الأحجية المغربيّة
كشف مسلسل الأحداث التي كان المغرب مسرحا لها منذ انتخابات أكتوبر 2016 عن عناصر أساسية للخصوصية السياسية المغربية، سواء على مستوى العقيدة الثابتة عند الدولة المخزنية وتصورها لمستقبل البلاد، أو على مستوى أدوات اشتغالها وتمثلها للعمل السياسي والمؤسساتي في ظرفية تسوّق فيها الجهات الرسمية لانتقال ديمقراطي على الطريقة المغربية يشكّل استثناء في المنطقة من حيث الهدوء والتدرج. وإذا كانت الظروف البئيسة لتشكيل الأغلبية الحكومية قد قضت على آخر آمال الإصلاح من الداخل في صيغته الحالية التي ارتبطت بسطوع نجم حزب “العدالة والتنمية“، فإن الموجة الجديدة الواسعة من الاحتجاجات الشعبية وعلى رأسها “حراك الريف“، تثير الكثير من الأسئلة حول أسس الاستقرار الذي جعله المغرب مرتكز خطابه السياسي والاقتصادي في الداخل والخارج، وتدعونا إلى مساءلة حصيلة “الاستثناء المغربي“ بعد خمس سنوات من تجديد عقدِه الاجتماعي من جهة، و بعد ثلاثة عشرة سنة من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة كأوّل لحظة مؤسِّسة للمصالحة التاريخية في مغرب ما بعد الاستقلال من جهة أخرى.
آراء أخرى
حكومة العثماني ومطبّات “الانتقال الديمقراطي“ التي لا تنتهي
عرف النسق السياسي المغربي تطورات غير مسبوقة بعد تصدّر حزب “العدالة والتنمية” لانتخابات 2016. وجاءت هذه النتيجة عكس ما كانت تريده مراكز النفوذ العليا، خصوصا وأنها تعني رغبة واضحة للناخبين في تجديد ولاية بنكيران على رئاسة الحكومة، بعد أن نجح هذا الأخير في الحفاظ على شعبيّته وشيطنة بعض من رموز التحكّم والسلطوية، وعلى رأسها حزب “الأصالة والمعاصرة”. ورغم كل ما يمكن أن نعيبه على بنكيران من استعداد شبه مطلق للانبطاح والتنازل عن الصلاحيات كلّما تعلق الأمر بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، ومن تعليل شبه آلي لذلك من منطلق التعاون بين المؤسسات ومراعاة الظروف الدقيقة التي تعرقل أي مشروع إصلاحي في المغرب حرصا على المصلحة العليا للبلاد، إلّا أنّ جهرَه بواقِعِيَّتِه السياسية ساهم في تنامي شعبيّته، بشكل لعلّه فاجأ حسابات السلطة، بل لعلّ بنكيران، باعتباره ظاهرة سياسية فريدة في تواريخ الخطاب السياسي والشخصية العمومية والمسؤول الحكومي، الدليلَ الحيّ والأمثل على تشبّث الدولة المخزنية بأساليبها التقليدية وعلى حجم القصور الحاصل في ورش الإصلاح من حيث الفعل والإرادة على حدّ سواء.
وإذا كانت السلطة قبل الانتخابات قد حاولت جاهدة اصطناع نوع من الثنائية الحزبية الديمقراطية بين “البيجيدي” و“البام“، فإن حلولهذا الأخير ثانيا واصطفافه في المعارضةأجبر السلطة على اللعببأوراق أخرى للرد على الانتصار الرمزي لبنكيران وحزبه. ولم تمرّ سوى بضعة أسابيع حتى وجد بنكيران نفسه أمام حملة “تحكمية” جديدة، حيثقاد أخنوش ضدّهُ معركة كسر ظهر طويلة أنتجت “البلوكاج” الشهير. وقضى بنكيران ستة أشهر مقصوصَ الجناح بعد أن تواطأت الأحزاب الرئيسية فيما بينها (باستثناء حزب الاستقلال) لإقفال العملية التفاوضية بشكل استحال معه تشكيل حكومة لا يكون فيها المشروع الإصلاحي الذي يحمله الإسلاميون أقليّا. ورغم الامتداد الزمني لهذا البلوكاج، إلا أن كلّ حلقاته افتقرت إلى أدنى شروط التداول السياسي، وطغى عليها التطاحن السياسوي ومنطق الشخصنة بإيعاز من دوائر القرار العليا، بعيدا عن كل نقاش حول البرامج وسبل الإصلاح، ممّا أسفر عن توقف تام للزمن السياسي. وقد شكّلت تنحية بنكيران تتويجاً طبيعيّا لسيرورة حرب الأعصاب هذه، مؤكّدة على عزم القصر استرجاع سيطرته على كل أركان الساحة السياسية، بعد أن أزعجه وفاجأه أسلوب بنكيران وسنده الشعبي في أكثر من مناسبة.
