استوحينا عنوان هذا المقال من مقال لأحمد بن سودة (1920-2008)؛  أحد أبرز وجوه حزب الشورى والاستقلال؛ وأكبر مستشاري الملك الراحل الحسن الثاني، كان قد نشره في جريدة “الرأي العام” التي أسسها سنة 1947 لتكون لسان حال حزبه، في عاموده “حديث المفتي” بالعدد 103 ليوم 17 يونيو 1949. والمناسبة وقتها؛ قرار سلطات الإحتلال الفرنسي فتح كازينو بمدينة مراكش في وقت كان الشعب المغربي يعاني فيه الأمرين، بينما كان المستعمرون يوجهون ميزانية البلاد نحو مشاريع لم تكن تلامس اهتمامات المغاربة.

1- جذور ظاهرة القمار بمراكش.

في سنة 1935، قررت سلطات الإحتلال تحويل مراكش لمدينة استجمام وملاهي وقمار، ورأى بعض المتابعين من ذوي الحس الديني والوطني حينها، أن ذلك القرار جاء بعيد زيارة قام بها السلطان محمد بن يوسف لباريس للمشاركة في تشييد مسجد هناك وتدنيسا لحرمة “مدينة سبعة رجال”، ورغم أننا لا نستبعد البعد الحضاري في الحدث، إلا أننا نرى أن القرار أملته أيضا رغبة سلطات الاحتلال يومها في جلب رساميل لبلد كان يئن تحت وطأة “الكساد الاقتصادي” الذي خلفته أزمة 1929. وقد استقطبت مراكش إثرها رساميل استثمرت في القطاع السياحي بشكل خاص وفي أنشطة رديفة أهمها ألعاب الرهان والحظ والقمار، كما أضحت “مدينة البهجة” مرتعا لمحافل الماسونية، التي توقف نشاطها مؤقتا أثناء حكم فيشي الموالي للنازية، لتعاود النشاط مرة أخرى بشكل شبه علني بعد الحرب العالمية الثانية.

2- كازينو السعدي.

كتب بن سودة معلقا وساخرا من قرار تشييد كازينو مراكش ما يلي:

« دخل علي ابن أخي هذا الصباح وهو يدخن ووجهه كالمصباح وبدت عليه علامة الانشراح وهو يقرأ جريدة الصباح. ثم كلمني بالجد لا بالمزاح، وقال يا عمي (المداح) لقد صدر من الوزارة قرار حلَّلَ القمار، الذي شيدت له الديار وستنفق عليه مراكش الفرنك والدولار، وسيؤمها السياح والزوار. والله يا عمي المهذار، الآن زالت الأكدار وأُحِل لنا الخمر والقمار. وفرح ابن أخي وطار وغنى كالهزار وأصبح الدخان في فمه كالمزمار. فقلت له عياذا بالله من الشيطان، هات القرار من مكتوب القفطان. ثم قلت له اخسأ يا لعين، إن القرار يحرم القمار على المسلمين، فقهقه كالمجنون وهز أكتافه كالمفتون، وقال يا شيخ يا عزيز، يا من يعيش في عالم العاج والإبريز، حينما ارتدي جبتي، ألبس قبعتي، وأحمل (شاك) ثروتي، هل تقف أمامي السدود، وأخشى القرارات والقيود. أحمد الله يا عمي أننا كنا في حاجة إلى هذا الإصلاح، فالآن بلغنا المرغوب والنجاح، فادع لي يا عمي بالتوفيق حتى لا أضطر إلى بيع الكأس والإبريق. فقلت له يا ولدي إنه حرام، حرام، حرام، حرام، فأجابني “نو” “نو” مش حرام، يا عمي الهمام، اجلس على حصيرتك يا أمين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. فنظرت إليه ودعوت عليه ونظرت في عينيه:

يُغمى على المرء في أيام محنته **** حتى يَرى حَسَنًا ما ليس بالحسن ».

انتهى نص ابن سودة الذي كتبه منذ ما يزيد عن 65 سنة، وانتهت بعدها بنحو 6 سنوات السيطرة الاستعمارية المباشرة على المغرب، فما الذي تغير في المشهد الآن؟؟

تحتضن مراكش ثلاث كازينوهات علنية للقمار – من أصل ثمانية بربوع المملكة تتوزع بين مدن أكادير ووارزازات والجديدة وطنجة- تجتذب شذاذ الآفاق والممتلئين مَالاً حد التخمة، بما فيهم أثرياء مغاربة يطلق عليهم محليا لقب “لغنادر”

3- مراكش أو “لاس فيغاس” الإفريقية:

لم يكن الكازينو الذي علق عليه “المفتي” سوى كازينو فندق السعدي حاليا؛ أو “لكازينو” كما صار المراكشيون ينعتونه؛ والذي افتتح رسميا سنة 1952 ليكون أول محل قمار رسمي بالمغرب.

أما اليوم فتحتضن مراكش ثلاث كازينوهات علنية للقمار – من أصل ثمانية بربوع المملكة تتوزع بين مدن أكادير ووارزازات والجديدة وطنجة- تجتذب شذاذ الآفاق والممتلئين مَالاً حد التخمة، بما فيهم أثرياء مغاربة يطلق عليهم محليا لقب “لغنادر”.

