قراءة في رواية لــحسن أوريد

 تـنـتـابك العَـبـرات وأنت تقرأ نموذجاً لحياة موريسكي قاوم الزمن وجـــوْرَ التاريخ ليحافظ على هويته من وراء أجيال خلت وتعاقبت واندثرت. كأنما نهض من قبر أو نزل من سماء، أو كان محنَّــطاً على طريقة قدماء الفراعنة.

بعد مائتي سنة على السقوط والتساقط المتتالي لأركان الأندلـس يحــيا هذا الموريسكي بأعجوبة. يجتاز إلى المغرب عبر البريجة/ الجديدة ثم يحتال على البرتغال ويخرج إلى أول تجمع سكني في المغرب.

يتوسط جمعاً من حرس ثغــر المغرب بـثـيـاب قـشتالية ولسان عربي مـبـيـن! يجمد الجند مكانهم مندهـشـيـن ثم ينطق بالـشهادتين كي يطمئنهم أنه ليس جاسوساً بل هو أخ لهم في الدين والتراث. كيف يستوعبون المشهد؟ ألا يزال في إسبانيا من على هذه الشاكـلة؟ ظاهره قشتالي ولسانه عربي. 

آهــــات عَجَــزَ التاريخ أن يستوعبها. دوَّت في الكون وطال دويُّها. أبكت الجماد والأرض والبحر وتعود مدوية كل يوم في أرجاء الأثير. من خلايا الموريسكي تنطلــق، الذي أبى أن يموت لــتنتهي بموته. لكنها تولــد من جديد عابرة للقارات مخترقة للزمان قاهرة له تُحــدِّد وقت ظهورها واختفائها رغم جبروت الزمن وقدرته على طي لكبار الأحداث. يهضمها  ثم يهجرها في ركن بعيد.

فــلـتـكن آهاتٍ مدوية تـتـلى كالصلوات ولو في ذكرى السـقوط. فلتكن مأتـما مثل كربلاء ما أصغــر كربلاء وكل موريسكي حــسـيـن. وكل حَجـرة أو تـربة شاهدت أنفاس أمرأة أوشهيق طفل فارق أمه إلى النخاسة أو على مشانق التفتيش هي حَجْــرة، هي تربة من كربلاء. ليكن عويــلا على أطلال لا يغـيـر من الواقع شيئا سوى تسلية بماض لا يطعم ولا يكسي. ليتها كـانت تسلية لقضاء ساعة مع أصدقاء في ليالي الشتاء الطويلة. فلتكن مجرد قصة بدون واقع، أو لا تليق بواقع لا ينفع فيه البكاء ولكنها كائــنة.

*استقى الكاتب حسن أوريد الرواية من سيرة أحمد بنقاسم بن احمد بن الفقي قاسم الحجري أفوقاي الاندلسي من كتابه ناصر الدين على القوم الكافرين وهو مختصر من كتاب رحلة الشهاب إلى لقاءالأحباب لأفــوقاي نفسه. 

قد تدعنا زفرات الموريسكي التي أطلقها في أرجاء تلك الأرض سهولِها وجبالِها متأبــطـا مفاتــيــح بيته وهو مقتاد إلى وجهة لا يعلمها. قد تذرنا تلك الزفرات نــأخذ مجرى حياتنا ثم تطل علينا من حيث لا ندري من نافـذة أو سقف موصود، هي تعرف متى وكيف تدخل عندما تريد الدخول، تفرض نفسها، تأخذ كلمتها وتحكي قصتها وتذرف دموعها وتعيد زفراتها ندية حية شجية مؤلمة وتلقي شِــعْــرها وتندب حظها وفلذات كــبدها ثم تنصرف وتترك الناس يعملون أو يدرسون أو يرقصون.  

ليت هذا الموريسكي ينجح في النسيان. ساعدوه على النسيان إن كنتم صادقين. ساعدوه أن يتجرد ويتحرر من تلك الأطلال التي أثــقـلـته طيلة هذه القرون ولا يزال يحملها. بحث في الدنيا أين يـلـفـظها؟ أين يلقي بها من مكان سحيق أو بحر عميق لتخف كواهله من طول الحمل الذي ولد معه وتعـقـبه. كأنه بقول الشاعر: ولــي كبدٌ مقروحةٌ..من يبيعني كبدا ليسب بذات قروح؟ّ 

أخيراً يصل الموريسكي– شهاب الدين أفوقاي-النازح إلى إرض المغرب بعد أن مات لمئات المرات وأبــتــه الموت. يحمل في دمه حضارة وطموحها وآهات شعبه وأنينــها وسيناريوهات لأبناء أمته على رمال شواطئ الأندلس متمرغين ضارعين متوسلين تحت سياط أزلام فليب الثالث.

