بين المظالم المحلية والأحداث الدولية: خلاف أوربا مع مسلميها
تقديم
آراء أخرى
يعود اللقاء بين الإسلام والغرب إلى قرون عدة. ورغم أن العلاقة بين العالمين عرفت مراحل جيدة ومثمرة، فإن تلك العلاقة اتسمت مع ذلك على العموم بالتشنج والصراع وغياب الثقة المتبادلة. وفي العقود الأخيرة تميزت هذه العلاقة بالجمود وفي كثير من الحالات بالمواجهة. ودون الخوض في الوقائع التاريخية المؤلمة كالحملات الصليبية، حصار فيينا والقضية الفلسطينية، التي ما زالت تلعب بشكل أو بآخر دورا في تدهور العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، فإنه بالإمكان سرد بعض الحوادث في العقود الأخيرة التي زادت الطين بلة.
دعوة الخميني لقتل سلمان رشدي
من بين أسباب الفتور في العلاقة بين الإسلام والغرب في العقود الأخيرة، دعوة الزعيم الإيراني الراحل الخميني لقتل الكاتب البريطاني سلمان رشدي بسبب روايته “آيات شيطانية”. كان هذا سوء فهم مزدوج كان سيؤدي بالعالمين الإسلامي والغربي إلى مواجهة ساخنة ذات عواقب وخيمة. سوء فهم لأن رواية رشدي، وإن استعارت صورا ومضامين من التاريخ الإسلامي، لم يكن موضوعها الرئيسي الإسلام نفسه، وإنما سياسة الهجرة البريطانية. ومن جهة أخرى استغل الخميني، وهو مرجع شيعي، سوء الفهم هذا لتحريض مسلمي أوربا، وجلهم سنيون، على الإحتجاجات والمطالبة برأس رشدي.
وجهت قضية رشدي هذه انتباه العديد من الأوربيين إلى الجانب الأقل تسامحا من إسلام الواقع. وقد تزامنت هذه القضية مع لحظة حاسمة في تاريخ أوربا، ألا وهي سقوط جدار برلين وإعلان الليبيرالية الغربية ‘انتصارها’ على الشيوعية.
لم يكن الخطر الأحمر قد اختفى بعد، حين بدأ بعض الساسة الأوربيين في التحذير من ‘الخطر الأخضر’. وهكذا زعم زعيم الحزب الليبيرالي المحافظ الهولندي فريتسبولكستاين في كلمة ألقاها يوم 6 شتنبر 1995 أمام مؤتمر الليبيرالية العالمية بمدينة لوزرن السويسرية حول انهيار الاتحاد السوفييتي؛ زعم أن الإسلام يتعارض مع “القيم الغربية”. وكان قد سبقه في فبراير من نفس السنة ويلي كلاص، الأمين العام الأسبق لحلف شمال الأطلسي، بالإدلاء بنفس التصريحات.
قضية الحجاب الإسلامي
رفضت إحدى المدارس الثانوية بفرنسا يوم 5 أكتوبر 1989 السماح لطالبتين مسلمتين محتجبتين ولوج المدرسة بحجة حياد هذه الأخيرة وعلمانيتها. شكلت هذه الحادثة بداية سلسلة من الحوادث لها علاقة بارتداء الرموز الدينية في المجال العمومي لتنتهي إلى إعلان الرئيس الأسبق جاك شيراك بداية 2004 موافقته على حظر الرموز الدينية في المجال العمومي. وفي 15 مارس من نفس السنة تم إصدار قانون يحظر لباس الحجاب داخل المؤسسات العمومية.
التهديد الإرهابي المستمر
ازداد الخلاف بين أوربا/الغرب والعالم الإسلامي حدة عندما قرر تنظيم القاعدة الإرهابي مهاجمة أبراج التجارة العالمية بنيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية بواشنطن. وقد استعمل التنظيم في تنفيذ عملياته طائرات مختطفة. لقد تم اغتيال الآلاف من المواطنين في هذه العمليات. ولقد استغل صقور المحافظين الجدد المحيطون بالرئيس بوش هذا الهجوم البشع لتنفيذ أجزاء من مخططاتهم حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ولقد تم وبسرعة مدهشة الكشف عن تلك المخططات التي تم تعميدها تحت مسمى الحرب على الإرهاب. بدأت هذه الحرب، والتي ما زالت مستمرة، بغزو أفغانستان وانتهت باحتلال العراق.
