لم يعد الخطاب السياسي مؤثرا في أفراد المجتمع تأثيرا إيجابيا يوقظ الهمم، لأن الأفراد تحولوا إلى ذوات مستهلكة تجند ويتعامل معها تارة بالمحاباة وتارة أخرى بالقمع والآحتواء. ولأن ممارسات السياسي آتجاه الفرد أخذت منحى الإلغاء الثقافي لكيان الفرد وحقوقه المجتمعية، فإن خطابه هو الآخر سيواجه بهذا المنطق؛ بالإلغاء والتعالي والإقصاء والعدمية..

نتيجة لما سبق، لا يمكن أن نتحدث عن بناء فرد مواطن، لأن شروط وجود الفرد تلغي هذه الممكنات.. فمن تلك الشروط الناسفة لتحقق شرط المواطنة أن نسبة الأمية، السالبة لممكنات الوطنية مهيمنة أو تكاد، وهي دافع أساس للنخب لتقوم بالتجنيد والحشد في كل مناسبة. أن يكون الفرد حرا مشاركا واعيا بما يدور حوله شيء وأن يكون مسلوبا مجندا محكوما بمنطق الخطاب التعتيمي والمزيف شيء اخر..

بهذا المعنى يتساءل الفرد حول الذي تحقق فعلا على أرض الواقع.. أفي كل مرة نعيد العملية من دون جدوى، إذ الأجير يبقى أجيرا والعاطل عاطل والموظف مثقلا، مقيدا…دون أن نلمس تغييرا على أرض الواقع؟

لا أحد يساند الأمي أو يدافع عنه.. إنه منتوج نخب. ولا يمكن لهذه النخب أن يتحقق وجودها إلا بإلغائه عن طريق آحتوائه.. كلما سألت فردا كيف تفهم الإدلاء ينتفض في وجهك، لكنه يدلي استجابة للتجنيد لا المواطنة، 

 وقد يبيع دمه لا للقطع مع مرحلة مظلمة لم تتحقق فيها أمور كثيرة لكن للوفاء بناء على التزام ووعود زائفة. ينزل الناخب، كلما قرب موعد الإدلاء، من برجه إلى الواقع، يمشي في الأسواق، ينخرط في الواقع من جديد بخطاب مغاير ومظهر أقرب إلى الواقع بل أكثر واقعية. وهو عندما يقترب من ضحاياه يعد بأشياء كثيرة يتحقق أكثرها على مستوى الحلم.. لهذا لا يستحضر بلاغة الإكراه والمستحيل.. في مثل تلك السياقات..

ما إن يصل حتى تبدأ المبررات المنطقية وغير المنطقية والمعيقات الحقيقية للإصلاح والتغيير؛ فقد ورث الفقر والمشاكل وعلينا أن نكون موضوعيين لأن البلد إمكانياته محدودة، وأكثر من ذلك إذا ما دعاه الشعب لمراجعة الماضي تفيض بلاغة العاطفة والمهادنة والصفح والغفران.. !!

لا يبدو أن بناء فرد مواطن هم سياسي.. فالمواطن يسعى إلى أن يكون له استقلال وحرية وخطاب ملتزم.. غير أنه مع آقتراب كل موعد يبدأ التجنيد وتباع الذمم.. وتنسف تلك الممكنات والآمال التي يحلم بها الفرد دون أن يسلك مسالكها.. وقد نصل، إذا لم تنفع وسائل الاتصال المضخمة للخطاب، إلى آقتحام القرى والمدن لحث الأفراد للإدلاء بالصوت.. وهذه الممارسات تحول الموعد إلى ذكرى مؤلمة يعيش الفرد تبعاته وآلامها.. 

الإدلاء من تجليات الديموقراطية، لا شك في ذلك؛ غير أن الانخراط وعي قبل أن يكون ممارسة. والديموقراطية واقع قبل أن تكون خطابا. مع الديموقراطية يتلاشى الإلزام ويحل محله نداء الضمير. وعندما يغيب الوعي الديموقراطي عند السياسي كيف يمكن أن ينعكس على الأفراد !.

الصوت المواطن لا يحتاج تجنيدا. يحتاج الصوت المواطن إلى ثقة تبنى، وواقع يتجلى فيه التغيير ويقل فيه الخطاب والبلاغة. وحتى النوايا لا تكفي؛ إذ سرعان ما تتحول المعطيات والشروط إلى الأسوء. لا نقول إذاك إن كل شيء مسؤول عنه السياسي والأحزاب. بل نقول إن كل الأسوء ناتج عن وعي الأفراد بالممارسة وبلعبة البلاغة.

ثمة ما يبعث على التذمر من السياسية والانخراط فيها، وإن كان التذمر لا يعني التشاؤم؛ من بينها تضخيم الخطاب الذي يحتفي بالنوايا ويؤجل المكاشفة. ولنا أن نتأمل الإدارات وأن نسمع صوت كل موظف كيف تنعكس الديكتاتورية والتسويف وبيع الأحلام الوردية…. أأكثر من ذلك يمكن أن يجعل الفرد سلبي ويائس؟ كيف تبعا لذلك أن نتكلم عن المواطنة مع الترهيب، وعن الانخراط مع ما تمارسه بلاغة الخطاب من كذب ونفاق؟ 

للمواطنة شروط تحققها، غير أنها شروط اغتصبها الخطاب والممارسة السياسية، وللسياسي الفرد وجود لا رغبة للفرد المواطن في إعادة بنائه نقدا وآنخراطا.. إذ قبل الإدلاء بالصوت فلا بد من الوعي بالخطاب وإن كثر.. 

ومع أن البلاغة لا توظف ببراءة دائما فكذلك الخطاب عموما وهو يستثمرها؛ إذ لا قيمة لخطابات مهما بلغت من التأثير مع تنامي الفساد وتناسل الترهيب وهضم الحقوق..