اسمحوا لنا أيها السادة.. يا من تستغلون الفرص لتمرير أشياء يتفق العقلاء على أنها خارج السياق. 

“الإرهاب يضرب عاصمة النور”، “الحرب يسيل الدم في شوارع عاصمة النور”. هذه نماذج من بين أخرى لقائمة العناوين التي تصدرت صحفا ونشرات الأخبار في قنوات غربية وعربية طيلة الأيام الماضية، وتوالت مباشرة عقب أحداث فاجعة الجمعة الماضية الذي أودت في العاصمة الفرنسية باريس بحياة ما يزيد عن 120 شخصا بريئا، ماتوا ظلما وبرصاص بارد يصعب بكل ما تحمل الكلمة من معنى تحديد هوية الأطراف والجهة، وليس الأشخاص فقط، التي دبرت له ووقفت وراءه. 

في البداية، لا بد من التأكيد أنه لا يمكن لعاقل أن يقبل بحادث كهذا، لأنه لا مبرر له لا عقلا ولا دينا، بل وحتى إنسانيا. العنف مدان وإسالة الدماء هكذا مرفوض في كل الحضارات والأعراف، ولدى كل عقلاء الدنيا، سواء في باريس أو في بيروت، وقبلهما في غزة أو في مالي، وفي رام الله وفي دمشق إلى آخر اللائحة. لكن لماذا السرعة الكبيرة التي ربطت الحادث بدين الإسلام؟ إنه سؤال مشروع يستدعي التوقف عند طبيعة رد فعل أعلى سلطة في البلاد وفي أوروبا بأسرها. فحزمة الإجراءات التي أعلنها رئيس فرنسا كلها تؤكد العقلية الأمنية المسيطرة على التعامل مع الحادث والتي لن تؤدي سوى إلى مزيد من الاحتقان بحسب محللين، أما نظرة غريمه ساركوزي لتدبير الملف فلا يمكن اعتبارها سوى خطة فاشلة قبل الأوان، خاصة مقترحه بوضع كل المتشددين والمشكوك فيهم، حسبه، رهن الإقامة الإجبارية.  متى كانت الحيطان تحبس الأفكار؟ إن الحادث ليس سهلا وتحليله يستدعي دقة كبيرة والتعامل مع أسبابه وإيجاد حل لها مهمة شاقة تستدعي سياسة تتجاوز مجرد رد فعل أمني لحظي كهذا إلى وقفة تعيد النظر في سياسة فرنسا الداخلية والخارجية وتعاملها مع أكثر من قضية.

استوقفتني شخصيا تحليلات لخبراء فرنسيين وغربيين ربطوا الحادث بالنهج الذي سلكته السياسة الخارجية الفرنسية الذي تلتقي مع سياسة عدد من الدول الغربية في نقاط عديدة وفي بؤر مختلفة في العالم. وإذا كانت فرنسا لا تخفي مدى تدخلها المباشر في عدد من الدول عسكريا، بدعوى حماية القانون فيها وفرض الديمقراطية وحماية إرادة الشعب والدفاع عن حقوق الإنسان، كما في مالي وسوريا وأفغانستان وليبيا..، واقتصاديا وثقافيا وسياسيا في مستعمراتها القديمة، فإنها بذلك تضرب عرض الحائط عددا من الشعارات التي يسعى ساستها والمتداولون على قصر “الإليزي” الترويج لها في مختلف المناسبات الفرص. كما تضرب عرض الحائط مكونات شعارها الذي حافظت عليه منذ عصر “الأنوار”: الحرية والمساواة والأخوة.

وبالمقابل: كيف تتعامل فرنسا وخاصة خلال عهد الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، والحالي، فرانسو هولاند، مع نفس القضايا في دول تدر على “عاصمة الأنوار” الملايير من الأورويات كل سنة؟ دول الخليج مثلا كالسعودية والإمارات. هل هي دول عريقة في منسوب الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام القانون حتى توطد معها باريس العلاقات ولا تتدخل فيها أم أن الأمر يتعلق بأمور أخرى. 

إن النور الذي تبحث عنه الإنسانية المتعطشة لخطاب وفعل جديدين يجعلان الكرامة البشرية والحرية الحقيقة والعدالة الاجتماعية بين الشعوب وبين مختلف الدول ليس حبيس الأوراق والخطاب، بل سياسة حقيقة لها فعل في الميدان وتأثير على حياة الأمم

ليس الموضوع هنا الحديث عن هذه الدول، بل الذي يعنينا في هذا السياق هو السياسة الفرنسية وتعاملها مع هذه الدول مقارنة بالدول المشار إليها سابقا وبقضايا أخرى في العالم. إن النظرة البسيطة للموضوع ستجعلنا نخلص إلى أن هناك تعاملا تمييزيا من قبل ساسة فرنسا مبني على المصلحة ليس إلا، وهو واحد من أهم وأقوى الأسباب التي ولدت الأفكار التي كانت وراء أحداث الجمعة الماضية وذهب ضحيتها الأبرياء.

لهذا السبب ولأخرى لا يمكن اعتبار باريس وفرنسا مصدرا للنور يا سادة. كيف تدعي فرنسا الدفاع عن حقوق الإنسان والتدخل عسكريا لحمايتها في عدد من الدول وتسكت رفقة دول “عظمى” أخرى منذ عقوت على أكبر جرائم في العصر الحديث في فلسطين، بل وتساند القائمين بها ولا تفتأ تؤكد دعمها للسياسات الصهيونية، كما تتعامل مع أنظمة مستبدة في العالم العربي وفي إفريقيا وتساند حكام لم يختارهم شعوبهم؟ حكام يضربون عرض الحائط أبجديات الديمقراطية والقانون وحقوق الإنسان. هل هذا من النور يا سادة؟ يا من يحنون إلى فرنسا القابضة برقاب شعوب في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط؟ يا من يريد لأدرع فرنسا الاقتصادية والإعلامية والتجارية أن تواصل حضورها في مستعمراتها القديمة والجديدة: هذا عهد جديد، البقاء فيه للأصلح وليس للقوي. والأيام بيننا.

إن النور الذي تبحث عنه الإنسانية المتعطشة لخطاب وفعل جديدين يجعلان الكرامة البشرية والحرية الحقيقة والعدالة الاجتماعية بين الشعوب وبين مختلف الدول ليس حبيس الأوراق والخطاب، بل سياسة حقيقة لها فعل في الميدان وتأثير على حياة الأمم وأوضاع شعوبها أما ما يأتي من باريس وواشنطن وموسكو فهو التمييز ولغة المصالح والغلبة للقوة وهي مصطلحات عند العقلاء تنتمي إلى نفس خانة الإرهاب والعنف والدم. وكلها سبب لأزمة العالم المعاصر الذي يعيش ويلات وويلات مرشحة للزيادة لا قدر الله.

لذلك كله: فالإرهاب والعنف ظلام وظلم ما بعده ظلم، وباريس ليست “عاصمة للنور”.