“ليس هناك إلا حتميتان في هذا العالم: الموت وأداء الضرائب“

                                                             بينجامين فرانكلين

مرت أكثر من أربع سنوات على انعقاد المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات بالصخيرات (المغرب، ماي 2019)، وقد تبنت الجهة المنظمة شعار “الإنصاف الضريبي” (=L’équité fiscale).  ولئن كان الشعار يترجم أحد مرتكزات العدالة الجبائية، فإنه ينطوي، في المقابل، على اعتراف ضمني بغياب لهذا الإنصاف. هل يتعلق الأمر إذن بخلل عارض يعتري النظام المالي، خلل يمكن تداركه بتعديلات قانونية وإجراءات مسطرية، أم أنه متصل بعطب بنيوي يلازم النظام المالي بالمغرب؟ 

النظام الجبائي مقياس للعدالة الاجتماعية، ومن هذا المنطلق يصير “الإنصاف الضريبي” مشروطا بتوافق وتراض. فهل ينبني النظام الجبائي أساسا على هذا الشرط؟ في المجتمعات ما قبل الرأسمالية استُمدت شرعية الضريبة من المقدّس، وكانت تصرف حينئذ للحاكم وحاشيته. ومعلوم أن أداء الضرائب كان معيارا به يتحدد الخضوع للحاكم من عدمه؛ لذا فإن الحديث عن توافق، في مثل هذا السياق، لا يستقيم قياسا إلى التعسف الذي يؤطر العلاقة بين من يفرض الضرائب ويستخلصها وبين من يؤديها. وقد يُظن أن في الدولة الحديثة قد تحقق هذا التوافق والتراضي، غير أن التاريخ يثبت أن “العقد الاجتماعي”، حين رسخ تحكم الدولة في الرقاب والمصائر والتفاوتات، كرس من جهة ثانية البعد التسلطي في فرض واستخلاص الجباية. على أن هذا التسلط لا ينفصل عن تقاليد السلطوية المطلقة، اللهم ما حاولت الدولة الحديثة إضفاءه من شرعية على الضريبة عبر ما أطلق عليه “دولة الرعاية”. من هنا صارت وظيفة الدولة مزدوجة: إنها من جهة دولة الرعاية الاجتماعية وهي أيضا فاعل اقتصادي.

وإن كان سؤال المشروعية لا يزال يذكي نقاشات في الفلسفة السياسية، فإن التساؤل عن شرعية الضريبة أولى بأن يوجه أي نقاش حول الموضوع؛ على افتراض أن المناظرة تنبني في الأساس على شرعية ما تبررها. سيكون من المكرور التأكيد على أن شرعية الضريبة تُستمد من شرعية الدولة، وبهذا تكون المناظرة اعترافا باختلالات تمس النظام الجبائي، وبدل أن تُعرض هذه الاختلالات على النقاش الذي لا يغيب الإرادة الشعبية، فإن المقترحات التي هيأتها الجهة المنظمة ومعها شركاؤها لا يتجاوز مفعولها صياغة شرعية جديدة أكثر تماسكا، ولا تعدو كونها المهدئ الذي لا يحسم مع الداء وإنما يمنحه ظروفا ليستمر ويتقوى، ونعني بالداء غياب الإنصاف الضريبي الذي يقفز على المشروعية ويصادرها.

قبل الاستعمار المباشر للمغرب انبنت شرعية الضريبة على أساس ديني (الزكاة، الأعشار، الخراج،..) أو أساس سلطوي (الحركة، المونة، السخرة، التويزة، المكس..)، والضريبة في هذه الفترة كانت مقياس التمييز بين “بلاد المخزن” و”بلاد السيبة”. لقد عرفت الدولة المخزنية قبل الاستعمار المباشر ضعفا مشفوعا بثقل التكاليف والالتزامات المالية، خصوصا تلك المتعلقة بمحاولات الإصلاح و”التحديث”، مما اضطرها إلى فرض ضريبة الترتيب، والتي واجهها الفقهاء بالرفض لانعدام السند الديني. 

في مرحلة الاستعمار انفردت السلطات الفرنسية بوضع أسس النظام المالي، وهو الأمر الذي نص عليه بند من بنود معاهدة الحماية. إن الغاية من التأسيس لنظام مالي بالمغرب الانسجامُ مع بناء الدولة الحديثة، بمؤسساتها الإدارية والصحية والتعليمية والاقتصادية..، وهي بالجملة مؤسسات تكمل بعضها البعض. على أن النظام الجبائي، الذي تم الاحتكام إليه في هذه الفترة، قد سعى إلى تجاوز المشروعية الدينية التي طبعت الضريبة في فترة ما قبل الاستعمار المباشر، دون أن تقطع مع تجلياتها؛ إذ إن السلطات الفرنسية قد سنت هذا النظام في مناطق المغرب النافع، وتركت المناطق الأخرى محتكمة إلى العُرف. في هذا السياق فُرضت ضرائب جديدة من قبيل ضريبة التجارة (الباتانتا) والرسم الحضري، وابتداءً من 1948 فُرضت الضريبة على الأجور.

