يندرج هذا المقال ضمن الفحص المنهجي لما يصطلح عليه في الأدبيات السوسيولوجية بالسلوك الجمعيcomportement collectif، والقراءة المتأنية للحركات الاجتماعية، شعاراتها ودينامياتها والفئات الفاعلة، وكيف تتمظهر كمؤشرات وكأفعال، وكذلك العوامل المؤثرة فيها، وأثرها على السياسات العمومية. 

ولما كان المقام لا يسمح بعرض التفاصيل، اقتصرنا على قضايا بعينها مرتبطة بحدثين، أحدهما يقع في بلدنا، وهو ما اصطلح عليه باحتجاج أساتذة الغد، والآخر هو حركة قيام الليل « nuit debout » في فرنسا.

دون الخوض في نقاش نظري تعريفي، نطرح أولية كون السلوك الاجتماعي الذي نحن بصدد محاولة فهمه حراكا اجتماعيا، لأنه:

 يمثل فئات اجتماعية بعينها؛

 تحمل مطالب؛ 

وتستعمل أساليب خاصة للوصول إلى تحقيق هذه المطالب.

يبدو العنوان مفارقا، إذ يصعب أن نقارن بين فعل قطاعي شبه نقابي، هو احتجاج، أساتذة الغد في المغرب، يرفض مرسومين  ينصان على عدم الجمع بين التكوين والتوظيف، وهما مرسومان يبدوان تقنيين ومحصورين في مسألة فريدة بعينها، في حين أن الفئات المعارضة لهما، بما في ذلك أساتذة الغد، تعتبرهما بداية ترسانة من القوانين تحاول الإجهاز على المدرسة العمومية… 

تصعب المقارنة إذا بين هذا الفعل وفعل اجتماعي جماهيري نوعي، يشمل الشباب والكهول والمعطلين والأجانب وحتى اللاجئين في فرنسا، ويرفع شعارات جذرية تطال الثورة وتغيير النظام.

غير أن الفاحص والمدقق سيجد في الحدثين وجه شبه غير يسير، لعل أهمها الدفاع عن المكتسبات. وهو أمر يدل على استئساد النيوليبرالية دوليا، حيث عدم قدرتها على أي تنازل، بل وحتى على إبداع أساليب جديدة ترضي أطراف الإنتاج، مشغلين ومشغلين، كما كان الأمر عليه حتى في الموطن التقليدي للرأسمالية والليبرالية، الولايات المتحدة الأمريكية، ابتداء بالتايلورية التي تفهمت عدم تقبل العمال لأعمال متسلسلة وروتينية دون محفزي التعويضات المالية وتحديد ساعات العمل ، حتى إجراءات أوباما لتجاوز أزمة 2007 بضخ الأموال في أرصدة الأبناك من جهة، ومأسسة الحماية الاجتماعية من جهة ثانية، مرورا بما سمي في حينه بالسياسة الجديدة لروزفلت وتدخل الدولة من أجل تجاوز الأزمة المالية والاقتصادية دون الخوف من تهمة الشيوعية. 

في فرنسا حيث يسود طغيان المقاولات الوارثة على حساب المقاولات المكافحة بتعبير الاقتصادي الكبير توماس بيكيتي، وفي المغرب حيث سيادة اقتصاد الريع، لم يعد يطلب سوى الحفاظ على المكتسبات.

فما الذي حدث؟ 

في فرنسا حيث يسود طغيان المقاولات الوارثة على حساب المقاولات المكافحة بتعبير الاقتصادي الكبير توماس بيكيتي، وفي المغرب حيث سيادة اقتصاد الريع، لم يعد يطلب سوى الحفاظ على المكتسبات.

 تعيش فرنسا اليوم على وقع حدثين اجتماعيين جد ملفتين، يتجلى الأول في ظهور شكل احتجاجي جديد  أطلق على نفسه ” قيام الليل”  « nuit debout » يحاول جاهدا أن يرغم الحكومة على التراجع عن ما يسمى بمشروع قانون مريم خمري وزيرة الشغل الفرنسية في الحكومة الحالية، القانون الذي يحاول الإجهاز على المكتسبات الاجتماعية في رأي الرافضين، الإجهاز على عقد الشغل غير المحدد المدة cdi وتمكين أرباب المقاولات من تسريح المشغلين بدون شروط، وكذلك تمديد عدد ساعات الشغل…كل ذلك بدعوى العولمة والثورة المعلوماتية كما جاء في ديباجة القانون، وكذلك بدعوى نجاح نفس الإجراءات في انكلترا، حيث وفر  توسيع هامش الحرية للمقاولات حظوظا أكبر في القدرة على التشغيل والحد من البطالة، وهو الأمر الذي حصل فعلا في المملكة المتحدة. لكن هل يمكن تنقيل مثل هذه الإجراءات من بلد ألف عدم التزام الدولة بالاجتماعي إلى دولة انبنت أساسا على التضامن؟ 