ولم يكن إبعاد بنكيران المكسب السّلطوي الوحيد من وراء الالتفاف الممنهج حول إرادة محاربة الاستبداد المعبّر عنها من خلال نتائج الانتخابات، فقد عمّق البلوكاج من الخسائر الفادحة التي طالت مصداقية الأحزاب ورأسمالها الرمزي على مدى سنوات، بعد أن سمحت بإفراغ التداول السياسي من محتواه، وأكّدت خضوعها التام لأهواء السلطة مقابل ريع سياسي سخيّ. ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنما حصل بعد الانتخابات يشبه قطيعة منهجية اعتمدتها الدولة لإعادة توزيع الخريطة السياسية. وقد برز في هذا الباب استلهام كل الأحزاب للخطاب الملكي في ذكرى المسيرة الخضراء عن ضرورة تشكيل حكومة منسجمة بأهداف محدّدة من أجل تبرير سلوكها في كل مناسبة، وقابله تغييب تام لمعطيات التباري التي ميّزت سياق الحملة الانتخابية وما قبلها. ويدل هذا التنكر القسري لمنطق التراكم السياسي على إعادة ضبط الأحزاب لبوصلتها كلّما أدركت تغيّرا في توجّهات المخزن. كما تدلّ هذه البرغماتية غير المسؤولة عن تطبيع تام للأحزاب مع الهَبَّة الجديدة للنزعة المخزنية بكـلّأساليبها السلطوية المباشرة وغير المباشرة.
وتسعى هذه النزعة التي ما فتئت تترسّخ لدى السلطة يوما بعد يوم منذ الاستقلال إلى تسخير الأحزاب واستدراج نخبها واحتواء استقلاليتها وامتداداتها الشعبية، ويشي هذا التعامل بارتياب كبير من نموذج الحزب المستقل النابع من الشعب، كما يفضح نوعا من الانتقاص المبطّن من قيمة المؤسسة البرلمانية التي يفترض فيها ترجمة المشاركة الشعبية، وكذا من قيمة المؤسسة التنفيذية التي كانت ولا تزال امتدادا لهيمنة القصر على شتى مناحي النفوذ.ذلك أن المخزن، على مر العقود، لم يقبَل إلا مضطرّا أن تشاركه الأحزاب والهيئات النابعة من الشعب بعض صلاحيّاته، ولم يتهيّب في استعمال الأحزاب الوطنية كمطافئ للحرائق التي كانت تعترضه أو تتسبّب فيها سياساته، ونذكر هنا على سبيل المثال تجربة التناوب أيام “السكتة القلبية“ وتجربة الإسلاميين أيام “الربيع الديمقراطي“. فكأن الأحزاب في المغرب لا يجوز أن تكون لها أهلية المساهمة في التدبير المخزني إلا بالتصفيق والتهليل والتصارع على شرف تنفيذ المشاريع المقررة سلفا والإشراف على سير الأوراش الكبرى. وقد أظهرت الدولة في أكثر من مناسبة تشبثها بهذا التعالي عن منطق التطاحن الحزبي باعتباره صراعا إمّا بين مجموعة من الانتهازيين الذين لا همّ لهم بمصلحة الوطن، وإمّا بين مجموعة من محدودي الكفاءة وقصيري النظر العاجزين عن لعب أدوار طليعية كرجال ونساء دولة. وقد بدا ذلك واضحا مثلاً في الحملة الديبلوماسية التي قادها الملك تحضيرا لعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، حيث لم تتعدّ الأحزاب دور المرحبّ بالمبادرة الملكية الناجحة، مسرّعة بانتخاب هيئات البرلمان لكيلا تعرقل حساباتُها السياسية الضيقة المشروعَ الملكيّ التاريخي.
