إيمبرطو إيكو يرحل.. !!
رحل “الرجل الذي يعرف كل شيء”. بهذه الكلمات نقلت جريدة “لاريبوبليكا” الإيطالية، وفاة الفيلسوف والناقد والروائي امبرتو ايكو، الذي ودع العالم عن سن تُناهز 84 عاماً.!!.
آراء أخرى
بالنسبة لـ إيمبيرطو إيكو، لم يكن العلم التجريبي الذي افتتحه اللغوي الفرنسي الراحل رولان بارت مجرد نظرية، بل اعتبره صلة ربط بين التفكير والممارسة الأدبية، بين المعرفة العلمية والثقافات الشعبية.
بعد مناقشته لـ رسالة الدكتوراة في سن مبكر جدًا، بحسب الأعراف الجامعية والأكاديمية الراسخة، بحيث الأطاريح تتطلب الزاد العلمي الطافح بلا ضفاف، واختمار الآليات المنهجية والتحليلية، وصقل المعارف و إثراءها.. إلا أن إيكو ربما كان حاذق الرؤية كامل الإرادة واثب الطريق نحو الهدف.. ؟!
-1- النشأة بالقراءة والتكوين وسط الكتب.. !!
وجوده كـحفيد لجد وهو يحكي عن صباه “.. حينما كنتُ في السادسة من عمري. كان كل شيء في العالم يثير فضول جدّي، وقد كان يقرأ الكثير من الكتب، الأمر الرائع أنه حينما تقاعد، بدأ يعمل في تغليف الكتب وتنضيدها. فكان لديه الكثير من الكتب بلا أغلفة، ملقيّةً هنا وهناك، بكل ركن من شقته، كتب قديمة، كتبٌ مصوّرةٌ جميلة، وطبعات شهيرة تعود للقرن التاسع عشر روايات لـ تيوفيل غوتييه وألكساندر دوما. كانت تلك أول مرة في حياتي أشاهد فيها كتابا. وحين توفيّ جدّي في العام 1938، لم يأتِ الكثير من أصحاب تلك الكتب غير المغلفة ليطالبوا بها، فاضطّرتْ عائلتي لأن تضع كل هذه الكتب في صندوق كبير. وبالصدفة البحتة، حلّ هذا الصندوق الكبير في قبو منزلنا”.
الوالد على عكس الجد، يبرر إيكو ذالك “لكن لأن عائلته كانت تعيل ثلاثة عشر طفلاً، فمن الصعوبة أن يقتني أبي الكتب. إذ كان أبي يذهب لأكشاك باعة الكتب ويقف ليقرأها بالشارع. وأحيانًا كنت أجد أبي يقرأ روايات استعارها من أصدقائه.”.
بينما الأم “كانت تقرأ الكثير في شبابها، لكنها لاحقًا، كلما تقدم بها العمر، بدت تميل للروايات الرومانسية أكثر، والمجلات النسائية. وأنا لم أكن أقرأ ما كانت تقرأه أمي. لكنها كانت تتحدث الإيطالية بنبرة عذبة، ولديها أسلوب جميل بالكتابة، جعل كل معارفها يلجؤون إليها لتكتب رسائلهم. بالرغم من أنها تركت المدرسة في سن مبكرة، لكنني لازلت أذكر إحساسها الجميل تجاه اللغة والمفردات، وأعتقد بأنني ورثت الكتابة عنها بشكل ما.”.
هذه الوراثة كان لجدته فيها الدور الأبرز “.. لأنها كانت قارئة نهمة. لم تتم الصف الخامس من الدراسة، لكنها كانت عضوًا في المكتبة العامة، فكانت تأتي بكتابين أو ثلاثة كل أسبوع من أجلي. أحيانًا أحصل على رواية رخيصة، وأحيانًا أخرى رواية لـ بلزاك. لم يكن هناك فرق كبير بالنسبة لجدتي، فجميع الكتّاب عندها مدهشين.”.