وبعد أقل من ثلاث سنوات تعرضت إسبانيا لهجوم إرهابي في مارس 2004 استهدف قطارات نقل الركاب، مما أودى بحياة المئات. وفي يوليو 2005 جاء الدور على العاصمة البريطانية التي تعرضت هي الأخرى لهجوم استهدف أنفاق الميترو ووسائل نقل عمومية أخرى.
بعد سنوات من الهدوء النسبي اندلع العنف الإرهابي من جديد. خصوصا بعد الانتفاضات التي عرفتها منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومأساة سوريا. شهدت الحركات الإسلامية التي تعتمد العنف السياسي والإرهاب كأساس مشروعها “لإعادة أسلمة المجتمعات الإسلامية أصلا”،انتعاشا لم تشهده من قبل خصوصا في العراق والشام. إرهاب بعض هذه الحركات لم يقتصر فقط على المنطقة المذكورة بل توسع ليمس أوربا في عقر دارها.
وفي هذا السياق المتميز بالخلافات والخوف المتبادل، وجد مسلمو أوربا أنفسهم في مواجهة مجتمعات لا تثق فيهم. والشعور العام السائد في أوربا اليوم هو أن الإسلام وبالتالي المسلمين وأوربا يتعارضان تماما فيما يخص القيم التي يؤمن بها أولائك وهؤلاء. وبالتالي فإن المواجهة حتمية في نظر الكثيرين. كثير من الأوربيين يتساءلون جَهْرًا ما إذا كانت أوربا مأوى صالحا للإسلام والمسلمين. ووراء هذا السؤال يكمن سؤال آخر أكثر إلحاحا هو من يمكن له أن يسمي نفسه أوروبيًا؟ وما هي مقومات الهوية الأوربية كنتيجة لذلك؟ هذا البحث المستمر عن هوية أوروبية التي لم يعد أحد يعرف ماهيتها، لا يمس فقط مسلمي أوروبا بل يعرقل كذلك مشاريع كثيرة تهدف إلى توحيد القارة على المستويات المختلفة.
رغم أن هناك فرقا مختلفة تساهم في هذا النقاش الحساس، فإن فرقة واحدة طفت إلى السطح وبشكل مثير للانتباه؛ فرقة ذات نزعات ’كزينوفوبية‘ و’إسلاموفوبية‘ واضحة. وفي مقابل عدائها للأجانب عموما والمسلمين خصوصا، تطالب هذه الفرقة بالحفاظ على “القيم والمعايير الأوروبية”، وتؤلب الرأي العام ضد كل ما هو “غير أوروبي” في نظرها.
سأحاول في هذا المقال وصف وتحليل استقرار مسلمي أوربا الصعب في قارة تئن تحت تبعات الأزمات المتتالية في العقد الأخير. الفكرة الأساسية في هذا المقال هي أنه في زمن العولمة هذا تؤثر السياسات المحلية والتطورات الجيوسياسية في بعضها البعض. ومن نتائج هذا التداخل هو أن مسلمي أوربا يُحمَّلون مسؤولية أحداث وحوادث لا ناقة لهم فيها ولا جمل. بينما يتهم المسلمون الأوربيين بأوصاف وسلوكات لا تنطبق بتاتا على كل الأوربيين. وهكذا يتحمل الأوربيون الأصليون والمسلمون الأوربيون مسؤولية مشتركة في هذا المأزق.
