أجد نفسي مُجبرا على الخوض في ما يعرفه حزب الاستقلال في الآونة الأخيرة وما يعتمل داخله من تفاعلات يختلط فيها التدافع الإيجابي المطلوب مع العمالة السياسة البغيضة، ويتقاطع الطموح المشروع مع الخيانة اللعينة، وتتداخل فيها جهود المحافظة على المكتسبات التي حققها حزب الاستقلال عبر مسيرته النضالية مع خيار الإجهاز على ما تبقى من مناعة الحزب.. كما تتداخل الرغبة في تحصين الحزب ورفع التحديات التي تجابهه مع تحدي استلابه وإلحاقه بالأحزاب المصطنعة.

أجد نفسي مطالبا بإبداء الرأي في زحمة النقاشات والسجالات وردود الأفعال حيال ما يعيشه حزب الاستقلال بين من يرى ضرورة حماية الشرعية والدفاع عن هوية حزب الاستقلال وتحصين مكتسباته، وبين من يطالب برأس شباط، الذي يعتبرونه سببا في ما آلت إليه أوضاع الحزب على كافة الأصعدة والمستويات السياسية والانتخابية والتنظيمية، بعدما كان سقف مطالبهم لا يتجاوز إعادة النظر في عضوية المجلس الوطني وتوزيع مقاعده على الجهات.

وبين هذا الفريق وذاك تتناسل التأويلات والتكهنات والقراءات لمستقبل حزب صنع مجد المغاربة وساهم في بناء المغرب المعاصر، حزب أكبر من تنظيم سياسي؛ بل معادلة سياسية يصعب فك ألغازها؛ أو لنقل قلعة صامدة عصية على الاقتحام والتدجين؛ إنه بكل اختصار تاريخ المغرب والمغاربة.

يحز في النفس ما آل إليه الحزب .. وكنت قد كتبت مقالات في الموضوع ووجهت نقدا لاذعا للأمين العام ولأعضاء اللجنة التنفيذية، ليس تطاولا أو جسارة، بل غيرة على الحزب رغم أني خارج مؤسساته. بل أكثر من ذلك، طالبت شباط بنقد ذاتي يسلط الضوء على كل مناطق العتمة في تجربته على رأس حزب الاستقلال، من انتخابه أمينا عاما للحزب إلى الصدام مع العدالة والتنمية والانسحاب من الحكومة التي كانت من نتائج الاصطفاف الغامض مع الأصالة والمعاصرة، مرورا بفك الارتباط معها والعودة لأحضان العدالة والتنمية عبر المساندة غير المشروطة، وصولا إلى التواري التكتيكي الذي يبغي من خلاله الأمين العام التراجع خطوة إلى الوراء للتقدم خطوتين إلى الأمام.

أحسم مسبقا أن الحرب المستعرة ضد شباط ما هي إلا الشجرة التي تخفي الغابة، وأنها لا تستهدف شخص الأمين العام على عكس ما يُروِّج له البعض، كما أنها لم تندلع بهاجس تحقيق المساواة بين الجهات في ما يتعلق بكوطا المجلس الوطني كما يزعُم البعض، بل تستهدف تمزيق حزب الاستقلال وإضعافه، كما تستهدف ممانعته وقدرته على إنتاج مواقفه بكل استقلالية (بالرغم من تماهي قيادة الحزب مع العديد من القرارات التي لم تكن تصب في مصلحة حزب الاستقلال)، كما تستهدف قوتَه التنظيمية وتقاربه المعلن مع العدالة والتنمية التي أشعل المخزن النار في بيتها.

إنني أعيب على حميد شباط تهميش المناضلين الحقيقيين الذين يُضحون من أجل الحزب! واعتماده على الانتهازيين والانتفاعيين والوصوليين! حتى تحولت مؤسسات الحزب من مدارس للنضال والتكوين والتأطير والوطنية إلى فضاءات للتسلق والتملق والمجاملة والسمسرة والاغتناء غير المشروع؟

إنني أعيب على حميد شباط تحكُّم الأعيان والعائلات في الحزب وفي الانتخابات، وألومه على وضعه مفاتيح الحزب في أيدي إقطاعيين لا يجرون سوى وراء مصالحهم .. استباحوا التنظيم وعاثوا فيه فسادا .. طردوا المناضلين ومن لا يسايرهم جهلهم وهمجيتهم وفقرهم السياسي .. كيَّفوا أنظمة الحزب ولوائحه على مقاس أطماعهم .. عقدوا المجالس الإقليمية والجهوية حسب هواهم .. واليوم ينقلبون على الحزب ويحرقونه على مرآى ومسمع من الجميع ويذيقون حميد شباط ومن معه من نفس الكأس المسمومة التي شرب منها مناضلون أوفياء للحزب من قبل.