وهكذا، يتم توزيع أدوار العملية السياسية على الطريقة المغربية بحيث يكون ضبط التوجه العام والقرار الاستراتيجي التاريخي حكرا على القصر، في حين يكون التسيير الظرفي المرحلي من نصيب الأحزاب برلمانا وحكومة. وهو توزيع يراعي بالأساس موازين القوى القائمة بين مكونات المخزن السياسي والاقتصادي، ويكاد يغيّب بشكل كلّي نبض الشارع المغربي وانشغالات الشعب بمختلف فئاته، وتتخلى الأحزاب بموجبه عن دورها العضوي كممثل للشعب، وكوسيط بينه وبين السلطة في الحالة المغربية، مكرّسة ثقافة الوصاية والأبوّة التي يُستند إليها في التعاطي مع الشعب، باعتباره رعيّة لا تملك إلا أن تلتزم بأخلاق السمع والطاعة. والحال أن حرص الدولة المخزنية على هيبتها ومركزيتها سابق على الضعف الكارثي للأحزابوالنخب وانحطاط المؤسسات، بل وأهمّ عواملهما. ولا أدلّ على ذلك من إصرار الدولة بعد أزيد من خمسين عاما على تجربة “الفديك” (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، على خلق أحزاب جديدة أو تسخير الأحزاب الموجودة لخدمة أجندتها ودعم تقنوقراطييهاكلما اقتضى الحال ذلك كما حصل مع أخنوش وحصاد وغيرهم. وهكذا،جاءت حكومة العثماني بعد طول انتظار باهتة الإخراج، وفاقدة للشرعية، حيث تجاوز هذا الأخير التنازل عن آخر أوراق الممانعة التي رفعها بنكيران لصدّ النزعة المخزنية، إلى السماح بسيطرة التكنوقراطيين على كل الوزارات الاستراتيجية أكثر ممّا كان عليه الأمر سنة 2011.وبالنظر إلى تربّع “البام” على المعارضة داخل البرلمان، يكون “المخزن” قد نجح في احتواء جلّ مدخلات ومخرجات العملية السياسية، مستقويا على كل المؤسسات التي قد تزاحمه، ومعزّزا مركزيّته من جديد بعد مطبّ حراك 20 فبراير.
وإذا كان المخزن المسؤول الأوّل عمّا آل إليه مسلسل “البناء الديمقراطي“ اليوم، فإن طبقة السياسيين تتحمّل مسؤولية التواطؤ معه، وكذا مسؤولية إصرارها على التباهي بهذا التواطؤ في غياب تام لأدنى بوادر المراجعة أو النقد الذاتي، خصوصا لدى أحزاب كالاتحاد الاشتراكي أو العدالة والتنمية، ولنا أن نتخيّل ما كانت ستؤول إليه الأمور لو رفض هذا الأخير مثلا المشاركة في الحكومة، واختار المعارضة حفاظا على وعده الانتخابي ونزاهته السياسية، وهي شروط لا محيد عنها في مسلسل البناء المؤسساتي التي يتشدّق الحزب بالدفاع عنه، بل وإن استسهالها المتواصل من شأنه أن يعمّق أزمة الثقة بين المواطن المغربي وأجهزة ومؤسّسات الدولة، وهو الواقع الذي نلمسُه بشكل منتظم حين يناشد جلّ المستضعفين الملك لحل مشاكلهم اليومية وضمان أبسط حقوقهم.ولا شكّ أن تواتر مظاهر البؤس هذه أكبر دليل على نجاح النسق السلطوي في المغرب في قتل السياسة بمفهومها الحديث بالموازاة مع خطاب رسميّ يدّعي بعثَها، ممّا يسائل كل دعاة الإصلاح من داخل المؤسّسات عن آفاق هذا الإصلاح وعن طرق بديلة للقيام به في المستقبل لمواجهة نسق مخزني متجذّر يعتمد على الريع ويغلق كل منافذ التجديد السياسي ولا يفتح أبوابها إلا لابتلاع كلّ بادرة نحو تغيير حقيقي.
