مفارقاتُ عقلٍ مُكَعبٍ مَسهولٍ
«دائما سَيكون قَولُ الحقيقة أفضلُ سياسةٍ تَـتَّبِعها، إلا لو كُنتَ طَبعاً بَارِعاً في الكذب»
جيروم كيه جيروم
آراء أخرى
في البدء، لا بد من إشارة بسيطة: لم يكن مقصودي ولا هدفي حين نَحَتتُ اصطلاح «الإنسان المكعب» اجترار مذهب الكاتب د. إدريس الغنبوري أثناء عَنونته بعبارة «الرجل المكعب» أحد أشرطته السِّجالية؛ فعبارته هذه ذات استعمال مخصوص موجه لشخص محدد في مَعرض مناوشات بينهما (والشخص المقصود هو الناشط د. محمد الفايد)، بينما يأتي استعمالي لاصطلاح «الإنسان المكعب» لغرض عام لا خاص، كما أنه يتعلق بظاهرة لا بحالة أو شخص (هذا زيادة على أنني لم أشاهد الشريط ذي العلاقة إلى الآن). وربما أمكنني القول أن اصطلاحي المذكور قد يكون عبارة عن تناصٍ أو تصادٍ مع الباحث الاجتماعي د. مصطفى حجازي، صاحب مفهومَي «الإنسان المهدور» و«الإنسان المقهور»، هذا مع الإشارة طبعا إلى أن اجتهاد مصطفى حجازي في هذا الشأن هو أكثر نَسقية من اجتهادي الشخصي الذي سيظهر لاحقا. فمنهى هدفي هو إيجاد عبارة مفهومية تختزل ظاهرة سوسيو-فكرية معينة. فالإنسان المكعب عندي هو كل إنسان يفكر ويُعيد التفكير من داخل جهله، لا عبر تطلعه إلى استزادة المعارف بخصوص الموضوعات التي يُقدم رأيا أو موقفا بشأنها. ويكون العقل الذي يفكر من خلاله هو العقل المكعب.
فما الذي يمكن أن ننتظره من عقل اسْتَأنس بِتكرار جهله وأَلِف الجمود عليه؟
الانسان المكعب غير مُنطلق، غير مَرِن، سَطحي، لا يجيد تدوير الزوايا والإنصات، لا جرأة لديه على نقد نفسه، غير حُر. يكفيه أن يتبنى رأيا ليَلْزَمه إلى آخر عمره، حتى وإن لم يكن هو من نمَّى هذا الرأي داخل رأسه، بَلْ أُملي عليه من خلال التنشئة أو الدعاية.
فما علاقة هذا الصنف من الإنسان أو من العقل بموضوع الصراعات في الشرق الأوسط وحركات المقاومة (أو بمحور المقاومة) وقضايا الهيمنة والتحرر؟
فضيحة مفارقات عقلٍ بلا حياء!
منذ عام 2000، عامُ تحرير جنوب لبنان من قبضة إسرائيل بدون قيد أو شرط، ثُم تحرير غزة عام 2005 من دون قيد أو شرط أيضا، دَخَلْنَا عصر تمييزٍ واضح بين مشروعين: مشروع المقاومة والتحرير ومشروع المهادنة وتكريس الهيمنة، الأول تقوده دول وحركات ما سُمي بمحور المقاومة، والثاني دول وحركات محور الاعتدال (عبارة الاعتدال هنا مثيرة للضحك، لأن هذا المحور يجمع أكثر الأنظمة عنفا ودموية واستبدادا وشمولية في منطقتنا، وعلى رأسها السعودية والإمارات والبحرين وإسرائيل!). وطالما شكك بعض المحللين من هذا التمييز أو سَخر منه أو تجاهله، لكنه تمييز ظل محتفظا بقوته التفسيرية والإجرائية. والآن، في ظل حرب غزة 2023-2024، أمسى هذا التمييز مكرسا من نواح عِدة وأكثر وضوحا، وحتى وإن تغيرت بعض التفاصيل عَما سبق.
