لا أصدق أنني ما أزال حيا، ما أزال متراصا، مشدودا إلى جسدي، ” كاملا”  لا ينقصني طرف  ولا عين و لا عصب، يدان ورجلان مربوطة إلى جمجمة تغلفها فروة شعر. ما أزال غير مصدق أن هذه “الكائنات”، فشلت في أن ترديني أو تسلخ جلدي و تصلبه فوق صفيح سيارة. 

كائنات شبيهة الورى و البشر، تعتلى عرباتها وتعيث في الطرق إفسادا و قتلا و تعويقا وتمثيلا. كائنات تشبه الناس في كل شيء، إلا في الإنسانية و الآدمية، تقتل بالدم البارد وتعطب بالدم البارد، و ترمّل بالدم البارد و تيتّم بالدم البارد، و الدم البارد مضافا إليه جرعة كبيرة من الغباء و الرعونة و فقر مدقع في الحس الإنساني. هذا الخليط المرعب ، و هذا ” الفرانكشتاين” الدموي، ينتج مجتمعا يدحرج كرسيه المتحرك و يخطو على عكاكيز خشبية.

هذا قتل مباشر، يتوارى بعيدا عن أشد الترسانات القانونية صرامة، وعن أدق أنواع الزجر والترصد دقة، قتل مباشر مع سبق غباء و سوء تقدير للحياة كما خلقها الله، قد يمحوك من الوجود بجرة مقود رعناء.

كم موكب زفاف، “زفّه” أحدهم إلى الدار الآخرة قبل أن تتخلق النُطف، وكم من أسرة، استبقت الزمن، فلم يأكلوا من خبز العيد، و كم من أسرة قضت عطلة الصيف الأبدية بالمقبرة، عوض شاطئ المدينة الذي طالما حلمت به الصغيرة “حياة”، لأنها لم تر بحرا قط.

في القريب العاجل سنغدو درسا للتاريخ، و سيعرف العالم أن قوما التفت سيقانهم قبل الالتفاف، وستأتي الأقوام الأخرى لتتفرج على مواكبنا السيارة من الكراسي المتحركة و العكاكيز الخشبية، جحافل المعطوبين و المشوهين و الكتع و البتع و المفقوئين و أنصاف البشر.

 وبالجملة مجتمع قعيد يستجدي الآخرين، و ينظر متوسلا، منكسرا، إلى من يدفعه إلى دورة المياه.

قد يبدو الكلام مستشيطا، و شديد الحنق و زائدا عن اللياقة المعروفة ( حملات التوعية الباردة المحتشمة) ، فإنما هي زفرة الغضب، مما يجري على طرقاتنا الكسيحة ، و إشارة بأصبع الاتهام والإدانة ، لكل الذين حولوا منازلنا إلى دور عزاء لا ينتهي، الذين حصدوا أرجل الناس و أيديهم، بمناجل الطيش و الغباء وانعدام الكفاءة و الأهلية.

 الذين جعلوا أحبتنا، يضعون في محاجرهم كرات  عمياء من البلاستيك و البلور، و فلذات من أكبادنا تنسى أن بالقاموس كلمة اسمها بابا و ماما، وغاداتنا اللواتي انشغلن بتركيب الأيادي والأطراف المصنوعة، ويتأبطن قضبانا من الحديد البارد، و لا يمددن أبدا أيديهن إلى العريس الذي لا يأتي.

 وربما للسبب نفسه ، يجد السيد ” ف” صعوبة بالغة في إقناع مريديه ، بالفرق الخيالي بين ما يتلقونه في “مدرسته” لتعليم “السّوق “، وما يدور فعلا من كرّ وفرّو تناوش و مناورات و إقبال وإدبار و قنص و مكيدة، على ساحات الوغى و الإسفلت.