة الحفاظ على ما يعتبرونه خصوصية دينية للمغاربة، والمتمثلة في الفقه المالكي، والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، على منهج الجنيد السالك، وإذا استثنينا هذا الأخير من نقاشنا ، فإن الخطاب الرسمي يقدم هذه الخيارات على أنها دعامة الاستقرار الروحي للمغاربة، وصمام أمان في وجه التيارات الدينية الأخرى المهددة لثوابتنا وهويتنا التي حرص الملك محمد السادس، في كثير من خطاباته بما فيها خطاب العرش الأخير، على التذكير بها، معتبرا أنها من قيمنا القائمة على التسامح والإعتدال، في محاولة لإبراز بديل يمنع تسلل الفكر المتطرف إلى الشعب المغربي.

 وإن كنا لا نشك في كون التوجه العام ببلادنا ينبذ لوثة التطرف والإرهاب، إلا أن البديل المقدم من طرف الملك و الفقهاء الرسميين ليس بريئا من هذا الجانب، إذ يشهد التاريخ الإسلامي أن تركتنا الثقافية ، والتي يشاركنا في أغلبها أتباع المذاهب الأخرى، تحمل في جانب منها أدوات شرعنة العنف والتمييز واباحة دماء الأبرياء. يختلف تعامل كل من هذه المذاهب، من حيث التطبيق لا من حيث المبدأ، وإلا فمذهب المالكية الذي تزعم بلادنا أننا به وسطيون، هو في الحقيقة من أكثر المذاهب توسعا في إباحة الدماء، تعزيرا، بل كان إلى زمن غير بعيد مرجع المذاهب الأخرى إذا أحبوا تشديد الحكم في حق أحدهم.  كذلك فإن العقيدة الأشعرية لها تاريخ مظلم في شرعنة قتل المخالفين، ولم تصلنا إلا عبر أشلاء وجثث مغاربة وقفوا ضد مدها ؛ ولقد تداولت أغلب المذاهب عبر التاريخ الإسلامي حمل راية الدم، بداية بالخوارج، مروراً بالمعتزلة والأشاعرة والشيعة، و إستلمها بعدهم في زماننا المذهب الوهابي، السلفي.

وهنا أسجل أن معظم متزعمي الخطاب الديني بالمغرب، وإن كانت لا تنقصهم المعرفة لكن الشجاعة الفكرية والجرأة تعوزهم لمعالجة الخلايا الفكرية للتيار المتطرف، التي تخبو وتخمد أحيانا أمام الجمهور، أو السلطة تارة أخرى، وبعضهم يخفي حقيقته المتطرفة، التي تظهر لا تظهر الا في بعض الفلتات. 

إن عمل فقهاءنا جنبا إلى جنب مع النظام الحاكم، لتجنيب البلاد ويلات الصراعات الطائفية لا شك أنه شيء جيد، لكن ما الذي يمنع من مصارحة حقيقية في ظل هذا “الإستقرار”، و زعزعة ثوابت التطرف؟ 

الحقيقة تحتاج لمن يتحمل عواقب الجهر بها مهما كانت الظروف، قبل أن تتراكم عواقب السكوت عنها.  قد يظن أني أحاول الإزراء بمذهبين كبيرين أنتجا كثيراً من الفكر الذي غطى سماء الجو الثقافي ببلداننا لقرون، إذ أن كلامي ينظر للكأس الفارغة التي قيل دائما أنها مليئة، و لست بحاجة لذكر الاستثناءات التي لا يخلوا منها غيرها من المذاهب أيضاً، وقصدي فتح النقاش، حول ماهية هذه الخصوصية التي تجعلنا في حرز من الوقوع في براثن أعداء الإنسانية، وماهي أركانها من حيث التفصيل بحيث لا يمكن الربط بينها وبين الظلامية. 

إن عمل فقهاءنا جنبا إلى جنب مع النظام الحاكم، لتجنيب البلاد ويلات الصراعات الطائفية لا شك أنه شيء جيد، لكن ما الذي يمنع من مصارحة حقيقية في ظل هذا “الإستقرار”، و زعزعة ثوابت التطرف؟ هل لأن السلطة تريد إبقاء الوضع على ما هو عليه خدمة لأجندات معينة ؟  أم أن المصالح الشخصية تغلب على مصلحة الحفاظ على مستقبل الأجيال القادمة ؟! هذه الأجيال التي لا ترى من الخطاب الديني ببلدنا سوى جانبا يخدم مصالح السلطة لا غير.

يكفي أن ينزل أي صحفي لشوارع المملكة يوم جمعة ليقوم باستبيان حول مدى تقبل المواطن للخطب المقدمة، خاصة تلك التي تصدرها وزارة الأوقاف و الشؤون الاسلامية، أو قراءة تعليقات المغاربة على صفحات التواصل الإجتماعي حتى يكتشف سخرية المغاربة من خطب تعود لعصر ليس بعصرهم.

 للأسف فإن ما تقدمه قنواتنا أيضا في هذا الصدد هزيل جدا، ومن العبث بمكان أن يظن أنه قادر على إقناع شبابنا الذين ملوا من تكرار نفس الخطاب المفرغ من أي شحنة إيمانية،خطاب أشبه بمسكنات أصبحت متجاوزة وبدأ للأسف التيار المتطرف يقاوم تأثيرها، بل إن هذا الأخير أصبح ينوع طرق الاستقطاب ويبدع في استمالة الحس الديني للمواطنين.

 إن مما يدركه كل دارس للعقيدة الأشعرية والفقه المالكي أنه من السهولة بمكان أن ينظر أي متطرف لأقسى دركات العنف عبر هذه الكتب التي تملأ مكتبات بلادنا، دون الحاجة إلى استيراد أي من أفكار الشرق أو الغرب، وأعتقد أن كثيرا من عقلاء هذا البلد يعلمون ذلك تماما ، لكن بعضهم يصر على الضحك على الذقون، خداعا لأنفسهم وإرضاء للسلطة، وإذا لم تكن هناك وقفة جادة لملأ الفراغ الروحي الذي يغطيه التطرف الديني، الذي ليس بوافد كما يحاولون إفهامنا، فإننا سنشهد انزواء ثقافة التسامح، وصعود تيارات المتطرفين الدينية واللادينية، بشكل يهدد مستقبل بلدنا، لتصير نحو تقليد نماذج مخزية في الشرق لا قدر الله.