وبالموازاة مع معارك النار والحديد بين المحورين في أكثر من ساحة وبلد (فلسطين، لبنان، العراق، سوريا، اليمن،…)، كانت تجري مَعارك رقمية-فكرية ضارية تتوسل الكلمة والصورة للدفاع عن خيارات كل محور وللتنقيص من أداء المحور الآخر. وفي الآونة الأخيرة، ثَمَّةَ 3 تواريخ مركزية كشفت عن هذه الحرب الرقمية-الفكرية، وهي: 7 أكتوبر 2023 و12 أبريل 2024 و24 غشت 2024، أي، على التوالي، هجوم حماس البطولي على مستوطنات غلاف غزة الذي عَدَّه المحور الآخر تَـهَورا، ورد إيران الاستراتيجي على ضرب إسرائيل لسفارتها في سوريا الذي وصفه المحور الآخر بالمسرحية، ورد حزب الله على اغتيال فؤاد شكر الذي حاول هذا المحور تجاهل أهميته وتبخيس أثره.
وما ستُركز عليه هذه المقالة هو حجم المغالطات والمفارقات التي حاول بعض المنتقدين لمحور المقاومة تقديمها وتكريسها كحقائق لفهم الصراعات الجارية بين محور المقاومة وقوى الهيمنة الغربية (إسرائيل وأمريكا وبريطانيا بدرجة أساس)، ولتبخيس وتشويه دور محور المقاومة والمشروع التحرري الذي يحمله في المنطقة.
فما أظهرته هذه المحطات الثلاث يَكشف عن جانب واسع من بنية المشهد الثقافي العام في قضايا الاستراتيجيا والتحرر، والذي أمسى من خصائصه الرئيسة وجودُ تباين واضح بين عقلين: عقل تحرري يَسنِد مشروع محور المقاومة التحريري وعقل تبخيسي لكل التضحيات والجهود يستقوي بمساحات الثرثرة التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي.. وهو التباين الذي حاولت أن أختزله من خلال المقابلة بين «العقل اللولبي الحر» و«العقل المكعب المسهول». فما هي طبيعة هذا العقل المكعب؟ ولماذا يستحق هذا الوصف؟ ومن خلال الإجابة عن هذين السؤالين أكون قد أجبت عن طبيعة العقل التحرري.
أنطلق في هذا التمييز من ملاحظةِ عَديد المفارقات والمغالطات الذي يزخر بها العقل الخصيم لمحور المقاومة ولمشروعه التحريري، أي العقل المكعب.
– المفارقة الأولى: يريد هذا العقل أن يَكون فِكرُه ناطقا باسم مصلحة الأمة العربية-الإسلامية، لكنه في الوقت نفسه يعادي ويتمنى الهزيمة لمن يُقَدِّم ضرائب الدفاع عن مصلحة هذه الأمة عبر تقديم الشهداء والتضحيات وتَحمُّل الخسائر المادية والضغط السياسي والحصار الاقتصادي… ومَثَلَهم هنا كمثل المنافق في تعريف أبراهام لينكولن: أي ذاك الذي يَقتل وَالِديه ويتوسَّل طالبا الرحمة على أساس أنه يتيم!. فلا يُمكنك أن تَفهم كيف يمكن لهذا العقل أن يُعادي أهم مُقَوِّمات القوة والمناعة والذكاء والإبداع في الأمة (أي محور المقاومة) في وقت يدعي أنه يدافع عن مصالح هذه الأمة؟!.
– المفارقة الثانية: يحاول هذا العقل أن يُقدم نفسه كعقل للتسامح في الأمة، في الوقت نفسه الذي يتوسل التحريض الطائفي والمذهبي والديني كأداة للفعل السياسي ولتصريف المواقف. فهو أعجز من أن يُقدم جوابا مقنعا عن سؤال بسيط مفاده: كيف يمكن الجمع بين ادعاء التسامح من جهة، ومن جهة أخرى إقصاء شعوب ومذاهب وجماعات وقوى حية هي أيضا تمثل جزءا لا يتجزأ من جسم الأمة؟ فهذا العقل يُعادي، تارة، كل ما يَمُت للشيعة بصلة، وتارة أخرى لكل ما يَمُت للإخوان بصلة.. وتارة يعادي تركيا بصورة مطلقة ككيان ودولة وقيادات وعرق، وتارة أخرى إيران، وتارة العلمانيين، وتارة أخرى المسيحيين العرب، هذا مع العلم أن في هؤلاء فئات وجماعات ومثقفين وعلماء يقفون في صف الدفاع عن مصالح الأمة أكثر منه بأشواط!