لم يقطع النظام الجبائي في مغرب ما بعد الاستعمار المباشر مع النظام الذي وضعته السلطات الفرنسية، بل إنه ثبت مشروعتيه مع أول دستور ممنوح. ومنذ تلك الفترة إلى حدود الثمانينات لم تمس النظام الجبائي إلا تغييرات طفيفة. إن التعديلات التي طرأت منذ الثمانينات كانت محكومة بما فرض على الدولة في ظل التقويم الهيكلي، لذا فإن المستجد حينئذ لم يتجاوز فرض ضرائب جديدة مثل: الرسم على القيمة المضافة، 1968- الضريبة على الشركات، 1988- الضريبة العامة على الدخل 1990، جبايات القيم المنقولة، الضريبة على العمليات المالية والعقارية.. هذه التعديلات لم تترجم على الواقع توزيعا عادلا للثروة (بالنظر على الأقل إلى أنها وظيفة الضريبة من منظور ليبرالي اجتماعي)، ولم تزد التفاوتات الاجتماعية إلا خلقاً وتكريسا وترسيخا، وهو ما تؤكده مؤشرات مثل “جيني” بخصوص العقدين الأخيرين. لقد ظلت هذه التعديلات، إلى اليوم، موضوع احتجاج ورفض. آخرها احتجاجات تجار “درب عمر” و”القريعة” على الفَوْتَرة 2019، واحتجاجات المهنيين على التعديلات المضمنة في قانون المالية 2023. 

إن تلك التعديلات، التي يراد لها أن تتخذ صفة “إصلاحات”، تعوزها الفعالية. ولعل ما يسجله تقرير البنك الدولي عن المغرب (2023) ينبئ بالوضع السيء للاقتصاد المغربي، وهو ما ليس مفاجئا في ظل السياسات الاقتصادية المطبقة. على الرغم من أن التقرير قد سجل نموا في الناتج الداخلي الخام بمعدل 7,9٪ إلا أن هذا الارتفاع يعود بالأساس إلى سببين: أولهما التوقف شبه التام للنشاط الإنتاجي في ظل الجائحة، وهو ما لم يُستأنف إلا في 2021 حيث تقاطعت ظروف شتى (أهمها الموسم الفلاحي الجيد، نظرا لارتباطه بالتساقطات المطرية) ساعدت على الارتفاع. وثانيهما أن هذا الارتفاع كان بالقياس إلى توقف النشاط الإنتاجي وحسب. وفي 2022 سُجل انهيار المعدل الداخلي الخام إلى 1,2٪، مما يؤكد أن المعدل السابق لم يكن يعبر عن حقيقة النمو الاقتصادي. يفيد التقرير نفسه أن نسبة التضخم في 2022 قد بلغت 8,3٪، وهي أعلى نسبة تُسجل منذ تسعينات القرن الماضي. جدير بالإشارة أن نسبة التضخم قد طالت المواد الغذائية بـِ 16,1٪ والمحروقات بـِ 45,3٪ وهو ما يؤشر على ارتباط الاقتصاد الوطني على الواردات.

يثبت الواقع أن مخططات الدولة (المستندة بالأساس على الوصفات النيوليبرالية) تفشل في كل محطة تخوضها في محاولة ترقيع ما يراد له أن يسمى “أزمات”. ذلك أن هذه المخططات متشبثة باستراتيجية ركنها الأول هو الرهان على القطاع الخاص منذ ستينات القرن الماضي، حيث مُنحت امتيازات شتى لهذا القطاع أهمها الامتيازات الجبائية بغاية تحقيق مستوى من الادخار لأجل نمو اقتصادي. لقد رسخ هذا الرهان على القطاع الخاص العجزَ عن تحقيق نمو اقتصادي، وأسهم في تراكم الثروة في اتجاه واحد. أما الركن الثاني فيتعلق بالانفتاح على الخارج عبر العديد من اتفاقيات التبادل الحر، وذلك في ظل قصور الاقتصاد المغربي عن خوض التنافسية، مما كرس التبعية والخضوع لتقلبات السوق الدولية، وأفضى إلى نسبة تضخم غير مسبوقة وارتفاع المديونية بما يفوق 70٪ من الناتج الداخلي الخام. 

اعتماد الوصفات النيوليبرالية، والمخططات السياسية المفتقدة للشرعية الشعبية، تترجمه مخرجات المناظرة، ويتم بذلك رسم الإطار الذي تندرج ضمنه الترقيعات التي تستحثها الدولة لمجابهة التحديات المشار إليها آنفا. على أن قراءةً لمخرجات المناظرات تنبئ بتسجيل تراجعات مقارنةً بالمناظرة الثانية 2013؛ إذ تَمَّ حذْفُ توصيةِ الضريبة على الثروة. إن المناظرة الثالثة، والحال هاته، تعيد إنتاج الأعطاب السابقة، إن لم تكن سعيا إلى إعادة تعليب شرعية موهومة. 

