"العدالة والتنمية" الإسلامي ومحددات الصعود
عند الاطلاع على مسار الحركات الإسلامية، وبالأخص ذات التوجهات والميولات الإصلاحية التي تؤمن بخيار المشاركة السياسية، فمن الواضح أنها خضعت ولاتزال مند نشأتها لعديد من الرجات التي تراوحت بين النجاحات والإخفاقات. وبحكم السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي خضعت إليها هذه الحركات، عرفت عدة تحولات وتغيرات على مستوى تصوراتها وبرامجها وخطابها، بل وصل الأمر إلى نهج أسلوب يقوم على البراغماتية والمصلحية عوض الاكتفاء بالمرجعية والقيم الأخلاقية بدعوى الاحتكام لمبدأ التدرج وغيرها من التسميات والشعارات.
آراء أخرى
وفي إطار البحث عن تفسيرات موضوعية لصعود الإسلاميين المغاربة عبر الآلية الانتخابية، وفهم المتغيرات التي شهدها الحقل السياسي بعد انتخابات 04 شتنبر، لابد منالإشارة على أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي بهذا الصعود لم يفعل أكثر من تأكيد انطباع عام ظل علىالأقل مند بداية التسعينات من القرن الماضي يفرض نفسه بقوة وهو أن انتخابات حرة ونزيهة يعني بالضرورة صعود الإسلاميين في أغلب الأحيان قد يصل ذلك إلى اكتساح على طريقة ” حزب العدالة والتنمية التركي”.
إن سياق الصعود في الحالة المغربية تتداخل فيه عدة اعتبارات من الضروري استحضارها في عملية التحليل والرصد، حيث أن تحديد المكانة الحقيقة للفاعلين في الحقل السياسي أو الفضاء العام، يستلزم الاطلاع على المحددات والخلفيات القانونية والثقافية التي أطرت هذا الصعود، وكذا معرفة تأثيراته السياسية على بنية وتركيبة النظام وتوزيع السلطوالأدوار والمساحات.حيث أفرزت انتخابات 04 شتنبر 2015 عدة إشكاليات وتناقضات خاصة على المستوى القانوني والتنظيمي وكذا على مستوى الجوانب المرتبط بالتحالفات وتشكيل المكاتب وانتخاب الرؤساء. وتتوزع الملاحظات المتعلقة بهذه الاستحقاقات الانتخابية على عدة مستويات يمكن تقسيم أهمها إلى شقين،الأول قانوني يتصل بجوانب تقنية صرفة ترتبط بالترسانة القانونية والتنظيمية التي أطرت العملية الانتخابية خاصة خلال مرحلة انتخاب رؤساء الجماعات والجهات والمجالس الإقليمية، أما الشق الثاني فيتعلق بالحقل السياسي المغربي وتوازناته الماكروسياسية على ضوء الإفرازات والنتائج المسجلة خلال الاستحقاق الانتخابي الاخير.
فعلى الصعيد الأول المتعلق بالمنظومة القانونية الانتخابيةالمؤطرة ككل، تم تسجيل عدة ملاحظات يمكن تقسيمها إلى صنفين، الأول، يتعلق بمبدأ المناصفة والثاني يرتبط بالإطار القانوني-التنظيمي الخاص بتشكيل المكاتب على مستوى الجهات.على الصعيدالأول، فالمشرع المغربي في إطار تنزيل المقتضيات الدستورية التي تقر مبدأ المناصفة، أدرج عدة نصوص قانونية ضمانا لتمثيلية نسائية تراعي الحد الادنى من الشروط وتنسجم في نفس الوقت مع المسار والأشواط الهامة التي قطعها المغرب في هذا الجانب بالمقارنة بالدول العربية.
غير أن هذا التنزيل في شقه القانوني أفرز بعض الإشكالات خلال المسار الانتخابي سواء بالنسبة للجماعات الترابية أو فيما يتعلق بانتخاب أعضاء مجلس المستشارين. فيما يخص انتخاب أعضاء المجالس الجماعية، فإن إعمال اللوائح الاضافية خاصة في العالم القروي حيث التصويت الفردي، نتج عنه عدة صعوبات من الناحية الإجرائية والعملية، بحيث أن إجبارية تقديم ترشيح مزدوج يضم رجل وامرأة في بعض الدوائر المحددة سلفا، بمعنى أن كل شخص في هذه الدوائر ملزم بإحضار امرأة ليصبح ترشيحه قانونيا ومقبولا. دفع معظم المرشحين إلى الاستعانة أو اللجوء إلى زوجاتهم أوبناتهم أو الأقارب لتجاوز هذا الاشكال. فشرط الإجبارية والحالة هاته بهذا الأسلوب والطريقة الاجرائية المعتمدة أفرغ مبدأ المناصفة من محتواه، مما أدى إلى الوقوع في نوع من الانحراف عن روح المبدأ الدستوري الذي يقر المناصفة كوسيلة وليست هدفا في حد ذاته، بغية تبوأ المرأة المكانة التي تمكنها من المشاركة إلى جانب الرجل في التدبير والتسيير.