أوربا والمشروع الإسلاموي
عشر سنوات بعد هجومات نيويورك وواشنطن، انفجر في سنة 2011 الأمر الواقع في بلدان عربية كثيرة، حيث انطلقت مظاهرات وانتفاضات أدت إلى سقوط أنظمة وتغيير أخرى لسياساتها الداخلية. كما خلط الحراك الشعبي أوراقا سياسية واستراتيجية لم تكن في الحسبان. نتجت عن هذا الحراك دينامكية جديدة لم تشهدها المنطقة لعقود طويلة. لم تكن هذه الأحداث التي شهدتها المنطقة آنذاك تهم العرب والمسلمين فقط، بل شغلت حتى مراكز القرار في الغرب وقظت مضاجع الكثيرين في أوربا خصوصا بعد ولوج الإسلاميين مراكز الحكم أو الساحة السياسية؛ إما عن طريق الانتخابات أو باستعمال العنف. في البداية صفق الرأي العام الأوربي بحماس كبير لما حدث. إلا أنه ما لبث أن تحول الحماس إلى خوف من نزوح العديدين نحو شمال المتوسط. ومما زاد من هذا التخوف فرضية استغلال الجماعات الإرهابية لتلك الفوضى العارمة لدس أعضائها وسط النازحين. وكذلك تفاعل مسلمو أوربا بشكل كبير مع الأحداث الواقعة في بلدان آبائهم وأجدادهم. وأخيرا حدث ما يمكن أن يبعث فيهم نوعا من الفخر والاعتزاز بانتمائهم لمنطقة قدم أبناؤها الحجة الدامغة على أن قدرهم الأزلي ليس هو الديكتاتورية العسكرية أو الحكم الأوتوقراطي. إلا أن خيبة أملهم كانت أكبر من حجم حماسهم عندما اتضح أن هذا الربيع العربي لم يزهر ولم يثمر، وأنه قد تحول في بلدان مختلفة إلى حمامات دماء أودت بحياة الآلاف من الأبرياء في مصر وليبيا وسوريا. واختلفت تفسيرات هذا التحول الدراماتيكي. بعض هذه التفسيرات التي روج لها بعض المسلمين وسلم بها آخرون، دخلت في خانة نظرية المؤامرة التي لعب فيها الغرب في نظرهم الدور الأساس. وفي هذا الإطار سلم بعضهم بمقولة خلق داعش على أياد صهيونية هدفها نسف الإسلام وتلطيخ الهوية الإسلامية. استغلت الجهات المعادية للإسلام مثل هذه الإدعاءات لتثير مشاعر المواطنين ضد المسلمين واضعة هؤلاء في قفص الاتهام، مدعية أن ولاءهم ليس لبلدانهم الأوربية بل للعالم الإسلامي الذي “لا يتخاطب مع الغير إلا بالعنف”. وهكذا أحس العديد من المسلمين بأنهم يعاملون كطابور خامس أو كحصان طروادة يحوي بداخله “العدو القديم الذي ما لبث يتربص بالحضارة الأوربية”.
الإرهاب مرة أخرى
سيناريو مشؤوم تولد عن أحداث جيوسياسية أصبح مسلمو أوربا يتحملون فيها، ورغما عن أنفهم، جزءا مهما من المسؤولية حتى وإن كانوا هم كذلك من ضحاياها. ومما زاد الأمور تعقيدا تصريحات زعماء إسلامويين يتوعدون فيها الغرب في خطابات نارية لتوجيه أنظار قواعدهم إلى “عدو خارجي” حتى لا تتم مساءلتهم عن فشلهم في تحقيق ولو جزء بسيط مما كانوا ينادون به.
أضف إلى هذا كله إرهاب داعش -الذي شهد النور إبان اجتياح الجيش الأمريكي للعراق واحتلاله سنة 2003- الذي لم يستهدف فقط بلدانا عربية بل وأوربا كذلك. ضرب أوربا لم يكن مستبعدا نظرا لكون الإسلامويين عامة والجهاديين خاصة يَرَوْن في هذه القارة عدوا عتيا هدفه القضاء على الإسلام والحفاظ على الأنظمة التي تساعده في تلك المهمة؛هكذا! وقمة تشنج العلاقات بين أوربا ومسلميها مؤقتا هي التهديد الإرهابي المستمر.
