يعود الحديث إلى الواجهة، بقوة، عن ظاهرة العنف الجاهلي داخل الجامعة المغربية، بعد ما أقدم فصيل البرنامج المرحلي اليساري، على إقامة محاكمة لطفلة قاصر، لا يتجاوز سنها 16 سنة، بكلية العلوم بمدينة مكناس.

قضاة المحاكمة قضوا بصفع المسكينة 40 صفعة على وجهها الطفولي وحلق شعر رأسها وحاجبيها!

إقامة المحاكمات بساحات الكليات والأحياء الجامعية، ليس وليد اليوم، بل هو امتداد لتاريخ اليسار داخل الجامعة المغربية.

لما كل هذا العنف؟ ما جذوره الفكرية التي تغذيه؟ ما جذوره الاجتماعية التي تنميه؟

أسئلة كثيرة تطرح أمام هذه المشاهد الصادمة، التي ما زالت تمارس في قرن الحداثة وحقوق الإنسان!

أول ما جاء به الإسلام، تحرير الإنسان من الجهل بالله والكفر به ومن جهل العنف الذي كان يمارس عليه. هذه الرسالة النبيلة كانت واضحة بالنسبة للصحابة الكرام، وهو ما لخصته كلمة سيدنا ربعي بن عامر يوم دخل على رستم، فسأله: ما جاء بكم؟

قال ربعي بن عامر: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”..

ثلاثة أهداف لا تنفك ولا تنفصل عن بعضها:

ـ إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

ـ إخراج العباد من ضيق الدنيا إلى سعتها.

ـ إخراج العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام.

لا يمكن للعنف الجاهلي أن ينمو ويكبر ما لم تكن هناك شخصية تحب أن تعبد من دون الله، ولكي ترسخ عبادة العباد لها، لا بد أن تمارس العنف الجاهلي في حق العباد، لإرغامهم على عبادته.

ولا يمكن لشخصية المعبود أن تطغى وتتجبر ما لم تكرس مظاهر التضييق على أرزاق العباد لتوفير السعة لها ولحاشيتها.

ولا يمكن لهذا أن يحدث دون أن يجعل الحاكم المعبود للعباد ديانات تفرقهم وتقوي شوكته.

لذلك كان البرنامج هو إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد أولا.

التضييق على العباد في أرزاقهم وحريتهم الدينية ومعتقداتهم، من أجل الإيمان بمعتقد الحاكم ودينه، يجعلهم يفرون من الأديان كلها معتبرين إياها “أفيون الشعوب”، لأنها تكرس عبادة الشخصية باسم الدين، وما يتبع ذلك من تأليه الحاكم وإنزاله منزلة المبعوث من الله وظله في الأرض.

 من هنا كانت بداية انتشار الماركسية في بلاد المسلمين، ومنها المغرب.

 وقد وجد الخطاب الماركسي ضالته في أحياء الهامش، كما وجدها الفكر الداعشي. التركيز على العامل الاجتماعي، من أهم ما يركز عليه الفكر الماركسي، ويغذيه خطاب الكراهية لدين الإسلام ولأتباع دين الإسلام، باعتباره أفيونا يخدر العقول، ويصنع من الحاكم إلها في الأرض، لا يجب أن يسأل عما يفعل ويجب أن يكون الناس عبيدا له. هذه الفكرة مستوحاة من خطاب الراعي والرعية كما يكرسه الاستبداديون.

 في هذه الأجواء تتعمق جذور الكراهية في النفوس وتغذيها الجذور الفكرية للماركسية، حتى يصبح العنف أداة إقناع.

للماركسية وجهان في الاعتبار، هي عملة واحدة لا تكتمل قيمتها ولا يتم معناها إلا بهما: الإلحاد والثورة.

 الإلحاد جهل بالله وكفر به وبدينه، والثورة جهل بالإنسان وممارسة العنف عليه في أبشع الصور وبأبشع الوسائل.

 لإنجاز الثورة، عند الماركسيين، لا بد من الإلحاد، فالثورة عندهم لا يمكن أن ينجزها غير الملحدين الجاهلين بالله.

ترسخت هذه الفكرة بين أبناء المسلمين، حين تخلى دعاة الإسلام عن المسألة الاجتماعية ونصرة الطبقة المسحوقة، والاستكانة إلى الظلمة وتبرير ظلمهم وفجورهم…

حين يغيب خطاب العدل عند الإسلاميين ولا يبرزون للناس عمق مشاكلهم كما يبرزها الماركسيون، ولا يضعون مسألة العدل في مكانها البارز من البرنامج الإسلامي كما يضعون، ينسحبون، أي الاسلاميون، من الموقع الإستراتجي الأهم على الساحة الأرضية حيث يحسم الصراع على إقناع الجماهير، وبالتالي حيث يحسم الشوط الأول والأخير في الصراع على السلطة، أي على قيادة الشعب.