– المفارقة الثالثة: هذا العقل يستهزئ من محور المقاومة حين لا يَرُد على ضربات إسرائيل أو أمريكا في الوقت الذي يُريده هو، وحين يرد هذا المحور يعتبر ردوده مجرد مسرحية مفبركة بينه وبين إسرائيل وأمريكا. كما أنه حين تضرب المقاومة مصالح الأعداء يستهزئ بالضربات. فمثلا، يَعتبر هذا العقل استهداف حزب الله لأدوات التجسس السلكية واللاسلكية الخاصة بالعدو أمرا يستدعي السخرية والتبخيس!، بينما تجده لا يقول كلمة بشأن الأنظمة التي تفعل أنظمتها الدفاعية الجوية لصد صواريخ محور المقاومة الموجَّهة ضد إسرائيل.
– المفارقة الرابعة: وتبلغ المفارقة منتهاها حين يُظهِر هذا العقل حالةَ عُصَابٍ مَرَضِي واضح: وذلك لَـمَّا يُطالِب هذا العقل مِحور المقاومة بضرب أعداء الأمة (إسرائيل وأمريكا) وفي نفس الوقت يتمنى، في قرارة نفسه، ألا تُنفَّذ تلك الضربات!
المفارقة الخامسة: يسعى هذا العقل، الذي يتَوسل الكلام -ولا شيء غير الكلام- إلى أن يكون من حيث التأثير الجيوسياسي والتكتيكي والاستراتيجي أقوى من الفعل المقاوم على الأرض. ولهذا فهو يرفع صوته عاليا ويُكثر من الثرثرة، مُعتقدا أن هذا من شأنه أن يغير الحقائق على الأرض أو أن يَعْلوا على صوت الرصاص. تَخَيَّل أن يَصيرَ، في منطق هذا العقل، تصويب صاروخ كاتيوشا على ثكنة إسرائيلية أو إطلاق قذيفة على دبابة أقل أهمية من تغريدة في ميزان محاربة العدو! لم يبق، هنا، إلا نُردد ما قاله الشاعر الحر مظفر النواب:
“أتحدَّى أن يَرفعَ
منكم أحدٌ عَينَيْه
أمَام حِذاء فِدائِيٍّ
يا قِرَدَة
النارُ هُنا لا تَمزَح
يا قِردة!”
تلك هي المفارقات التي يعيش عليها عَقْلُ فِئَوي مريض، يجمع عديد الاضطرابات ومظاهر الضعف، ولا يتردد في بث الأخبار الزائفة وتقديم تأويل فاسد للوقائع وإطلاق الإشاعات ضد الشرفاء. وقد نما هذا العقل وتَضَخَّم إلى أن صار حالة شعبوية واضحة، يتغذى فكرها من الفكر الـمُشوه لأفرادها، وذلك على هامش ما يجري فعلا على الأرض وليس استنادا على ما يجري على الأرض، وعلى هامش ما يُوثِّقه الخبراء بالشؤون السياسية والدولية والصحافة الموثوق فيها والمستقلة، وليس بالاستناد إلى ما يوثقه هؤلاء!
فالشعبوية، كل شعبوية، يقول المفكر لحسن حداد، «هي تعبير عن قلق جماعي غير عقلاني تتحكَّم فيه العاطفة والأحكام الجاهزة، ومقاربةٌ مؤامراتية للواقع، تحمل سردا يكون بموجبه الوطن والأمة ضحايا خُطط «شيطانية»، مدَبَّرة من طرف أناس يحملون أفكاراً مُضِرَّة بالمصلحة العامة وقضايا الشعب». ولهذا، في مناخ الشعبوية، تصير «الأخبار الزائفة وأنصاف الحقائق مُوضة للتواصل والتحاور ما دام أن الهدف هو تحقيق مآرب سياسية وإعلامية آنية» (ما بعد الحقيقة والفايكنيوز، ص. 10 و 12).
نحن إذن نعيش إلى جنب هذا الجو الثقافي الذي أنشأه العقل المكعب من خلال التطبيع مع المغالطة والمفارقة والهَذَيَان. يمكن لهذا العقل أن يقول الشيء ونقيضه، أن يَطلب الشيء ونقيضه، أن يحمل هذه القيمة ونقيضها، وأن ينقلب لديه مسلسل التحليل على ما يعتبره مُسَلَّمات أولية.
فيصل القاسم … مستثمر إعلامي في الجهل
عمليا، يُمثل الصحفي فيصل القاسم نموذجا مميَّزا لهذا العقل المكعب الذي يقود رأيا عاما بالثرثرة والطيش والتفاهة. يعكس أداء الرجل على شبكات التواصل الاجتماعي حالة من الشطح الفكري، وأحسب الرجل مصابا بعُصابٍ ما يَستدعي المعالجة النفسية.