فالاغتيال الجماعي لأعضاء تحرير مجلة شارلي إيبدو في يناير من السنة المنصرمة وقتل العشرات من الشباب الفرنسيين في أحد مسارح العاصمة باريس في نوفمبر من نفس السنة وتفجيرات بروكسيل ودهس العشرات في مدينة نيس الفرنسية هذه السنة وأسراب الشباب الأوربي المسلم الذي غادر بلدانه للالتحاق بداعش وأخواته، كل هذا جعل الأوربيين يدركون أن خطر الإرهاب أصبح أشد حدة من أي وقت مضى. فأغلب الشباب المسلمين الأوربيين الذين غادروا في اتجاه الشام ولدوا وترعرعوا في أوربا وجلهم ذوو حظوظ اقتصادية واجتماعية لا يستهان بها. مما دفع بالصحافة الجادة والشعبوية على السواء بالانتهاء إلى نتيجة مفادها أن اندماج مسلمي أوربا قد فشل. في نظر هذه الصحافة للمسلمين كذلك صعوبة في التأقلم مع الجو المنفتح للمجتمعات الأوربية ومع قيم الحرية والمساواة وعدم التمييز! وهذا كله دون التأكد من كون ما إذا كان سبب مغادرة الشباب المسلم للالتحاق بالجماعات الإرهابية يرجع “لفشل اندماجهم” أو لما يطلق عليه علماء الاجتماع الجزائية العرقية (ethnic penalty). كثير من الباحثين الاجتماعيين يشكون في هذه الفرضية القائلة بفشل الاندماج ويُرجعون الأسباب إلى تشابك المحلي مع الجيوسياسي حيث تؤثر الأحداث العالمية على المجتمعات المحلية والعكس صحيح.
تدجين المسلم
كما سبقت الإشارة، هناك توترات مختلفة حول الإسلام في جميع بلدان أوربا. ففي فرنسا حيث اللائكية هي “العقيدة” المهيمنة، يعتبر الدين قضية شخصية تهم الفرد في بيته بينما يعتبر المجال العام لادينيا وملكا للجميع. ففي هذا السياق لا ينظر للمسلمين كجماعة دينية بل كأفراد، وفي أقصى الحالات كمجموعات إثنية (مغاربيون، أفارقة….الخ) ذات دين معين. في هذا الإطار يشكل المسلمون الذين يؤكدون على هويتهم الدينية تحديا واضحا للائكية المؤسساتية، مما يؤدي في حالات كثيرة إلى ارتباك وتناقض واضحين. فمن جهة تغض السلطات الفرنسية الطرف عن حضور الإسلام في الفضاء العمومي كالسماح ببناء المساجد، بل وحتى تقديم المساعدة لهذا الغرض في بعض الأحيان. ومن جهة أخرى يظهر الفرنسيون صعوبة في تقبل الرموز الإسلامية في الفضاء العام كالحجاب مثلا. وقد أدت هذه العلاقة المزدوجة أو المتوترة في أحيان كثيرة إلى نقاشات ساخنة انتهت إلى منع ارتداء الحجاب داخل المؤسسات العمومية ومنع لباس البرقع منعا تاما خارج الفضاء الخاص.
وفي ألمانيا تحول النقاش حول اندماج المهاجرين بعد 11 شتنبر 2001 تدريجيا إلى التأكيد على أن الثقافة الألمانية هي المرجعية الثقافية للبلاد (Leitkultur)، وعلى الجميع أن يتقبلها كمعطى. أكبر جالية مهاجرة في ألمانيا هي الجالية التركية التي كان يشار إلى أعضائها إلى غاية نهاية التسعينيات بالأتراك. بعد ذلك أصبح يشار إليهم كمسلمين. وهكذا تحول كل الأتراك إلى مسلمين وبذلك أصبح كل المسلمين أتراكا بغض النظر عن التعدد والاختلاف داخل الجاليات الإسلامية. لم تقتصر هذه المقاربة الثقافية فقط على مواضيع تتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة أو التمييز ضد المثليين بل تعدتها إلى الهوية الإسلامية متسائلة ما إذا كان في مقدور هذه الهوية أن تتقبل الثقافة الألمانية المرجعية.
طبعا ليست هذه المقاربة الثقافية حصرا على ألمانيا، بل تلاحظ في جميع البلدان الأوربية. بعد الحادي عشر من شتنبر لم تعد المشاكل التي يعاني منها بعض الشباب المسلم تُرجّع إلى عوامل اقتصادية واجتماعية. وهكذا يتم التغاضي عن عوامل أخرى كالعنصرية والإقصاء فيما أصبحت العوامل الثقافية والدينية تحظى بحصة الأسد كعوامل مفسرة لتلك المشاكل.