ولئن كانت المساواة أمام الضريبة فرعا عن المساواة أمام القانون، إن لم نقل المختبر الحقيقي لمدى الامتثال للقانون ودرجة الاحتكام إليه، خصوصا وأن الأمر يتعلق بفعالية اقتصادية تنطوي على عنف إزاء الملزم بها، إن كان ذلك كذلك فإن اللامساواة أمام الضريبة تفصح عن الأعطاب التي تطال المساواة أمام القانون. تشهد بهذا العطب المركب التقاريرُ والتوصياتُ الصادرةُ عن جهاتٍ رسمية، إذ يؤكد تقرير أصدره المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي (2019)، أن النظام الجبائي بالمغرب ليس عادلا، وغير ملائم، بل إنه يعرقل خلق الثروة عن طريق الابتكار والتنافسية، عوض أن يكون رافعة للإنتاج الوطني. كل هذا يثبت أن التعديلات لم تمس جوهر النظام الجبائي، اللهم تكريس الوضع. سيتضح أن هذه التعديلات لا يمكن أن تحقق المبتغى منها بشكل منفصل عن العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بعيدا عن كل محاولة لعزل الأعطاب عن المنظومة التي تشدها إلى بعضها البعض.

التوصيف الذي وضعه النموذج التنموي الجديد للاقتصاد المغربي، مصرحا بـ”بطء في التحول البنيوي لهذا الاقتصاد” وملمحا إلى أنه “اقتصاد مغلق جزئيا جراء منطق الريع والمصالح”، إن هذا التوصيف ينطوي على اعتراف بانعدام الفعالية المميزة للتعديلات المتعلقة بالنظام الجبائي. يشير النموذج التنموي الجديد إلى ما سماه “الاقتصاد المغلق جزئيا” متجاوزا التسمية الصريحة لهذا العطب أي “الاحتكار”، كما أنه يقر بـ”ضعف الهوامش لولوج فاعلين جدد مبتكرِين”، وهو ما يتقاطع والتوصيات الواردة في التقرير المشار إليه أعلاه، من جهةِ عرقلة الابتكار والتنافسية. يضيف التقرير أن الشعور بضعف الحماية وعدم القدرة على التنبؤ يكبحان المبادرات، ويُرجع ذلك إلى “ضعف الثقة في منظومة العدالة”، كل هذا في ظل سيادة “البيروقراطية وطرق التظلم غير الفعالة”. ينبغي أن نسجل، في هذا السياق، أن استراتيجية الدولة المتمركزة حول الرهان على القطاع الخاص والانفتاح على الخارج، قد أبانت عن فشلها؛ بالنظر إلى أن القطاع الخاص غير قادر على خلق الثروة ما دامت حرية المبادرة محاصَرة بالكبح، وهو ما أدى إلى خلق احتكارات أفرزها نظام الريع المتصل بطبيعة النظام السياسي.

والقطاع الخاص، بهذا المعنى، لم يستطع خلق تنافسية سواء داخليا أو خارجيا. وحيث إن تقرير الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب الصادر في 2019 يصرح باختياراته الليبرالية: اقتصاد السوق والملكية الفردية والمبادرة الفردية والانفتاح على الخارج، فإنه [=التقرير] يتماهى مع سياسة الدولة، ولا يُظهر أي رفض للريع بما هو نظام يتناقض والتوجهات الليبرالية. يتضح، من هذا المنظور، أن القطاع الخاص _وإن كان يتقنع بملامح الليبرالية والتحديث، فإنه يخفي بذلك ارتباطه القوي بنظام الريع بما هو ممارسة تنتمي إلى الرجعية والتقليد.

باجترارها للتوصيات التي خلصت إليها النسختان السابقتان، وإعادة تسميتها للأعطاب الملازمة للنظام الجبائي، أكدت المناظرة الوطنية الثالثة للجبايات بالمغرب تشبثها بعقيدة تثبيت الوضع، بناء على توافقات جديدة. وعلى اعتبار أن المناظرة لم تكن إلا تهييئا لإصدار القانون الإطار 19.69 المتعلق بالإصلاح الجبائي، والذي انبنى على المخرجات التي اقترحتها، فإنها لا تبعد عن كونها “ورشة مغلقة” لإعادة تغليف المشروعية من جهة، والتشبث بتغييب الإرادة الشعبية من جهة ثانية؛ خاصة وأن القانون الإطار قد أصدر في سياق ملتبس وضبابي. الأمر لا يعدو الإبقاء على نفس المخططات، استرشادا بوصفات ليبرالية يتعايش فيها وهم التحديث مع تجذر التقليد، متمثلا في نظام الريع. بهذا يغدو كل حديث عن إنصاف ضريبي في ظل سيادة اللا مساواة ضربا من التهويم والتضليل، ولا يبقى من جوهر المناظرة إلا التسمية.