هذا المعطى أثر لاحقا بشكل سلبي على عملية تشكيل المكاتب عندما نص المشرع على تضمين ثلث لوائح المكاتب المنتخبة من النساء دون اضفاء نوع من الإلزاميةوالوجوبية على هذا التنصيص وتحديد الحالات الاستثنائية التي قد تلغي أو يرفع معها هذا الشرط، الأمر الذي نتج عنه ارتباك كبير على مستوى التعامل مع النص القانوني وكيفية تأويله عند التطبيق، مما أدى إلى خلق جو من التردد والضبابية وعدم الوضوح والانتقائية في تنزيل هذا الشرط بين محترم لهذا الشرط ورافضا له ومن استحال عليه ذلك.
هذا الضعف فيانتاج القوانين دائما على مستوى مبدأ المناصفة انعكس كذلك على انتخابات أعضاء مجلس المستشارين المقررة يوم 02 أكتوبر، فالقانون التنظيمي الخاصة بهذا المجلس في مادته 24 ينص على ضرورة عدم تضمين كل لائحة من لوائح الترشيح اسمين متتابعين لمرشحين اثنين من نفس الجنس. وبالتالي من الناحية القانونية فالترشيحات التي لا تحترم منطوق هذه المادة تعتبر غير مقبولة طبقا للمادة 26 من نفس القانون.
وإذا كان هذا الشرط نسبيا يثير صعوبات أقل بالنسبة لترشيحات ممثلي الجماعات الترابية، فإنه ليس كذلك بالنسبة لممثلي الغرف المهنية حيث يطرح إشكالا قانونيا، فبالاعتماد على النتائج التي حصلت عليها الاحزاب خلال الانتخابات المهنية التي جرت يوم 07 غشت 2015، فإن معظم الأحزاب من الناحية القانونية خارج دائرة التنافس على المقاعد المخصصة لأنها لا تتوفر على امرأة لترشحها إلى جانب الرجل.أما الصنف الثاني من الملاحظات، فيتعلق بالإطار القانوني والتنظيمي الخاص بانتخاب المكاتب الجهوية ، فبعد مراجعة التقسيم الاداري للمملكة(12 جهة عوض 16 جهة) والنمط الانتخابي الذي أصبح مباشرا بعدما كان غير مباشر، فباعتماد هذا النمط نتج عنه ظهور مجموعة من التناقضات والاختلالات التي تمس جوهر وروح العملية الديمقراطية، على اعتبار أن هذه الأخيرة مجرد أداة تسمح بالاختيار عبر آلية التصويت.
ويبقى أبرز الاشكالات الظاهرة في الحالة المغربية هو التناقض الموجود بين طبيعة النتائج وتشكيل المكاتب، حيث عندما يصبح الحزب الفائز بأكبر عدد الاصوات كحزب العدالة والتنمية الذي حصل على المليون ونصف صوت يأتي في رتبة أقل من حيث عدد المقاعد من الحزب الذي حصل على مليون وثلاثمائة ألف صوت الذي هو حزب الأصالة والمعاصرة، حيث أن هذاالأخير حصل على 6665 مقعد في حين حزب العدالة والتنمية حصل على 5021 مقعد، رغم الفارق الذي هو 200 ألف صوت.. بمعنى أن هناك خلل يستلزم مراجعة التقطيع والنظام الانتخابي، ليكون هناك انسجام مابين كتلة الأصوات وعدد المقاعد وطنيا، فهامش ربع مليون صوت الذي يضاهي عدد سكان بعض دول الخليج، في الحسابات الانتخابية يبقى كبير ويمثل كثلة ناخبة هامة من الطبيعي والضروري أن تؤثر على النتائج العامة وتنعكس على خريطة المقاعد.