وَمِمَّا زاد من تعزيز هذا الاتجاه صعود الجهادية وما رافقها من عنف وإرهاب على المستوى العالمي. وبالرغم من أن أعداد الشباب المسلم الأوربي الذي التحق بساحة القتال في العراق والشام نسبيا ضئيلة وإحصائيا تافهة، أصبح يُنظر إلى جل المسلمين بحذر وتوجس. وفي هذا الإطار يتحدث الكثير من الباحثين ليس فقط عن الإسلاموفوبيا بل وكذلك عن المسلمفوبوبيا كنوع من التمييز العنصري بعد أن عُنْصِر المسلمون (racialisation). وهكذا أصبح الإسلام بأكمله يعتبر كتهديد للتماسك الاجتماعي والخاصية العلمانية للمجتمعات الأوربية. فأصبح أي تأكيد على الهوية المسلمة يعتبر كنقص يجب تصحيحه بالتكيف اللامشروط مع “الثقافة الأوربية” وذلك تحت طائلة الإقصاء.
بين مطرقة المصالح الجيوسياسية وسندان الإجراءات المحلية
أحد كبار الباحثين الأوربيين الذين ينتقدون المقاربة الثقافية لمسلمي أوربا هو الفرنسي أوليڤييروا. يقول روا في إحدى مقالاته بأن الشباب الأوربي المسلم الذي التحق بداعش لا يمثل غالبية المسلمين الأروبيين وليس بصفوتهم. ويضيف أنه ليس من أهداف هؤلاء الشباب أسلمة أوربا وإنما هدفهم هو تحقيق “خيالهم المريض” في علاقته بفكرة البطولة. ويستدل روا على قوله هذا بمثال أحد قاتلي أعضاء تحرير شارلي إبدو الذي صاح بعد الانتهاء من عملية القتل قائلا: “لقد انتقمنا للنبي محمد”!
وحسب هذا المفكر الفرنسي فإن هؤلاء يشكلون استثناء على القاعدة. فعدد المسلمين الذين يسهرون على أمن وسلامة فرنسا -ويعني هنا أولائك الذين يشتغلون في الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى- أكثر بكثير من المسلمين الذين قد يهددون أمنها. وغالبا ما يُعتبر هؤلاء المسلمون المندمجون كاستثناء بدل النظر إليهم كمسلمين عاديين كباقي المسلمين الأوربيين الذين هم في خلاف وصراع دائمين مع أولائك المريض خيالهم! اشتياق هؤلاء إلى دولة الخلافة وإلى أمة عالمية متخيلة ليس سببه فشل اندماجهم في بلدان مولدهم. وحسب باحثين مختلفين فإن سبب هذا الاشتياق يعود إلى تداخل المصالح الجيوسياسية مع الإحباطات المحلية وخيبة الأمل في مؤسسات بلدان مولدهم.
بعد التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تحول العالم إلى قرية فرضية أصبحت معه الأحداث الدولية تؤثر على الأحداث المحلية وبالعكس. جزء من تلك الأحداث له علاقة بالإسلام كقضية سلمان رشدي، هجومات الحادي عشر من شتنبر وما تبعها مما سمي بالحرب على الإرهاب، الحراك الشعبي في المنطقة العربية والأعمال الإرهابية المختلفة في فرنسا وبلجيكا؛ كل هذه الأحداث كشفت عن الخلاف القائم بين الغرب والعالم الإسلامي وزادت في تعميق الفجوة بين العالمين. أحداث أدت ببعض الشباب المسلم المصاب بالإحباط وخيبة الأمل إلى التعلق ببديل قوامه العنف السياسي والإرهاب والذي صور لهم عالما يوتوبيا، حيث لن يعودوا فيه في حاجة إلى الاعتذار عن هويتهم الإسلامية.
كبح جماح المسلم!
وضعية مسلمي أوربا الهشة غالبا ما تجعل منهم فريسة سهلة معرضة لأنواع مختلفة من التمييز العنصري والإقصاء الاجتماعي. ما زالت حظوظ الكثيرين منهم في ميادين التعليم والشغل ضعيفة جدا بالمقارنة مع السكان الأصليين. وَمِمَّا زاد الوضع تعقيدا كون الإجراءات المتخذة لتسهيل اندماجهم تزامنت مع الإجراءات الأخرى لمحاربة الإرهاب. فحسب الباحثة المقتدرة جوسلين سيزاري، فقد تم بعد الحادي عشر من شتنبر اعتقال المئات من المسلمين في أوربا بتهمة الإرهاب. ولقد وصل عددهم إلى أزيد من عشرين مرة عدد المتهمين في قضايا الإرهاب في الولايات المتحدة حيث قامت القاعدة بعمل إرهابي مخلفة آلاف الضحايا.