جدل التنمية والديمقراطية بالمغرب
إذا كان خطاب السلطة في المغرب مبنيّا على فرادة نموذجها في تدبير المرحلة التاريخية، وذلك بحرصها على مقومات الأمن والاستقرار باعتبارهما شرطين لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ظل الاضطرابات الإقليمية والخطر المحدق بالقضية الوطنية، وما يصاحب ذلك من تلكُؤٍ أمام دعوات الانفتاح السياسي والإصلاح الديمقراطي، فإن نتائج هذه المقاربة اليوم، وبعد سبعة عشرة سنة من العهد الجديد على الأقل، تؤكّد فشل النموذج التنموي المغربي، أو على الأقل تأخّر ثماره بشكل بالغ التكلفة على الدولة والمجتمع.
ويحتل المغرب اليوم المرتبة الثالثة والعشرين بعد المئة (123) في سلّم التنمية البشرية، ويسجّل بشكل منتظم مستويات جد متدنية في جودة التعليم والصحة. كما أن أداءه الاقتصادي لا يرقى لخطاب الإقلاع الاقتصادي الرسمي، فهو لا زال بعيدا عن ركب الدول الصاعدة، إذ لا تتعدى معدلات نمو اقتصاده 4-5%، يرتبط نصفها أو أكثر بالتساقطات المطرية. وبالإضافة إلى هذا الضعف البنيوي، لا يفلح المغرب في التوزيع الناجع لثمار هذا النمو: فهو من أضعف الدول قدرةً على خلق فرص الشغل بالنظر إلى ثروته البشرية وظرفيته الاقتصادية المواتية، كما أنه يعرف تراجعا في مستويات إدماج النساء والشباب. وقد أحصى البنك الدولي حوالي 2.7 مليون شاب وشابة في حالة عطالة تامة لا يدرسون ولا يشتغلون بأي حال من الأحوال. وأمّا الشّغيلة (التي لا تتعدّى 42% من مجموع الساكنة النشيطة) فإن قرابة نصفها تنشط في القطاع غير المُهَيكل، في حين لا تتعدّى نسبة الشباب الذين يتوفرون على عقد عمل 12%. ولا غرو أن تكون مستويات الخدمات الاجتماعية متواضعة في أحسن الأحوال، في ظل غياب الوعاء الاقتصادي للتغطية الاجتماعية من تقاعدٍ وصحّة، وتردّي مردودية التعليم الذي ما زال يجرّ مشاكل ماديّة وبنيوية منذ عقود.
وفي ظل هذا الوضع الشامل الرديء الذي استمرّ رغم سياسة الأوراش الكبرى والبرامج الحكومية المتعاقبة، يشهد المغربُ تعميقاً متواصلاً للفوارق الطبقيّة والمجاليّة، ويبدو أن إرث المغربين النافع وغير النافع ما زال ثاوياً في اللاوعي الجمعي بالرغم من كلّ سياسات إعداد التراب والجهويّة المتقدمّة. وفي الوقت الذي تستعدّ الدار البيضاء لأن تصبح قطباً ماليّا إفريقيّا، يربطه قطار سريع بقطب طنجة الصناعي، لازال مغاربة آخرون يموتون لتعذّر وصولهم إلى المستشفى كما في مأساة الطفلة إيديا، ويعانون من الاستيلاء على الثروات الطبيعية وفوائد استغلالها كما يقع في إميضر، فيما يشقى آخرون طويلا قبل الوصول إلى المدارس والجامعات (12 جامعة موزعة على 12 جهة) دون أن يكلّل ذلك بولوج سوق الشغل نظرا لعدم “ملاءمة” شواهدهم لحاجات الاقتصاد، أو لعدم قدرة هذا الأخير على استيعابهم جميعا، وذلك دون الحديث عن المنقطعين عن الدراسة، حيث لا يحصل سوى 13% من المتمدرسين على الباكالوريا، و6% فقط على شواهد عليا. وقد تبيّن اليوم أن الاستقرار الذي يؤسّس المغرب عليه استثناءه، استقرار نسبي بالنظر إلى تقهقر محيطه الإقليمي في العالم العربي وإفريقيا على حدّ سواء. كما أنه استقرار بالغ الهشاشة بالنظر إلى تأخر الأوضاع الاجتماعية المعيشة عن مسايرة تطوّر الخطاب الرسمي.