وراثة القراءة من الجد والجدة والكتابة من الأم، ربما الجينات و الخلايا أصبحت مشبعة بالدهشة المطلوبة للتأمل الفلسفي ومحقونة بالمعارف لدى الكتاب وذالك منذ فتوته، يقول إيكو “..في فترة مراهقتي كنت أصنع مجلات مصورة أبتكرها من خيالي، لقد كنت أقرأ الكثير منها. وأكتب روايات خيالية تدور أحداثها في ماليزيا ومجاهل أفريقيا. كنت مهووسًا بأن تكون كتبي مصورةً ومتكاملة بكل تفاصيلها، كي تبدو كما الكتب الحقيقية. فقد كنت أكتبها بأحرف كبيرة، وأبتكر عناوين للصفحات، وملخصات، ورسومات توضيحية. كان الأمر منهكًا، لدرجة أنني لم أتمّ أيًا منها. كنت أعظم كاتب للكتب غير المنجزة بلا فخر.. !!”
-2- الإضراب السياسي فرض طرح أسئلة فلسفية جديدة.. !!
بالرغم من معايشة إيكو الصعبة لمرحلة الحرب في إيطاليا، ونجاته مرة بأعجوبة من رصاصة كانت سترديه قتيلا، إلا أننا ربما الآن تداركنا الذي مكنه من نيل شهادة الدكتوراه في سن مبكر جدا، يقول: ” كان تعليمي كاثوليكيًا. وخلال فترة دراستي الجامعية، تعرفت على تنظيم طلبة الكاثوليك الوطنية. وكنت معجبًا في أفكار العصور الوسطى والفترة المبكرة من المسيحية. فقدمت أطروحة عن علم الجمال لدى توما الأكويني، لكن قبل ذلك كان إيماني قد تزعزع. كانت تلك الأيام فترة اضطرابات سياسية. حيث وجدتني أميل أكثر للجانب الطليعي من المنظمة الطلابية مهتمًّا أكثر بالمشاكل الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية. وكان حزب اليمين مدعومًا من البابا بيوس الثاني عشر. وفي يومٍ ما، تلقّى الجناح الذي أنتمي إليه في المنظمة الطلابية اتهامًا بأننا مهرطقين وشيوعيين. حتى أن صحيفة الفاتيكان الرسمية هاجمتنا. هذا الموقف أطلق العديد من الأسئلة الفلسفية برأسي وجعلني أعيد النظر في إيماني “.
-3- العمل التلفزيوني كان بداية الاهتمام السميولوجي !!..
ويضيف “لكن دراستي للعصور الوسطى وفلسفتها لم تتأثر بذلك. ولا داعي للذكر بأني تابعت دراسة توما الأكويني المحبب لقلبي… !! ” بحيث ” بعدما أنهيت أطروحتي أثناء عملي في التلفزيون الإيطالي. وذاك في العام 1954، أي بعد شهور قليلة فقط من أول بث تلفزيوني. كان ذلك بداية عصر وسائل الاتصال المرئية في إيطاليا. فبدأتُ أتساءل، إن كنت أعاني من انفصام غريب في شخصيتي. إذ فمن ناحية، أراني مهتمًا بالفن والأدب التجريبي، ومن ناحية أخرى لديّ ذلك الشغف بالتلفاز، والقصص المصورة، وروايات المحققين والجريمة. بطبيعة الحال، تساءلتُ، هل هناك احتمال أن تكون اهتماماتي مرتبطة ببعضها وليست متنافرة؟ فاتجهت لدراسة السيميائيات لأني كنت أريد توحيد كل مستويات اختلاف الثقافة. واتضح لي أنّ أيّ شيء تبثه وسائل الاتصال بالإمكان أن نضعه تحت مجهر التحليل الأكاديمي.”.
تعود جذور إيكو الفكرية، ، في أصولها الأولى والأساسية حسب ذكر مفيد نجم في مقالة له حول ترجمة الدكتور سعيد بنكراد لكتاب إيكو الموسوم بـ “كتابه التأويل بين السيميائيات والتفكيكية”، “إلى السيميائي الأمريكي تشارلز سندرز بيرس (وليس بورس، كما أوْرَدَ المترجم)، خاصة فيما يتعلق بسيرورة إنتاج الدلالة واشتغال العلامات. والتأويل لديه قد يتطلب المضيَّ إلى حدوده القصوى، أو قد نحيطه بمجموعة من الحواجز والقيود لأننا نرى فيها دليلاً على فهم ما تريد العلامة أن تقوله؛ وفي كلا الحالتين فإن الذي يبقى ثابتًا هو أهمية التأويل وضرورته”.