بالمناسبة، أنا مِمَّن يحترم برنامجه الحواري «الاتجاه المعاكس»؛ فعلى الأقل، هنا تسمع الرأي والرأي الآخر؛ بينما على صفحته، لا تسمع لا رأيا ولا رأيا آخر، بل فقط النَّط من تفاهة إلى تفاهة أخرى، من رأي متورم إلى آخر: تزييفٌ للوقائع، مراوغة، شحن طائفي، طرح لأسئلة استفزازية من دون موجب وفي غير سياقها المناسب، حَرفٌ للنقاش عن محله، تكريسُ المغالطات، تكرار وتكرير للكذب بلا مَلل، خِداع القراء والمتابعين، التستر بالكلام الكثير لإخفاء جُبن الموقف، إلخ. وعلى صفحته التفاعلية، يَظهر بشكل أوضح ما يمكن اعتباره «مرض متلازمة إيران».. أصبح الرجل لا شُغل له سوى الدعاية الرخيصة: “الفرس.. المجوس.. الفرس.. المجوس…”، كأننا نحن، غير الفرس، ملائكة تسير على الأرض، هذا بينما المعركة الحقيقية هي مع الصهيونية والاستكبار والسلطويات العربية… ثم، هل سمعت يوما الرجل يتحدث عن الترك أو القطريين.. السياسة التركية أو القطرية؟! كل ما نشاهده، استعراضات وبطولات وهمية! إن التزييف على لسان الرجل بَلَغ أعلى مراحل سُعاره وهذيانه.
يقول المفكر إدريس هاني «إنّ الولوغ في التّفاهة يسلبك ملكة السّموّ».. وهذا هو مأزق دكتور التفاهة، فيصل القاسم.
عقل المعادلات الصغيرة حصرا…
مازال العقل المكعب يؤمن بأن كل عملية لحزب الله اللبناني، مثلا، لا تخرج عن كونها استهدافات للأسلاك الكهربائية فقط! وهذا بقدر ما يمثل تزييفا للحقائق هو انعكاس لعقل مسهول يعيش حالة أزمة فيهرب منها عبر استراتيجية مزدوجة بين نُكران الواقع والثرثرة، وأقصى ما يستطيع هو الانتقال من جهل إلى جهل أكثر تركيبا!
فبشأن عمليات الإسناد التي ينفذها هذا الحزب ضد الكيان الإسرائيلي، على سبيل المثال، تجد حاملي هذا العقل:
– لا يرون ما يجري على الأرض، وإذا رأوه لا يفهموه، وإذا فهموه أساؤوا تأويله عن خبث فيهم.
– لا يقرأون ما تقول الصحافة والخبراء في دولة الاحتلال عن حجم الأضرار الذي تُخلفه عمليات الحزب، بَشريا وماديا وأمنيا واستخباراتيا واستراتيجيا.
– يجدون صعوبة في فهم أن صراعات القرن 21 صراعات على الأسلاك قبل أن تكون على الأرض. فالعقل المكعب أقصاه فهم معادلات من الدرجة الأولى! فما شأنه وَالخوارزميات وبنوك المعطيات والذكاء الاصطناعي والشبكات الداخلية المغلقة والموجات الكهرومغناطيسية والمعارك السيبرانية…!؟
إن مشكلتنا مع العقل المكعب شبيهة بالعلاقة بين التفكير المركب والبسيط. ثمة عنصران أساسان في المقارنة: أسلوب الاستدلال وزاوية النظر. يبني العقل المكعب أحكامه على أقل ما يمكن من الحالات؛ فهو لا يُتعب نفسه في جَمع وتصنيف المعطيات. فلا عُمق تاريخي هنا. ومن جهة أخرى، لا يربط بين الداخل والخارج، داخل الظاهرة المدروسة وخارجها؛ كل قضية يأخذها في معزل عن سياقها. فمثلا، لا إشكال لديه أن يناقش قضايا الحرية خارج سياق السلطة، ولا أن يناقش قضايا التحرر خارج علاقات الهيمنة، ولا أن يناقش السياسة الدولية خارج أطرها الاقتصادية. ثمة نزوع نحو الحكم السريع.. لأن الخلايا العصبية لدى العقل المكعب ترهقها الحركة بين المعطيات والحالات والسياقات. فيصير هنا الاستعجال استدلالا، والنظر من زاوية مَعمِية عِلما.
الثرثرة ولا شيء غير الثرثرة!