“في أذن الجائع لا يسلك إلا صوت يبشر بالخبز، في وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا برهان الحرية، في الأثر: «كاد الفقر ان يكون كفرا». فمن كان شغل يومه ونهاره هم القوت، والمأوى، والكسب والشغل، والدَّيْن، ومرض الأطفال، ومصير الأسرة، لن يستمع لعرض المبادئ العليا ولو كانت دينا يؤمن به، لا وقت له، لا استعداد، لا مناسبة. ويأتيه النقابي الماركسي، والمحرك الإديولوجي يعرض عليه حالته الاجتماعية، ويعلمه من هم أعداؤه الطبقيون كيف استغلوه، كيف ابتزوا رزقه، كيف أكلوا عرق جبينه، كيف أفقروا أسرته كيف اضطهدوه وسفكوا دمه، كيف يجب أن يتكتل مع من يدافع عن حقه، ويقدم الخدمات، كيف يثور على الظلم. لن تسمع تلك الآذان البريئة حديثا عن الدين في ذلك السياق المعاشي، لن يطرق ذلك الوعي الساذج ما يخدش الدين في وعود التحرر الذي يتعطش إليه المقهور المحقور”.*

* الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية

اشتغل الإسلاميون بفضح إلحاد الماركسيين وعدائهم للإسلام، غافلين عن أن حسم الصراع السياسي بيننا وبين الماركسية المادية، الالتصاق الشديدة بالهم اليومي للعامل والبائس، بالاقتصاد، بالإنتاج، بالتوزيع، بمعرفة الطبقة المستغلة الظالمة، بالدلالة على الوسيلة الثورية العملية الإجرائية للتخلص من الظالمين.

 يشرح الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله المسألة بتحليل أدق، في كتابه القيم، “الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”.

يقول: “تتقدم الإيديولوجية الماركسية على أنها تفسير للواقع الاجتماعي تفسيرا علميا يستند لتجارب التاريخ. ومن التفسير العلمي إلى التغيير مباشرة، ومن جملة التفسير الماركسي أن المؤسسات الدينية كانت دائما حليفا للثورة المضادة. وبما أن الإسلام في عصرنا وقبله استعمله الظالمون ويستعملونه لإسكات صوت المظلوم الجائع الضائع، وإلهاء العامة عن المطالبة بالإنصاف، فكيف نزحزح عن أكتافنا وزر التهمة بأن الإسلاميين، ككل المؤسسات الدينية، كتائب في جيش الثورة المضادة، لاسيما إن سكتنا عن الهم الذي يلهب الأكباد، أو اكتفينا بالتنديد اللفظي الهياب.

 تتقدم الماركسية على أنها تفسير لمصير المجتمعات البشرية، وتطورها، وظروفها العالمية، وآفاقها المستقبلية. والتفسير يخاطب العقل ولا يحرك الطاقات الإرادية، التفسير «الموضوعي» «العلمي» الذي تقترحه الماركسية للتاريخ ومصير المجتمعات البشرية «بارد» بالقصد كما ينبغي للعرض الموضوعي العلمي الذي يلاحظ ويستنتج بلا انفعال، بلا تحيز، بلا تشنج.

وتتمثل الدراية الماركسية في اعتماد الإقناع الفكري الهادىء لتتخده منصة يأتيها الطابق الدافع للصاروخ الثوري من تحتها فتتفجر الطاقة وينطلق الهيجان. الانفعال المخفي على مستوى التفسير الفلسفي الإيديلوجي هو نفسه الذي عبر عنه البيان الشيوعي في ختامه (ياعمال العالم اتحدوا)!”.*

* الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية

بين أيدينا، معشر الإسلاميين، تفسيرنا للتاريخ السياسي والاجتماعي، كما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث الخلافة على منهاج النبوة، وهو ما يرسم الصيرورة التاريخية للأمة، وبين أيدينا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن الكريم، ناطقة بالحق، أن الذين يحكموننا ليسوا منا ولسنا منهم، لا يمثلون الإسلام ولا يمثلهم، لكننا عاجزون عن بسط المنهاج النبوي، كما يبسط الماركسيون منهجهم وتفسيرهم للتاريخ والواقع ويرسمون للناس خط العمل بوضوح وشجاعة.

 يجب أن نفسر للناس تاريخينا السياسي الذي انبثق عنه وضع اجتماعي بئيس باسم الدين. يجب أن نعرف الناس أن سبب مآسيهم نظام الحكم الجائر. يجب أن نعلم الناس أن مستقبلهم بين أيديهم وأن لا خلاص لهم، إلا بإسقاط نظام الفساد والاستبداد. يجب أن نعلم الناس أن إسقاط نظام الفساد والاستبداد واجب شرعي وأخلاقي.