ويركز إيكو في صياغته لقضايا التأويل على معطيات تطبيقية تنتمي إلى التفكيكية، أو التأويل المضاعف، وإلى الـ “semiosis” التأويلية، كما يسمِّيها هو: “إذ ليس فقط أن أصحاب هذا المذهب يفترضون كل شيء عبارة عن نصّ – بما ذلك الطاولة التي نجلس عليها الآن – وأن كل نصّ بالإمكان تفسيره بتفسيرات لا متناهية. لكن أصحاب هذا الاتجاه أيضًا يتبعون فكرة جاء بها نيتشه، والتي تقول بأنه ليس هناك حقائق بل مجرد تأويلات. على العكس من هذه الفكرة، أتبعُ تشالز ساندرز بيرس، الذي كان بلا شك أعظم فيلسوف أمريكي وهو من أسس السيميائيات ونظرية التأويل. فهو من يقول بأننا نفسر الحقائق عبر الدلالات. إن لم تكن هناك حقائق، وفقط تأويلات، فماذا سيتبقى لنفسره؟ هذا ما ناقشته في كتابي (حدود التأويل). “. إذ يجب البحث فيما هو أعم وأشمل عبر العودة إلى وقائع لها علاقة بموقف الإنسان من العالم، والله، والحقيقة، والمعرفة، وتاريخ الحضارات والثقافات.. !!
يقول إيكو “التاريخ أكبر معلم..”، وظل المعطى الثابت في كتابة هو “رؤية المعنى حيث يراد لنا أن نرى الحقائق فقط”. وفي هذا السياق سعى إلى تطوير سيميائية عامة مكشوفة في العديد من دراساته الفلسفية: «البنية الغائبة»، «العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه»، «دراسة في السيميائية العامة». انكب على تعريف الفن في كتابه «الأثر المفتوح»، مركزاً بصفة خاصة على الأدب والموسيقى، ومفندا أسس النظرية القائلة بأن العمل الفني هو رسالة ملتبسة ومفتوحة لتأويلات لا حصر لها.
-4- السرد والكتابة الروائية عند إمبيرتو إيكو هي سيرة ذاتية كما صرح للكاتبة ” Lila Azam Zanganeh” !!..
انتقل إيكو بسلاسة العارف إلى الكتابة الروائية، كانت أولى باكورته من هذه التجربة ما عنونه بـ “اسم الوردة” وكانت ذالك سنة 1982، يقول ” في رواية اسم الوردة، كنت وقتها مهتمًا بالعصور الوسطى، فكان لدي مئات البحوث، فأخذت مني الرواية فقط سنتين لأكتبها”. بينما يقول عن روايته “بندول فوكو”: “أخذت مني ثمان سنين من البحث والكتابة..! وبما إني متكتّم عادة حول ما أفعله، بت أحيا وحدي في عالمي لعشر سنوات.”.
إيكو وهو يحكي سيرورته، كما جاء في كتيب صغير له، بعنوان: “حاشية على اسم الوردة”، 1983، ترجمة سعيد بنكراد: “..لا يتوقف عند تأويل أو تفسير لحدث ما، ولكنه يومئ إلى ما يقف خلف هذا الحدث ويحيط به ويبرره ويمنحه معنى: دوافع اختيار هذه الفترة التاريخية دون غيرها، دوافع اختيار المحقق، إحالات على قراءة الأمارات، صراع بين أجنحة الكنيسة، غطرسة التفتيش الكنسي… إلخ، وهو في كل هذا لا يوحي بأنه يريد أن يضمن نصه معرفة «عالمة»، ولكنه يبث المعرفة في الحدث والشيء والشخصية.”.
يشرح إيكو غربته في الكتابة الروائية: “أخرج إلى الشارع، أرى سيارة، أرى شجرة، وأقول لنفسي: ..هذا قد يكون له صلة بروايتي. كانت القصة تنمو يومًا بعد يوم، فكل شيء كنت أقوم به، أو أي شيء تافه بالحياة، أو محادثة، كان بالإمكان أن يلهمني بفكرة. ثم قمت بزيارة الأماكن الحقيقية التي كنت أكتب عنها..”