يستسهل العقل المكعب الثرثرة (بعضهم يُسْتأجر لهذا الغرض: الذباب الإلكتروني)، ويعيش على مفارقات تتغذى على الكذب والتزييف والإشاعات. وكثير من أفراد هذا النوع، لا تهمهم قضايا الأمة ولا فلسطين، وإنما همهم إثارة البلبلة ليدفعوا النقد عن الأنظمة السلطوية القاعدة والعميلة والمُطبعة؛ فتجد هؤلاء الأفراد يُبدون وَلعا في الدفاع عن فلسطين، مثلا، لكنهم في العمق يكرَهون المقاومين أيا كانوا، أكانوا سنة أو شيعة، إخوانا أو قوميين أو علمانيين أو حوثيين، عربا أو أمازيغ أو فُرسا؛ لأن المقاومين يكشفون خيانتهم للقضية الفلسطينية وتَخَلفهم عن الصراع ضد الهيمنة الغربية، كما يكشفون خيانة الأنظمة السلطوية التي يُدافعون عنها ويَتنعمون من ريعها.
والثرثرة، في نهاية المطاف، فِرار من الاستحقاقات الجادة، مِن السؤال والفعل المسؤولَيْن ومن أداء ضريبة التغيير. ماذا كان سيكون مصير القضية الفلسطينية لو أنها تُركت لهؤلاء دون محور المقاومة؟ ماذا كان سيكون مصير العراق اليوم لو لم تَتَعَبَّأ قوى المقاومة سنة 2013 لدحر تنظيم داعش؟ ماذا كان سيكون مصير لبنان لو لم تُحطَّم النوايا الخبيثة لدى المتطرفين على جرود عِرسَال بمنطقة البقاع اللبنانية على يد المقاومين سنة 2017؟. وقل الشيء نفسه مع أفغانستان واليمن وسوريا… لولا محور المقاومة لـمُزِّق الشرق إربا إربا، ولكنا الآن نتحدث عن نجاح سايس-بيكو جديد ضِمن مشروع تقسيم المقسم وتجزيئ المجزأ ولكان الأمر طال دولا أخرى في الغرب الإسلامي، كالجزائر والمغرب (تأمل ما يجري في ليبيا!). فالإمبريالية وربيبتها، الصهيونية، لا تَـهُمُّهما السيادات ولا وحدة الأقاليم والشعوب ولا الأمن القومي للدول بقدر ما تهمهما الموارد الطبيعية والمعابر البحرية وأسواق السلع والسلاح والإبقاء على الدول عاجزة عن الفعل الاستراتيجي والجيوسياسي المؤثر في اللعبة والقرار الدوليَّيْن.
والذين يروجون لأطروحة المسرحية في الصراع الدائر بين محور المقاومة وإسرائيل لن يَمَلوا ترديد نفس الأسطوانة. مُشكلتهم هي غفلتهم عن رؤية دورهم في هذه المسرحية… دور الكومبارس الأبله! لا فِعلَ لهم فيُحَرِّرون التراب مع الفاعلين، ولا قَوْل سَديد لهم فيُطَورون الفكر مع المتفكرين! يا له من مصير… أن تُجهد نفسك في طريق مُخصص للبُله.. وتعيش على سَقْطِ الفكر، وفي الوقت نفسه، تَعتقد أنك فَهيم! كومبارس يرى نفسه مُخرجا!
كلما تعاظم فعل الثرثرة إلا وتيقَّنت أن على يساره عشرات أصفار الفعل التاريخي!. التاريخ لا يُشيَّد على النُّباح!
إن ما يقوم به محور المقاومة من عمليات مقاومة وإسناد وتضحيات يُغنينا عن الدفاع عن هذا المحور وخياراته الجيوسياسية والاستراتيجية. فلطالما اعتقدنا -ولازلنا نعتقد- أنه محور الفرسان والموقف التاريخي الصحيح… فهذا المحور يُمثل أرقى مظاهر الحضور والإبداع والممانعة، والمسنود بعقل البحث عن البدائل، عن المسالك الممكنة، عن خيارات القوة العاقلة والكرامة… في مقابل محور الدسائس الرخيصة والتحالف مع الاستكبار العالمي وإسرائيل المجرمة، والمسنود بعَقلٍ مُكعب يفكر داخل الزوايا المغلقة وحدود السلطات التي يرتضيها أفقا للفكر والإبداع والحرية… إنه مشروع التحرير مقابل مشروع الاستعباد… وهذا عقل يليق بالعبيد وذاك بالأحرار..