جزئية أخرى على مستوى الجهات، وبلغة الأرقام دائما، حصل حزب العدالة والتنمية على الرتبة الأولى، بمعدل 25 في المائة من مقاعد الجهات ولم يحصل إلا على رئاسة جهتين، في حين أن حزب الاصالة والمعاصرة جاء في الرتبة الثانية بمعدل 19 في المائة من مقاعد الجهات أصبح يترأس خمسة جهات. هذا المعطى المسجل يبين أن هناك خلل على مستوى المنظومة المؤطرة للعملية الانتخابية، حيث جاءت النتائج مخالفة لإرادة الناخبين، وربط هذا التناقض الصارخ بين ما أفرزته صناديق الاقتراع وتشكيلات المكاتب بطبيعة ومحددات التحالفات يبقى تفسيرا سطحيا مجانبا للصواب من الناحية الإجرائية والقانونية، على اعتبار أن التجارب المقارنة وخاصة بالدول الديمقراطية توجد مسوغات شكلية وقانونية وأعراف ثقافية-أخلاقية تؤطر وتحمي إرادة الناخبين، فالحزب الذي يحصل على المرتبة الاولى له الحق وبقوة القانون بإجراء تحالفات تمكنه من التسيير، على غرار المعمول به في الانتخابات التشريعية بعد دسترة المقتضيات التي تنص على أن الحزب الاول مطالب بتشكيل وقيادة الحكومة، يعني أن القاعدة هي التي تحدد التفاصيل الثانوية التي من بينها التحالفات وليس العكس والحالة هاته.
فلماذا لايتم اعتماد هذا المبدأ أوالقاعدة على الاقل في مرحلة أولى على مستوى مجالس الجهات والأقاليموالعمالات، سيما وأن شكل الدولة على المستوى السياسي والإداري يشهد تغيرات جوهرية غايتها التأسيس لتجربة جهوية متقدمة كمرتكز وأرضية للمرور لجهوية موسعة على غرار النموذج الاسباني والايطالي، “حكومات الجهات”. فالتحول أو الانتقال على مستوى البنيات والميكانيزمات الإدارية والسياسية يستلزم تأطيره بترسانة قانونية وتنظيمية تسمح بإحداث تحول في الجوهر والمضمون وليس الشكل فقط، أي أن نقل الصلاحيات من المركز إلى الجهات يجب أن يؤسس على قواعد انتخابية تأطيرية وقانونية مغايرة للنمط السائدفي ظل نمط الانتخابات والتقطيع الجهوي السابق. فالجهات الجديدة بالصلاحيات الواسعة عوضا عن الصلاحيات الشكلية السابقة من المفترض أن يصاحبه تغيراث واسعة مستوى الآليات التنظيمية والقانونية.
الانتخابات الأخيرة أبانت عن عدة نواقص واختلالات تؤثر سلبا على المشهد السياسي ككل، كمجال للتدافع السلمي يسمح بفرز نخب قادرة على تدبير الشأن العام والمحلي
أما الشق الثاني المتعلق بصعود الحزب الاسلامي وانعكاسات ذلك على التوازنات السياسية التي تحكمالحقل السياسي المغربي منذ الاستقلال إلى غاية انتخابات الرابع شتنبر، فإن أهم ملاحظة تم تسجيلها هو الاكتساح الغير المتوقع لحزب العدالة والتنمية وصعوده الهادئ منذ أول مشاركة انتخابية له سنة 1997. فقد انتقل هذا الحزب من 1513 مقعد سنة 2009 إلى 5021 سنة 2015، كما انتقلت كتلة الاصوات من 774000 صوت سنة 2009 إلى مليون ونصف سنة 2015، بالإضافة لفوزه لوحده بربع مقاعد الجهات، وقد تصدر كذلك حزب العدالة والتنمية نتائج انتخابات رئاسة المدن التي تتجاوز عدد سكانتها 100 ألف نسمة.
مسلسل التطوروالصعود شمل كذلك المجال القروي، فبالمقارنة مع النتائج السابقة انتقل هذا الحزب من الرتب الاخيرة إلى الرتبة الرابعة خلال هذه الانتخاباتالاخيرة حسب النتائج العامة التي تشمل العالم القروي، مسبوقا بحزب الأصالة والمعاصرة ومتبوعا بحزب الاستقلال ويليه حزب التجمع الوطني للأحرار.وبالرجوع إلى اكتساح حزب العدالة والتنمية للحواضر بشكل خاص وصعوده إلى المراتب المتقدمة بشكل عام، يمكن الاستعانة بثلاثة مؤشرات لفهم وتحليل هذا التحولات المتصاعدة للحزب الاسلامي:
– مؤشر الترشيح النضالي: فمعظم المرشحين الفائزين في المجالس الجماعية الخاضعة لوحدة نظام المدينة (فاز الحزب الإسلامي بست عموديات المدن الكبرى) جلهم ينتمي إلى الحزب، وينشطون سياسيا واجتماعيا بواسطة عدة جمعيات في المجال الجغرافي الذي ينتمون إليه.