وتحت نفس الذريعة التي قدمتها سلطات الاحتلال؛ أي تشجيع السياحة وجلب السياح؛ يأبى القائمون على أمر هذا البلد اليوم؛ إلا أن يقدموا تسهيلات على طبق من ذهب لرؤساء دور القمار العالمية.

فمنذ 2009 تسارعت وتيرة أنشطة القمار بالمدينة، حين أبدت الشركة الفرنسية “فوكيتس باريير” Fouquet’s Barrière رغبتها في بناء كازينو آخر بقلب جامع الفنا، وبدأ “كازينو السعدي” هو الآخر في أكتوبر من نفس السنة احتضان مسابقة قمار عالمية تحظى بمتابعة كبيرة من لدن كبريات شركات القمار بالعالم سنويا، بإشراف من “الدوري الدولي للبوكر”(WPT)، الذي صرح رئيسه المؤسس “ستيف ليبسكومب” Steve Lipscomb – في دورته الأولى- قائلا: « إن هدفنا هو جلب قيم لكل شركائنا وتوسيع مواضع بصماتنا عبر العالم !»، وقد أسدل الستار على النسخة الأخيرة من ذلك الدوري في الرابع من أكتوبر 2015، وبلغت قيمة جوائزه نحو 3.5 مليون درهم مغربي.

من جهة ثانية؛ أضحى ” كازينو المامونية”  التابع لفندق المامونية – أقدم فنادق المدينة والحائز هذه السنة على جائزتي “أفضل فندق في العالم” و”أفضل فندق في الشرق الأوسط وإفريقيا” اللتان تمنحهما مجلة بريطانية متخصصة في السياحة – منافسا قويا لنظيره السعدي.

ومن جهة ثالثة؛ ارتفعت أعداد ألعاب القمار واليانصيب في الخمسة عشر سنة الأخيرة بشكل جنوني، وتكفي زيارة موقع الشركة المغربية للألعاب والرياضات (MDJS)- وهي شركة مجهولة الاسم تأسست سنة 1962 في إطار “مغربة” اليانصيب- للوقوف على حجم الكارثة التي تم التطبيع معها بشكل لافت، وسمح لها أن تدخل بيوت المغاربة دون استئذان عبر وسائل الإعلام الرسمي.

4- يناصيب ونَصَبٌ.

أي منفعة يمكن جنيها من هذه الأنشطة؟ وأي خير يرجى من ورائها؟

قد يكون الجواب السريع على لسان محترفي الربح من المال الحرام، متبجحين بأن تنظيم تلك الألعاب يدر على خزينة الدولة عائدات مالية هائلة لا تقل عما تدره عليها عائدات الخمور، فحسبما أوردته شركة الألعاب تلك في أحد تقاريرها، فقد بلغ عدد المتعاطين للقمار بمختلف أنواعه نحو ثلاثة ملايين مغربي، أي نحو 11% من ساكنة البلد، وأن كازينوهات المملكة تحقق أرباحا كبيرة تقدر بملايير الدراهم، على اعتبار أن مجموع ما يخسره الفرد الواحد يصل إلى أزيد من خمسمئة درهم بلعبة الآلات، وأزيد من أربعة آلاف درهم بالنسبة للعب على الطاولة، والفرد هنا طبعا هو العامل والفلاح والتاجر والأجير والجندي والموظف والطالب والتلميذ، وبالمحصلة الشعب المغربي برمته.

أما المتأمل في تلك الأرقام فسيدرك الخطر الداهم لهذا الرجس على هذا الشعب قيما ونسيجا أسريا، وسيكتشف بنفسه عظم الكارثة الذي لا يقارن مطلقا وحجم الربح المادي المتغنى به، فقد تناسلت مراكز اليانصيب والقمار بكل أصنافه وغزت أحياء مراكش بشكل مخيف وغدت كابوسا مؤرقا للعديد من الأسر ممن اصطلت بنارها، ودفعت العديد منها إلى الإفلاس والعوز، ويا ما طالعتنا الصحف ووسائل الإعلام المختلفة بقصص انتحار مقامرين وتشرد عائلات، وما يعقب ذلك من طلاق وإجرام وبؤس مجتمعي.

5- فهل أنتم منتهون؟

ما أشبه اليوم بالبارحة!.. لئن كان قرار الاحتلال في زمن “المفتي” مفهوما ومعلوم الغايات والأهداف؛ فإن الوضع اليوم لا يوجد له من تبرير سوى إمعان المسؤولين عن هذا البلد في هدر مقدرات الشعب المغربي والعدوان على هويته ومقوماته الحضارية وركائزه الاجتماعية في تكالب مكشوف مع المقامرين العالميين.

* مراجع:

– المصمودي، حسن أحمد: صفحات من تاريخ المغرب المعاصر: أحمد بن سودة في حديث المفتي، مسيرة نضال وثبات، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1987، ص. 461.

– بلوط، عبد الغني: “كازينوهات مراكش… علنية في السر”، التجديد، 25 ماي 2008.

– العطاتري، عزيز: “أكبر تظاهرة لقمار الكازينوهات بمراكش”، المساء، 7 يوليوز 2009.

– Narjess GHACHEM BENKIRANE (texte) et Philippe SAHAROFF (photographies), Marrakech. Demeures et Jardins secrets, Paris : ACR Édition, 1990.

– Jeune Afrique, n° 2525, 31 mai au 6 juin 2009, p. 169.