لقد شددت كل الدول الأوربية من إجراءاتها المضادة للإرهاب وغيرت الكثير من قوانينها حيث أصبح سهلا اعتقال المشتبه بهم. بعد الهجومات الأخيرة في باريس أعلنت السلطات الفرنسية حالة الطوارئ وتم تفتيش الآلاف من المنازل أغلبها يقطنها مسلمون. لقد أثارت الطريقة المتشددة جدا، والتي انتهجتها جل البلدان الأوربية “لإدارة المسألة الإسلامية”، تساؤلات كثيرة عما إذا كانت هذه الإجراءات ستُتخذ وبنفس القساوة لو تعلق الأمر بجالية أخرى غير الإسلامية!
كما أنه حسب سيزاري لا يجب الاستهانة والتقليل من دور الإجراءات الحكومية في إثارة المشاعر المعادية للمسلمين. فسياسة الأقليات والإجراءات المضادة للإرهاب والقوانين المتعلقة بالهجرة والتجنس، كلها عوامل تساهم في خلق جو يسهل فيه التعبير عن مشاعر العداء والعنصرية تجاه المسلمين. ويلاحظ هذا في مختلف القطاعات؛ السياسية منها والإعلامية وفي الإجراءات المقيدة لحرية الدين. وجاء هذا الجو الإسلاموفوبي كنتيجة للجدال المستمر حول الإسلام في أوربا وبعض الأعمال المشينة التي يقوم بها بعض المسلمين أنفسهم باسم الدين.
وفي الختام
تتسم العلاقة بين أوربا ومسلميها في السنوات الأخيرة بالاستقطاب المتزايد والتنافر وأحيانا حتى بالمواجهة. لقد حاولت في هذا المقال أن أكشف عن مكامن هذا الخلاف. فالتفسير الذي يكرر نفسه هو أن الإسلام يتعارض وقيم أوربا وأنه بالتالي من المستحيل أن يصبح المسلمون مواطنين كاملي الحقوق والواجبات ما داموا يضعون الإسلام فوق تلك القيم. فتزامن سياسات الاندماج مع الصراع الدولي ضد الإرهاب حول تلك السياسات إلى سلاح ذي حدين. فالتوترات المستمرة في منطقة الشرق الأوسط دفعت ببعض الشباب المسلم بالالتحاق بجماعات تنتهج العنف السياسي والإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافها. وهكذا التصق اسم هؤلاء الشباب بالأنشطة الإرهابية ليس فقط في الشرق الأوسط بل وفي أوربا كذلك. وهذا ما دفع بالكثيرين في أوربا إلى الادعاء بأن اندماج المسلمين في المجتمعات الأوربية قد فشل بصفة نهائية. إلا أن للباحثين والمفكرين الذين اعتمدتهم في كتابة هذ المقال رأي آخر في هذا الموضوع المعقد والشائك. “فاشتياق” بعض الشباب الأوربي المسلم إلى العيش في “دولة الخلافة” لم ينتج عن فشل اندماجهم، وإنما بسبب أحداث دولية عززت شعورهم بالحرمان وخيبة الأمل ليتحول إلى غضب شديد لا يمكن ردعه بسهولة.
فهؤلاء الباحثون يؤكدون بأنه على ذوي القرار أن يضعوا التحديات التي يشكلها الشباب المسلم في سياقها الصحيح بالاستماع الإيجابي إلى هؤلاء الشباب. فكثير منهم يحس بأنه يعامل وكأنه “عدو داخل الأسوار” وأنه تم إقصاؤه من المجتمعات التي ولد وتربى فيها كعنصر مزعج، مع كل ما ترتب عن ذلك من مشاكل ومآسي. فعلى الجهات المعنية أن تفصل بين مشاكل الاندماج إن وجدت والإجراءات الأمنية المتخذة لمحاربة الإرهاب. سياسة محاربة الإرهاب مجالها العمل المشترك بين الدول بما فيها الإسلامية وسياسة الاندماج قضية محلية لا يجب تدويلها وإلا سنكون قد ابتعدنا لمسافات يصعب قطعها عن الحلول الناجعة لكل مشكل على حدة لأن لكل داء دواؤه الخاص به. وسوف لن أفاجأ إذا كان جزء من ذلك الدواء في البلدان الأصلية.