لا يُفوت السيد رئيس الحكومة المغربية الحالي، عبد الإله بنكيران، فرصة إلا ويؤكد فيها مدى التقدم الذي حققه المغرب بفضل الذكاء “الخارق” للدولة المغربية في طريقة تعاملها مع ما سمي بـ”الربيع العربي” الذي صار البعض ينعته خريفا لعدة اعتبارات. ويقر السيد رئيس الحكومة بموازاة ذلك كما يتفق معه مؤيدون ومعارضون على أن الوضعية السياسية للمغرب قبل 2011 وسلوكات أطراف وأجهزة عديدة في الدولة، بالإضافة لانسداد أفق الانتقال نحو الديمقراطية الذي طال أمده بعد سنوات من الخطاب والكلام فقط، وسيادة الفساد في أوساط واسعة وانعدام أقل أسس العدالة الاجتماعية كانت أهم الدوافع التي دفعت الشباب المغربي وعدد من الهيئات للالتحاق بسرعة للاستجابة لنداء ضمني في فبراير من سنة 2011 والخروج للشارع شهورا للمطالبة بالإصلاح. 

لم يكن السيد رئيس الحكومة أبدا من المؤيدين لذاك النداء، كما يقر هو شخصيا. لم يستجب حزبه لتطلعات الشعب كما جل الأحزاب المشاركة في العملية الانتخابية، وليس السياسية، في المغرب في وقتنا الحالي، لكنهما، أي حزب بنكيران والرجل نفسه، يعتبر أهم المستفيدين من حركية الشارع المغربي التي تزعمتها حركة 20 فبراير الشبابية المجيدة. إذ بعد أن كان حزب العدالة والتنمية مهددا بالاختفاء من المشهد السياسي الوطني لعدة أسباب وبدافع من أطراف محددة أصبح في أقل من 10 أشهر على انطلاق الحراك يتزعم السلطة التنفيدية للبلد ووجد قياديوه أنفسهم في مركز صناعة القرار بعدما كانت زنازن السجون تأوي عددا منهم دون أي تهم غير تصفية حساب، على ما يبدو بعد مرور سنوات على تلك العمليات التي اعتقلوا على إثرها.

كيف سيبرر السيد رئيس الحكومة الواقع الوطني الحالي بعد مرور أربع سنوات على توليه المنصب الثاني في البلد؟ كيف يبرر كل القمع الذي يطال الاحتجاجات السلمية بشكل شبه يومي أمام قبة البرلمان

ومنذ وقتها وإلى اليوم والحزب القائد للائتلاف الحكومي، في نسختيه الأولى والثانية، يواصل الترويج لخطاب، هو خطاب الدولة الرسمي نفسه، مفاده أن المغرب لم يعد دولة القمع والفساد والتحكم، بل أصبح دولة مؤسسات وقوانين واحترام لحقوق الإنسان، لا مكان فيها لمن يريد التحكم في المشهد السياسي أو الأحزاب ومنه لمن يريد أن يمسك على رقاب المواطنين بالترهيب و”الزرواطة”. بل وأصبح من يروج لعكس ذلك بمثابة “خائن” للتجربة المغربية، رمز “الاستثناء”، حسب هذا الخطاب، في وقت تحرق فيه بلدان عربية بنيران الإرهاب وتدمر أخرى بنيران القمع والاستبداد المدعوم من طرف جهات دولية. وحتى خطابات عاهل البلاد، محمد السادس، سارت في نفس الاتجاه، فوجدها رئيس الحكومة سندا بسبب “توريتها” مقارنة بخطابات السنوات الأولى لجلوس الملك على العرش. 

لكن كل هذا وللأسف لم يستطع النزول من أبراج الخطابات الرسمية إلى أرض الواقع، إذ مجرد نظرة بسيطة للوضع سيتوصل المرء لخلاصة مفادها أن المغرب الذي يُتحَدث عنه مغْرِبان. مغرب الخطاب الرسمي ومغرب الشارع والرأي العام، حيث لا علاقة تذكر بينهما. وإلا فكيف سيبرر السيد رئيس الحكومة الواقع الوطني الحالي بعد مرور أربع سنوات على توليه المنصب الثاني في البلد؟ كيف يبرر كل القمع الذي يطال الاحتجاجات السلمية بشكل شبه يومي أمام قبة البرلمان للمعطلين مثلا، والأطباء والأساتذة والحقوقيين وغيرهم. قمعٌ ومنعٌ ما كانت هذه الفئات مثلا تتعرض له حتى في زمن “التحكم”، كما لا يتوانى الرجل نفسه وحزبه نعته. 

لا يستطيع أحد أن يخفي بأن في مغرب اليوم هيئات سياسية وحقوقية وعلمية وطنية غير معترف بها من طرف الدولة المغربي بدون مبرر قانوني، غير كونها تغرد “خارج الإجماع” الذي ترسمه جهات غير معروفة. كما أن هناك كفاءات وطنية في مختلف المجالات غير معترف به داخليا يستفيد غير المغاربة من تجاربهم وخبراتهم لأنهم مقصيون من العطاء في وطنهم بسبب لونهم السياسي أو تبنيهم لآراء تزعج الدولة بدون مبرر. كيف يعقل كل هذا؟ وبأي مبرر يمنع شخص من العطاء والعمل في وطنه فيما هو لا يتبنى أفكارا تشكل خطرا جسديا أو معنويا على الوطن والمواطنين؟

إن كل هذه السلوكات واستمرارها ستواصل فضح وضع المغرب دولة وحكومة ومسؤولين وستجعل كل خطاب كالذي ألفناه في إعلامنا العمومي وقطاع واسع من المسمى “مستقلا” منذ سنوات، وكذلك في البرلمان وباقي مؤسسات الدولة مجرد ضحك على الذقون، خاصة بعد أن نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في لعب دور كبير في إيصال المعلومة والخبر كما هو لفئات واسعة جدا من المغاربة، وخاصة الشباب الذين لم تعد نسب كبيرة منهم تثق بتاتا في الدولة وفي مؤسساتها، بل وفي العملية السياسية برمتها بسبب هذا الانفصام الذي لن يزيد الوضع إلا تدهورا مع مرور الأيام وتوالي السنوات.