لايكتفي بكل تلك الغربة وذالك الواقع بل يربطه مع باعه الكبير بمعرفته الفلسفية والتاريخ، مثلا روايته “مقبرة براغ”، وموضوع الحب والكراهية، الصادرة سنة 2010، ودمج كل ذالك في سعة خياله الطافح مُتعة وأدبا ومعرفة ومعنى: ” بإمكان الخيال أن يخلق الواقع. “باودولينو”، روايتي الرابعة، تتحدث عن هذه النقطة بالذات. باودولينو شخص مخادع يعيش في بلاط فريدريك بارباروسا، الإمبراطور الروماني المقدس. وهذا الصبي باودولينو يبتكر أشياء كثيرة من خياله، لأن الخداع والزيف بإمكانه أن يولّد أحداثًا تاريخية حقيقية. مثل تلك الرسالة من بريستر جون: كانت رسالة مزورة – وفي روايتي لم يكتبها أحد إلا باودلينو نفسه- لكنها رسالة… وصف لمملكة مسيحية رائعة في بداية نشوئها في مكان ما من الشرق الغامض.”، ويستطرد إيكو “مثال آخر مشهور: بروتكولات حكماء صهيون. إنها مزيفة، لكن هذه البروتوكولات أسست ودعّمت فكر الحزب النازي، وبشكل ما دفعت إلى محرقة اليهود. لأن هتلر استعان بوثيقة البروتوكولات ليبرّر بها إبادة اليهود. ربما كان يعلم أنها وثيقة مزيفة، لكن في قرارة نفسه، الوثيقة وصفت اليهود كما هو يريد أن يصفهم. ولهذا اعتبرها وثيقة حقيقية.”.. !!
كانت آخر رواياته الرائعة، والتي صدرت العام الفارط، سنة 2015 بعنوان “العدد صفر-NUMÉRO ZÉRO” ينتقد فيها نظرية المؤامرة، من خلال التحقيق الصحفي الغريب الذي يقوم به الصحفي براغادوتشيو عن مقتل موسوليني، إذ يعتقد الروائي الإيطالي الراحل أن نظريات المؤامرة تنتشر بشكل غريب عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ، وكأنه بها يودع العالم ويحذرهم من مخاطرالبرامج التلفزيونية ” أستعين بالمواد المتلفزة كمادة لعملي. لكنني لست من النوع الذي يشاهد التلفاز بنهم، فليست كل البرامج تجعلني استمتع. أحب المسلسلات الدرامية، وأكره البرامج الحوارية السخيفة. ” كما امتعظ من الدردشة الفارغة والكتابة بدون معنى، ويحذر من آراء المجانين الذين تحفل بهم مواقع الأنترنيت الاجتماعية.. !!
يقول إيكو “كتاباتي الروائية لم تكن قفزة مفاجئة كما يظن الكثير، لأنني حتى وفي رسالة الدكتوراه، أو في النظريات التي أقدّمها، كنت أكتب ما يشبه السرد الروائي. فكّرت كثيرًا حول ما يكتبه الفلاسفة في كتبهم، وجدت في أساس كتاباتهم إنما يسردون قصة بحثهم، مثلما بالضبط حين يشرح العلماء كيف تمكنوا من التوصل إلى اكتشافاتهم المهمة. أظن أنني (في كتاباتي الأكاديمية) كنت أسرد القصص طوال الوقت، سوى أنني كنت أسردها بطريقة مختلفة قليلاً.”.
ختاما
يقول فرديريك نتشه: “ان الفكرة تجئ حين يحلو لها هي وليس حين يحلو لي أنا” ويضيف أيضا: “اختاروا الوحده الجيدة، الوحدة الخفيفة الإراديه الحرة، التي تخولكم أيضا البقاء صالحين بمعنى من المعاني” لعل أمبرتو إيكو كان ذا غربة وذا معنى، كا ذا خيال وذا معرفة.. لذالك كان كاتبا مشوقا للقارئ الذكي، شهير بالحبكةِ المعقدةِ والتفاصيل الغامضة التي يودعها ألغازه التاريخية. وبالنظر إلى خلفية إيكو الفلسفية والتاريخية والسيميائية والثقافية الواسعة، ليسَ من المفاجئ أن تستمد كتبه وهج موضيعها وكأنها “مرج المعرفة”، من هذه المجالات المعرفية، غير أن المذهل هو جاذبيتها المنتشرة. كتبه، المترجمةُ إلى عشرات اللغات، والمقروءة عالمياً والمنتقاة أكاديميا.. ولا غرو وهو الأكاديمي المحاضر في العديد من الجامعات ومؤخرا في “كوليج دو فرنس Collège de france”..!!