وتعزى هذه الأوضاع إلى نوع من الارتباك في ماهية النظام الاقتصادي بالمغرب، ترسّخ غداة الاستقلال وما فتئ يجدّد أشكاله وآليات اشتغاله بشكل يجعل الاقتصاد الوطني دائما امتداداً لواقع النفوذ السياسي ومجالا حيويا لممارسته. وقد تحدث المهدي بنبركة في “الخيار الثوري” سنة 1965 عن تحالف استراتيجي بين المخزن والأغنياء الكبار وفق نسق “شبه إقطاعي” يربط بين مصالحهما بشكل حميمومنافٍ للمنطق الليبرالي في أصله، كما يقطع عن العمّال والفلاّحين الصغار إمكانيات الارتقاء الاجتماعي. ونبّه بنبركة إلى أن هذا التحالف يقضي في المدى المتوسّط على إمكانية انبثاق برجوازية وطنية مستقلّة ما دام نشاطها مرتبطاً بالسلطة، وهو ما من شأنه أن يقوّي المصالح النيوكولونيالية في البلاد. ورغم التحوّلات السوسيو–اقتصادية التي شهدها المغرب منذ ذلك الحين، والتي ميّزها بالأساس حضور متنامٍ للطبقة المتوسطة والبرجوازية الصغيرة ومغربةٌ نسبية للاقتصاد، إلا أن المسار العام للتوجهات الاستراتيجية مازال يضفي على التشخيص السّابق راهنيّة مثيرة، فخريطة “الإقطاعيين“و“النبلاء” في الوقت الرّاهن يمكن رسمُها بتتبّع خريطة الريع والامتيازات التي توزعّها السلطة على طبقات متنوّعة من المنتفعين في السياسة والاقتصاد والدّين والإعلام، بل وتسخّر فئات من الشعب لخدمة مصالحهم بمقابلٍ لا يسمح بالتحرر الاقتصادي والاجتماعي للجميع. وهكذا كانت المَغرَبَة مثلا توزيعا واسعاً وسخيّا للريع كما يقول المرحوم ادريس بنعلي،وهو ذات الواقع الذي تعرفه رخص الصيد في أعالي البحار ورخص مقالع الرمال وكذا رخص النقل وإن على مستوى اقتصادي أدنى لا يقلّ أهميّة.
بل إن الريع أصبح مع مرور الزمن مميّزا أصيلا للنسق الاقتصادي والثقافي في المغرب. ولم تعمل السلطة على مراجعة أساليبها للنهوض بفعالية المؤسّسات العمومية والحدّ من هذه الظاهرة، بل إنّها استكانت نوعا ما إلى استدماج ثقافة الريع في الوعي الجمعي، وسمحت ببروز كل الأشكال الطفيليّة للريع الاقتصادي والسياسي، والأرجح أن السلطة أدركت فضل ذلك على السلم الاجتماعي بشكل فوري من جهة، وفضل ذلك من جهة أخرى على تعميق نفوذها الرمزي وربط أرزاق رعاياها برحمتها وتغاضيها عن تطبيق القانون. والحال أن ظواهر كالتهريب والتزوير وتبييض الأموال في كونٍ اقتصادِيّ موازٍ لا يشمله الضبط سيف ذو حدّين بالنسبة للدولة، فبقدر ما يدلّ على تسامح السلطة وعدم قطعها لأرزاق الناس بمنطق الاسترزاق الشائع، يؤشّر استفحالها على عجز الدولة عن توفير البدائل ويربط استمرارها بتخلّيها عن ممارسة دورها الطبيعي المتمثل في سن ومراقبة تنفيذ القوانين. وهكذا، يؤدّي حرص الدولة على مصالح الريع المخزني إلى ضرورة الحفاظ على جلّ أشكال الريع الطفيلية الأخرى لدرء غضب الشارع في ظل هزالة الفرص التي يوفّرها الاقتصاد المهيكل، ممّا يعني شَرعنة متنامية للفساد والفوضى وانتفاءً تدريجيا للدولة، في شقّها التنظيمي المؤسّساتي على وجه الخصوص.