الأعيان يتبعون مصالحهم .. حيثما نشدوا ضالَّتهم تواجدوا، فهم يتلوَّنون حسب الإملاءات والمصالح، وينتقلون من حزب إلى آخر دون ذكر الأسباب والمسببات، وينتقلون من موقع إلى آخر دون أن يُلزمهم أحد بالتوضيح، ويغيِّرون اصطفافهم دون أن يكونوا مطالبين بالتعليل، ودونما حاجة إلى تأسيس مواقفهم المتقلِّبة على أُسُس سياسية أو تنظيمية، بل دونما حاجة إلى تجشُّم العناء لإقناعِ المناضلين، لأنهم بكل بساطة لا يجدر بهم الارتقاء إلى مستوياتهم التحكُّمية، فهم مريدون وأنصار ومصفِّقون لا غير، ليس مطلوبا منهم الإبداع والتقرير بل يجب أن يقولوا “نعم” ويصفقون لكل ما يأتي به هؤلاء المتسلطون.. ومن عبَّر عن موقف مخالف ولو كان ذلك في أمر غير ذي أهمية، فلينتظر العقاب! هكذا سيَّر الأعيان الحزب في الجهات والأقاليم. 

لقد نخر فيروس الأعيان جسد الأحزاب الوطنية، وأعياها لدرجة لم تعد تقوى على مقاومته، وأصبحت تُجاريه قسرا.. واليوم يأتي الدور على حزب الاستقلال .. إنها مرحلة فارقة إما أن يخرج منها حزب الاستقلال قويا أكثر من أي وقت مضى، أو يخرج ضعيفا منهك القوى ملتحقا بصف الأحزاب التي لا يتوفر معجمها السياسي على كلمة “لا”.

منذ رفض شباط الانخراط في الانقلاب على إرادة الناخبين يوم 08 أكتوبر كان يجب أن ينتظر استعمال كل الوسائل للإطاحة به.. وهو يعلم ذلك جيدا! وما الحرب التي تدور رحاها في ساحة حزب الاستقلال إلا رد غير مباشر على رفض حميد شباط الغدر بالعدالة والتنمية، وإصراره على إعطاء استقلال القرار الحزبي دلالة واقعية من خلال تعنته وعدم مجاراته من انقلب على الإرادة الشعبية.

إنني أدعو كل الاستقلاليين إلى عدم الانجرار وراء الشعارات البراقة والسجالات المغلوطة وكلام وسائل الإعلام المدفوعة الأجر، وعدم الاكتراث إلى المؤامرات التي تحاك في فنادق الخمس نجوم لأنها بالتأكيد ستتحطم على صخرة النضال الجماهيري والوفاء للحزب.

إن مناضلي حزب الاستقلال مطالبون اليوم -أكثر من أي وقت مضى- بالالتفاف حول الشرعية وحماية الحزب من المتربصين والحاقدين والناقمين .. إذ تقع على عاتقهم مسؤولية تاريخية ستحاسبهم الأجيال القادمة عن أي تهاون أو تقصير فيها، خاصة وأن الحزب يمر من مرحلة دقيقة تتطلب الفهم السليم والحكمة والتبصر وتتطلب كذلك القوة والشجاعة لفرض هبة الحزب على الجميع.

إنه مباشرة بعد حادثة 08 أكتوبر المشؤومة، وبعد رفض شباط الانسياق وراء مشروع الانقلاب على صناديق الاقتراع بدأت هواتف الأعيان في حزب الاستقلال ترِنُّ، وبالتأكيد تم تلقي الرسائل بالإيجاب والسمع والطاعة! وتم الإعداد الجماعي لفصول المسرحية في الكواليس ليتم عرضها تباعا في صورة مستفزة ومُقرفة.. ليتقلد دور البطولة فيها من يفتقد لأبسط مقومات القيادة والزعامة..

إن فصول المسرحية ما زالت متوالية، وأن الاستقلاليين أمامهم امتحان عسير للحفاظ على مكتسبات الحزب وحمايته من الاستلاب والتدجين، وأن مسؤولية أعضاء المجلس الوطني والمسؤولين الإقليميين من مفتشين وكتاب إقليميين وهيئات الحزب ومنظماته وكل المناضلات والمناضلين كبيرة؛ وأن الانسياق وراء موجة “تغيير شباط” ستدمر حزب الاستقلال وتجعله حزبا تابعا ضعيفا لا يتمتع بالاستقلالية ولا بالجرأة السياسية.

لقد انتقدت حميد شباط في وقت اصطف معه الجميع، وانتقدت الأعيان وتحكمَّهم في الحزب، واليوم أعلن وقوفي مع الشرعية ليبقى حزب الاستقلال قويا شامخا.

إن المغرب يحتاج إلى أحزابه الوطنية القوية ذات التمثيلية الجماهيرية، كما يحتاج إلى نقابات مهنية قوية مؤثرة وذات تمثيلية كبيرة.

إن إضعاف الأحزاب الوطنية وإضعاف النقابات خطر على المغرب ..

إننا سنحتاج يوما لمن يؤطر الجماهير فنجد قادة الأحزاب لا يُنصت إليهم أحد.. وسنحتاج لمن يطفئ غضب العمال فنجد زعماء النقابات لا يستجيب لهم أحد.

كفانا من إهانة الأحزاب الوطنية وإضعافها وإذلالها، ففي المغرب توجد العديد من الأحزاب التي صنعها المخزن فافعلوا بها ما تشاؤون..

ألم يكن درس الاتحاد الاشتراكي بليغا؟ ماذا ربح المغرب من إضعاف حزب كان يُقام له ويُقعد؟ ماذا سيربح المغرب من تمزيق حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية وإضعافهما؟ أما ما سيخسره الوطن فيعلمه الراسخون في علم السياسة.

حذار من اللعب بالنار! ارفعوا أيديكم عن حزب الاستقلال!