 يتجلى الحدث الثاني في ميلاد حركة سياسية جديدة أسست انطلاقا من “جيمات” موقع الكتروني، إنها حركة “أونمارش” أو لنتمشى، إن صحت الترجمة، وهي الحركة التي أسسها وزير الاقتصاد الحالي في حكومة هولوند “إمانويل ماكرون”. الحركة الذي لا تمنع منخرطيها من الانتماء إلى أحزاب أخرى لا تتناقض مع شعاراته وقيمه، والتي تعلن ضرورة تجاوز إنهاك الانشقاقات لسياسة البلد والمجتمع. بالنسبة للحركة لم يعد هناك معنى للتقسيم التقليدي يمين ويسار، إنما العبرة بالقدرة على خلق فرص جديدة للشغل، وهو أمر جديد في الساحة السياسية والاجتماعية الفرنسية.

 وهي الحركة التي تذكرنا  بحزب ” بوديموس” الإسباني، الذي يعني لغويا نستطيع، والذي انطلق من إرادة تحويل الاحتجاج إلى فعل سياسي انتخابي، ابتداء بتوقيع مجموعة من الأساتذة الجامعيين والطلبة والمثقفين والصحفيين والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين على بيان من موقع جريدة إلكترونية. 

لا تهمنا الأحدث هنا في حد ذاتها، لكن كونها نوعا من التعبير عن الرغبة في التغيير على مستوى التنظيم السياسي لا يمكن إلا أن تساهم في قراءة وفهم التحولات الحركية في المجتمعات الكونية، والمغربية خاصة.

هي احتجاجات غير مؤطرة حزبيا ونقابيا، حيث يبدو أن الأحزاب والنقابات الآن فقدت البوصلة، لأنه ببساطة لم يعد هناك ما يوحد المحتجين غير الاحتجاج ضد سياسات تضييع المكتسبات، الاجتماعية منها خاصة، والتشغيل بشكل أخص، وهو احتجاج يشبه الربيع العربي من حيث عدم التأطير من جهة، والانتظام في منسقيات من جهة، وخلق لجن للتواصل وأخرى لليقظة، وأخرى للأمن وغيرها…

نحن إذا أمام أزمة اجتماعية تتمظهر في الفوارق المجتمعية الضخمة، حيث رفاهية جماعات قليلة بشكل ملفت، وبقاء الفئات الشعبية في مستوى التهميش و البؤس.

يتجلى الفرق بين احتجاجات الهنا والهناك في النتائج. هناك، وكما اضطرت الحكومة أن تتراجع عن قانون نزع الجنسية بعد أحداث باريس لن يمر قانون خمري، وذلك بمؤشرات وقرائن كثيرة وقوية وموحية وعلى رأسها تشبث المجتمع بمطالبه. 

هنا وبعد مخاض عسير يحصر التفاوض في التوظيف، توظيف من مر في اصطفاء عسير ومقابلة شفوية ويملك إجازتين أحيانا، في حين حمل الصراع معه ومنذ البداية ما هو أعمق، وهو الصراع حول التزام أو عدم التزام الدولة بتعليم أبناء دافعي الضرائب والمالكين الحقيقيين للخيرات. 

كيف انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه؟

 يجيب أساتذة الغد بكون قضيتهم لم تلق الدعم الكافي، لا إعلاميا ولا من طرف الأحزاب المشغولة بأشياء أخرى لا تقل ضيقا عبر سلوكها الانتخابوي المعهود، ولا من طرف النقابات وشبه مفاوضاتها مع الحكومة التي تذر الرماد على العيون.

 أما الطلبة فأكثر جذرية لأنهم يطالبون الدفاع عن مكتسب آخر أقدم وأهم وهو عدم اعتماد الاصطفاء أصلا في الولوج إلى مراكز تكوين الأساتذة.

 وبذلك حصل مرة أخرى وكما هو معتاد توظيف القاعدة السياسوية التقليدية فرق تسد.

“حصول ذلك كله راجع لريع أساسي هو الخبرة التقنوية والسياسوية الذي تتمتع بهما الطبقة المستفيدة، والمالكة للسلطة، والتي تلعب على الاختلافات وجهل الفئات بمصالحها.” يقول رجل شارع.