إن لاقتصاد الريع المغربي انعكاسات اجتماعية وثقافية عديدة، تنظُمها سيكولوجية خاصة. فعلى المستوى العمليّ، تعني “سيكولوجية الريع” هذه أن فرص نجاح الفرد واحتمال ارتقاءه الاجتماعي تزداد كلّما كان قريبا من السّلطة على اختلاف أشكالها. وإذا كان هذا الوعي الطبقي يمليه توزيع السلطة والثروة في المجتمع، فإن سيكولوجية الريع تتعدّاه إلى تطبيع ثقافي ونفسي واسع مع الفساد كرديف للريع بخرائطه المتشابكة،وإلى تعميم للاستبداد كرديف لأي شكل من أشكال النفوذ، واستغلالها لتحصيل الامتيازاتبما في ذلك الولوج إلى الخدمات الأساسية في المدرسة والمستشفى والإدارة العمومية، حتى صار المجتمع المغربي يشهد حرب الكلّ ضد الكلّ، وهي حرب تستفيد منها الدولة المخزنية ما دامت تحرُصُ على ارتباط حلباتها بسعي المواطن المغربي لقضاء حوائجه اليومية، وابتعادها عن كلّ صراع سياسي مع الدولة. ولا يسمح الجو النفسي لهذه الفوضى باستثمار مفاهيم المواطنة ومنطق الحق والواجب، لكنه يولّد في المقابل بانوراما من أحاسيس الظلم والتهميش عندما يتعذر على المغربيّ الاستفادة من بعض أشكال هذا الريع، ويتطور الأمر إلى شعور ب“الحـﯖرة“ حين تستعلي عليه مؤسّسات الدولة وترفض الإدارة خدمته (الضمان الاجتماعي والقضاء مثلا)، وحين تطبّق الدولة القانون في حقّه (مزارعي القنب الهندي مثلا)، وحين تمرّر الحكومة إصلاحات قاسية على حسابه (التقاعد وصندوق المقاصة مثلا)، وحين ينهب ماله أو تنزَعُ ملكيته (قضية الأراضي السلالية مثلا)، وكذا حينما تقمعه سلطات الأمن إذا أراد الاحتجاج تعبيراً عن غضبه (قضية الأساتذة المتدربين وحراك الريف مثلا).
وهكذا، يتضح أن التواضع التنموي للمغرب يتعلق في جزء هامّ منه بالبنية المخزنية للدولة والاقتصاد، فإذا كان النظام السياسي مبنيّا على مركزية القصر والمخزن، فإن النظام الاقتصادي لا يعدو أن يكونامتداداً لبنية النفوذ هذه. وعلى الرغم من الانفتاح الذي يعرفه الاقتصاد المغربي وتميّزه بمناخ أعمال مواتٍ لجذب الاستثمارات الوطنية والخارجية، تبقى مستويات التنمية ضعيفة بالنظر إلى قدرات وتطلعات بلد كالمغرب. ويرجع ذلك إلى ضعف بنيوي في الاستثماروالحكامة والتدبير والتكوين، ينتج عن إرث طويل من الفساد، وعن غياب لإرادة التغيير سواء تعلق الأمر بالبنى المخزنية أو بالانجراف إلى اقتصاد ريع يعرقل آليات النمو الاقتصادي الحقيقي. ومن هنا، تدحض نتائج المشروع السلطوي في المغرب تعلّلهبالسّلطوية وضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار لتحقيق التنمية، بل ويكاد يكون هذا المشروع السلطوي مناقضا لأهداف التنمية والرخاء على نطاق واسعٍ ومهدّدا للاستقرار على المدى المتوسط أو البعيد؛ وهو عكس ما سارت إليه بلدان مثل الصين وسنغافورة، حيث عملت على تعزيز حكامة وشفافية مؤسّساتها وعلى تعبئة كل القدرات الشعبية في الاقتصاد الوطني وتمكينها معرفيّامقابِلَ تشديدها على مركزية نظامها السياسي القاصر ديمقراطيّا. وفي هذا السياق، يصبح الانتقال الديمقراطي في المغرب ورشا تنمويا بامتياز، لا سياسيّا فقط، يصعب من دونه النهوض بحكامة وشفافية المؤسّسات الاقتصادية والسيّاسية، والقطع مع نظام الامتيازات الذي يعمّق الفوارق الطبقية والمجالية.