إنهم يسخرون من اليمن (أنصار الله) ولبنان (حزب الله) وإيران (الجيش وفيلق القدس) والعراق (قوى الحشد الشعبي) وسوريا (الجيش وقوى المقاومة المعبئة في الجنوب الغربي للبلاد)، ويقولون، كذبا، أنها لا تقدم شيئا، بينما هم يرون بأم أعينهم التضحيات الجسام، في الإنسان والعمران والأموال!!! مرضى النفوس هؤلاء لا خير فيهم سواء للدين أو للدنيا! دفاعهم عن الدين جهالة، وعملهم في الدنيا هباء! وقدرتهم على الجمع بين النفاق والجهل والذِّلة عجيبة! وفي كل مرة ستنجح المقاومة في القيام بعمل نوعيٍّ أو استراتيجيٍ مَا، سيَـزِيد دَاخِلهم النفسي انكسارا وتَشَوها، ويُمعن عقلهم في المفارقة والزيف.
إن التضحيات التي يقدمها محور المقاومة صعبة وكبيرة ومؤسفة لكنها ضرورية وحيوية؛ وإلا فالمنطقة ستبقى منطقة أقنان وعبيد لا أسياد وأحرار! ولعل أهم إنجاز تحقق فِعليا الساعةَ هو إسقاط نظرية الأمن المطلق للكيان وشركائه في المنطقة. إن خلخلة النظرية الأمنية هي الضربة الاستراتيجية الأهم في كل ما جرى وليس استهداف الحُدَيدة في اليمن، أو استشهاد إسماعيل هنية في طهران أو فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية للبنان أو غيرها… نعم، تمثل هذه الضربات والاغتيالات خسارات محققة في صف محور المقاومة، لكن، بالمقابل، أصبحت الأرض الموعودة لشتات القوم كابوسا مُحَققا أيضا. والأمن الذي يمكن أن يحققه اليهودي والأمريكي في أوروبا وأمريكا والمحيط الأطلسي أكبر مما قد يجده في القدس أو بغداد أو بيروت أو البحر الأحمر…
الخلاصة: في هذه البيداء التي تجمع الجهل والفقر والاستبداد، ثمة مشروعان لا أكثر: مشروع الأحرار ومشروع العبيد: الأحرار يَضعون خطط عملٍ واجتهادٍ وشهادةٍ ضد الاستكبار الغربي والصهيوني، والعبيد أدوات أيديولوجية وسياسية لجعل الجهل والفقر والاستبداد خيارا وحيدا مستساغا لدى شعوب المنطقة بَدَل خَوض استحقاقات المواجهة مع السلطوية والفساد والاستكبار، قُطريا وإقليميا وعالميا.
وفي المواقف والمحطات الإنسانية والسياسية الكبرى، أن تكون مؤمنا أو شكاكا أو ملحدا… أن تكون مسلما أو مسيحيا أو بوذيا… أن تكون سنيا أو شيعيا.. سَلفيا أو عَلويا… أن تكون إسلاميا حركيا أو صوفيا أو علمانيا… أن تكون عربيا، أمازيغيا، تركيا أو فارسيا.. هذا آخر ما يهم الله والإنسانية والقيم إذا ما كنت حقيرا بطبيعتك أو بموقفك!
ومن كان يؤمن بالغَرب، ذلك الذي يَـهْرع لإنقاذ السلاحف البحرية ويكتب إعلانات الحقوق، فإن هذا الغرب قد مات! ولم يبق غير الغرب الذي يُساهم بالمال والسلاح والصمت في مجازر يومية في حق الأطفال والنساء والشيوخ… ومن كان يؤمن بالسلطويات والريع والفساد، فهذا مشروع يليق بالعبيد، وعلى هؤلاء أن ينظروا في مصير الدول التي حكمتها سلطويات ليعرفوا مصير أوطانهم (يمكنك أن تستنتج أنه من المستحيل أن تكون ديكتاتورا أو تؤسس لنظام شمولي وفي نفس الوقت تبقى عاقلا وتحفَظ وحدة بلدك وشعبك وأمن نظامك: تأمل سِيَر الشاه رضى بهلوي وصدام حسين ومعمر القذافي وزين العابدين بنعلي وعلي عبد الله صالح!)،… ومن كان يؤمن بالحرية وبالكرامة وبالتحرير فإن الحرية والكرامة والتحرير لا تُوجد إلا على طريق التضحيات، وهذا مشروع الأحرار…