لكنه في المغرب (أرض الأحباب كما في الكتاب الأصل) سيعثر على شيء من نفسه، ولو لم يجدها بكاملها. سيكــتـشـف أن أكبر جزء من ذاته تاركاً إياه هناك في الضفة الأخرى لم يصحبه معه ولا يمكن أن ينقله إنما سيعيش معطوباًعلى مضض يفقد جزءا من ذاته. 

عـــومل هذا الموريسكي – الإطار المثقف من لدن السلطان مثل الأيقونة أو التحفة سيُــزيِّــن بها أحمدُ المنصور الذهبي بلاطه. ما أجمها من أيقونة أندلسية قشتالية عربية إسلامية، هي كل شيء من هذا الإرث الحضاري الثري. سوف لا يلــقي السلطان بهذه التحفة فـله فيها مآرب أخرى فضلا عن ترجمة المراسلات وتقديـم الاستشارات المتعلقة بالعدوة الأخرى. كان لابد لحاكم على قدر أحمد المنصور أن يبرهـــن للرأي العام أنه مهتم بشعب يتعرض للإبادة. لأن الدنيا استطاعت أن تسكت يومئذ على محرقة لم تسبقها محرقة. هل كان يكفي هذا الموريسكي أن يكون تحفة مفعولا به، أم كان يريد أن يكون فاعلا في التاريخ إذ يحمل أثـقال حضارة لم ينصفها الزمن؟

انتصار وادي المخازن لأحمد المنصور وسام لا تــبـلـيه الأيام، سارت به الركبان وتغنى به الشعراء لكن السلطان مهتم بشيء آخر غير هذه المعركة فمعــظــم طاقات جيوشه صرفها في حملاته العسكرية ضد مملكة سونغاي الإفريقية (مالي وغانا) بغية السيطرة على مناجم الذهب باستعماله للعنصر الأندلسي في تلك الحرب-فيلق الأندلسيين- رغم كون أهل سونغاي مسلمين لكن أحمد المنصور قاتلهم من أجل استخلاص الذهب منهم، ألم يكف إسلام أهلها أن أجبى منهم ذهــبـهم؟ 

كان هذا المريسكي الطموح يحلم أن يقوم أحمد المنصور بتوجيه طاقته إلى العدوة الأخرى لتحرير بلاد أجداده الأندلس. كان يرى إمكانية ذلك وهو المطلع على قوة الضفتــيـن وهو المتمرس العبقري الذي شغل منصب الترجمة في دولة قــشتالة الكنسية في زيها المسيحي في ظاهره المسلم في باطنه. فهو يدرك واقعية أحلامه إن حلم بتحرير الأندلس من جانب المنصور الذي يضم جيشه فيلق الأندلسيين الحاملين لهذا الحلم مسلمين منهم ومستعربين، لكن اعتبارت أخرى كان يراها السلطان وتغيب عن الموريسكي مترجم البلاط الذي يرى الأمر من زاوية آلامه من سقوط حضارة أجداده. يتعلق الأمر بتناحر أبنائه الثلاثة على تولي العرش ومحاولة الانقلاب عليه وتمرد الشعب هنا وهناك. ثم تربص الأتراك بانتظارهم طلب المساعدة من أحد أبناء المنصور. 

هل كان يَـعِـدُ أحمدُ المنصور عنصرَ الأندلسيين في جيشه بتحرير أرضهم وهو يوجههم إلى إفريقيا كما فعلت فرنسا عندما جندت المغاربـيـيـن والأفارقة لمحاربة النازيـيـن على جبهات النار في عرض أوروبا وقدمتهم قرابين على أساس أن تمنحهـم الاستقلال بعد إسقاطها الـنـازيـة؟ لست أدري هل تشابـه التاريــخ! هاهي قبور الموريسكييـن من نوع آخر في هولانـدا شاهدة ممن استشهدوا دفاعاً عن هولاندا ضد النازية.  

لم يستطع التاريخ أن يغيب الموريسكي الذي ما فتىء يبحث عن المسلوب منه والمفقود، البحثَ الذي بدأه أحمد شهاب الدين أفـوقـا يقبل وبعدأن أوفـده مولاي زيدان ابن المنصور سفيرا إلى بلدان أوروبية، منها: هولاندا وفرنسا ليبحث لدى الأمم عن رد الاعــتـبار للموريسكييـن على الصعيد الدولي واسترجاع ممتـلكاتـهــم وإنصافِــهم. عـلـمته التجربة أن يطرح أسـئلة وجودية في رحلة البحث تلك عن سؤال الهوية. قضية هربت من طوق الزمن واستحكامه في الأشياء لأن الموريسكي ليس شيئــاً من الأشياء حتى يجري عليه الزمن ويختزله المكان لأنه رفض أن يتحول إلى مجرد قصة تاريخية سردية لكنه أبى إلا أن يكون موضوعاً يعود بقوة يستوقف التاريخ الذي لم ينصفه.