– مؤشر البنية التنظيمية والتواصلية: يتوفر الحزب على بنية تنظيمية قوية وقاعدة بشرية منضبطة من المناصرين والمتعاطفين، كما يصرف هذا الحزب أموره الداخلية والتدبيرية بآليات ديمقراطية جنبته الوقوع في أزمات وتصدعات داخلية أضعفت الاحزاب الاخرى. كما لديه قدرة تواصلية متميزة وفعالة عن باقي الاحزاب إن على مستوى الخطاب المرسل الذي يكون في غالب الأحيان بسيط الشكل والأسلوب، قوي الدلالة والمحتوى، بلغة تحمل نبرة محافظة تعتبر الاسلام هو النطاق العقائدي والضابط الايديولوجي، هذه اللغة تجدب الامي والمثقف وتثير فضول المهتم وغير المهتم(خطابات بنكيران في الجلسات الشهرية).
فيما يخص الجانب التواصلي يتوفر الحزب على شبكة كبيرة من المناصرين يتقنون استعمال مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يحتل مراتب متقدمة سواء من حيث التغطية والتفاعل، فمعظم أفراد الحزب بمختلف الفئات يستعملون التكنولوجية الحديثة من مواقع الكترونية ومواقع اجتماعية للترويج إلى التنظيم والدفاع عن رموزه واختياراته وتوجهاته خاصة على مستوى المواقع الكبرى(مثلا عندما يتناول موقع هسبريس خبر أو مادة اعلامية موضوعها رئيس الحكومة الذي هو في نفس الوقت رئيس الحزب، تجد نسبة كبيرة من التعليقات تدافع عنه وتبرر سلوكاته بالرغم أنه في بعض الاحيان يكون الأمر يتعلق بإحدى الخرجات المثيرة والغير محسوبة لبنكيران).
كما يملك هذا الحزب أحدث المواقع الالكترونية يتم تحيينه باستمرار بأخبار وبمواد متنوعة، وبالتالي فالآليتين التنظيمية والتواصلية تؤديان في النهاية إلى خلق نوع من الالتزام الحزبي لدى الأنصاروالانجذابوالإعجاب لدى الفئات الاخرى غير المنتمية لهذا الحزب.
مؤشر الوعي السياسي: فوز حزب العدالة والتنمية بهذه الارقام يدل على أن عدد كبير من غير المنتسبين إليه صوتوا لصالحه كإطار وكتنظيم لعدة اعتبارات أهمها السمعة ونظافة يد المناضلين الذين يقدمهم هذا الحزب، بمعنى أن منسوب ودرجة الوعي السياسي لدى المواطن المغربي في ارتفاع بحكم القدرة على الاختيار و التمييز بين الأحزاب، حيث بات يفضل التصويت على الحزب عوض الأفراد، فمؤشر الوعي ساهم في ذهاب الاصوات غير المقاطعة إلى هذا الحزب خاصة أصوات الطبقة الوسطى التي لا يستهويها ولا يغريها العرض السياسي المقدم من طرف الاحزاب الاخر.
على صعيد آخر، فالصعود المتنامي لحزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الاسلامية عبر الالية الانتخابية في الوقت الذي تراجعت فيه عدة تنظيمات الاسلام السياسي التي جاء بها الحراك الشعبي العربي إلى سدة الحكم، يؤكد أن إستراتيجية التدرج والانسياب الهادئ داخل هياكل ومؤسسات الدولة( توطين التجربة التركية)، والسير في اتجاه إبرام التحالفات وتقديم تنازلات على أساس الواقعية(فقه الاستضعاف)، مكنت الإسلاميينالإصلاحيين المغاربة من تفادي تكرار تجارب التيارات الأخرى،حيث باتوايؤثرون بشكل كبير على التوازنات السوسيوسياسية بسبب الضغط الذي يحدثونه في النسق السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يطرح عدة اشكالات تهم بنية السلطة وتركيبتها وتغيير موازين القوى وقلب المعادلة السياسية، أي خلخلة الحقل السياسي عموديا وأفقيا لأول مرة في تاريخ المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم.
فمن الناحية العمودية فاستفراد هذا الحزب بالرغم من حساسيته الاديولوجيةبترأس ست عموديات كبرى تهم بالأساس مدن لها ثقل سياحي(مراكش) واستراتيجي حيوي(طنجة) واقتصادي(الدار البيضاء)، هو بمثابة مؤشر على أن هناك تحول على مستوى الأدوار والمساحات ومراكز الفاعلين، ولتدقيق أكثر يمكن طرح السؤال التالي، كيف سيتم التوفيق بين المشروعية التنموية التي ترتكز وتستند عليها المؤسسة الملكية لتقوية تواجدها في الفضاء العام مع مشروعية الانجاز التي على أساسها سيحاسب هذا الحزب غدا أمام الناخبين؟ هل ستسمح المؤسسة الملكية بتقاسم الأدوارمجاليا مع حزب العدالة والتنمية كشريك فعليا؟ أما أن هناك أدوات للضبط ستسمح للنظام بالمناورة وإعادة إنتاج نفس الأدوار والممارسات السابقة؟سيما وأن تجربة ضبط وتوجيه وترويض قيادة هذا الحزب للحكومة عبر آليةوميكانيزم التحالفات كانت ناجعة، بحيث جعلت الحزب يتحرك ويشتغل وفق السقف والمجالات المحددة والمرسومة سلفا بل جعلته يبتعد تلقائيا عن الملفات ذات الطابع السيادي. عكس ذلك يبدو أن حزب العدالة والتنمية في العموديات تحررا نوعا ما من تحدي التحالفات، ولكن يظل تحت رحمة الجهات وما توفره من موارد مالية هامة.
أما من الناحية الافقية الخاصة بعلاقات الاحزاب وتفاعلاتها البينية أو علاقتها بالمواطنين، فالانتخابات الأخيرة أبانت عن عدة نواقص واختلالات تؤثر سلبا على المشهد السياسي ككل، كمجال للتدافع السلمي يسمح بفرز نخب قادرة على تدبير الشأن العام والمحلي، اختلالات أو مشاهد سريالية تصل إلى حد جعل المتتبع والمواطن العادي في حيرة من أمره لمعرفة الفائز والمنهزم، فتارة الذي يفشل في ترأس جماعة قروية قد يصبح رئيس جهة كبرى، والحزب الذي يأتي في ذيل النتائج يصبح في دفة التسيير، والحزب الأول والمتصدر يمسي في المعارضة…
فاستلهام العبارة التي استعملها الباحث حسن طارق عندما صرح بأن حزب العدالة والتنمية فاز سياسيا وحزب الاصالة والمعاصرة فاز انتخابيا والحالة هاته لها صديقيتها ودلالتها التي تعكس التناقضات التي تحكم الوضع العام. هذا بالإضافة إلى لما سبق ذكره من ثغرات قانونية وفراغ تنظيمي، وارتباك الأغلبية خاصة حزب الحركةالشعبية والتجمع الوطني للأحرار في تصويتهم للمعارضة، وغيابالالتزام الحزبي بفعل الترهل والانفلات التنظيمي لمعظم الأحزاب، والضبابية والازدواجية التي صاحبت عملية التحالفات (حزب العدالة والتنمية في الوقت الذي كان يصرح علنا أنه ضد التحالف مع البام، عقد معه تحالفات في عدة مدن مثل مراكش حيث نال العمودية مقابل دعم المرشح الوحيد للجهة المنتمي للبام)، كلها عوامل ساهمت في تكريس الصورة النمطية التي تحكم المخيال الثقافي للمواطن تجاه الأحزاب والعمل السياسي ككل، مما يفرغه من جوهره النضالي النبيل.
المعطى الأخير يتعلق “بالحزب الظاهرة” حزب الأصالة والمعاصرة، فبعدما تأسس على يد أهم المقربين من الملك رفقة ثلة من المناضلين اليساريين القدامى، الذي حسب المحللين والمهتمين جاء من أجل الحد من تغلغل وتمدد الإسلاميين في الساحة السياسية، انتهى بهالأمر وفق النتائج المحصل عليها في يد الأعيان بعدما استحوذوا عليه وصارت قوته الضاربة تتمركز في العالم القروي، وباعتماده على ماكينة الاعيان يكون هذا الحزب قد انحرف عن مساره وأهدافه، بحيث عوض أن يزاحم حزب العدالة والتنمية أصبح يزاحم الاحزاب الادارية في العالم القروي في استقطاب الاعيان التي كانت تعتمد عليها، بل بات يقوم بالدور الذي كان يلعبه الفلاح المغربي في الدفاع عن العرش إبان السبعينات والثمنانينات بحسب تعبير ريمي لوفو، هذا الدور الذي لم يعد النظام في حاجة إليه.