الحركات الاجتماعية ومأزق السّلطوية في المغرب
لعلّ الشعور ب”الحـﯖرة” والتهميش لدى فئات واسعة من الشعب عنصر حقيقي للأزمة في السياق المغربي، لأنه يعني أن الاستقرار الذي يٌتشَدّق به مبني على تنازل الساكنة عن حقوقها وصبرها على الظلم والفقر. وفي ظل استشراء الفساد والاستبداد، والانتفاء التدريجي لدولة الحق كلازم لاستمرارهما، تتخندق الدولة المخزنية في أجهزتها الأمنيةوأدواتها البوليسية وعنفها الإيديولوجي محاوِلة ترسيخ ثقافة التنازل والخضوع.
وقد عملت الدولة المغربية، على مر ستة عقود منذ الاستقلال، على نهج سياسات قمعية في وجه دينامية المجتمع وحركيّته المدنية. وفي الوقت الذي كان نزول المغاربة إلى الشارع سلميّا في مجمله ومحكوماً بمطالب اجتماعية واقتصادية أساساً، كانت ردّة فعل الدولة دائما قمعيّة عنيفة. فمن أحداث الريف عامي 1958-1959، إلى أحداث الريف عام 1984، مرورا بأحداث الدار البيضاء عامي 1965 و1981، وما يتخلّلها من عمل دؤوب لوزارة الداخلية على تركيع الحشود المحتجة ومعاقبتها وقتل احتجاجاتها في المهد لسنوات طوال، نجحت الدولة المغربية في كبح الدينامية الاجتماعية. ولم تقتصر الدولة في ذلك على أذرعها الأمنية، فاستثمرت الخطاب الوطني الفضفاض والخطاب الديني للقضاء على أي نزعة عصيانية لدى رعاياها. وقد وظّفت الدولة كلّ القنوات الإعلامية والمضامين التعليمية لتمرير إيديولوجية الخضوع للجماعة والولاء للحاكم وموقعه أميراً للمؤمنين، مبرّرة ذلك بالحسّ الوطني وقضايا الوحدة الترابية تارة وبالوازع الديني الأخلاقي تارة أخرى. والحال أن أخلاق الطاعة هذه تتعدّى في الواقع الحاكم بمنطق الشخص إلى كل أجهزة المخزن، وبنية الدولة المتوارثة على مرّ القرون.
ولم تُحدِث توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة المرفوعة للملك سنة 2004 تغييرا حقيقيا في تعاطي السلطات مع الحركات الاجتماعية، وبقيت النقلة النوعية التي حملتها إرادة جبر الضرر وإرساء ضمانات عدم تكرار أخطاء الماضي حبراً على ورق، بالنظر إلى ما تقوم به السلطة اليوم حين ترد إمّا بتعنيف المحتجين كما حدث مع الأساتذة المتدربين والعاطلين أثناء احتجاجهم على تبخيس الحكومة لملفهم، أو كما حدث مع مظاهرات حراك الريف التي انطلقت إثر الوفاة المأساوية لمحسن فكري، وإمّا بتسخير بلطجية كما حدث مع بعض الوقفات التضامنية مع حراك الريف. وإذا كانت الدولة المغربية قد نجحت في الخروج سالمة من كل الحركات الاحتجاجية في الماضي، التي كان من أحدث محطاتها لحظة 20 فبراير التي مزجت بين الاستجابة المؤسّساتية والإنزالات الأمنية، فإن هذا النجاح لا يعطي للدولة أي ضمانة على عدم التكرار، وعلى استدامة الاستقرار كما تفهمه السلطة، خصوصا في ظل جمود الأوضاع الاقتصادية وموت السياسة كما سبق الإشارة لذلك.
ولعلّ التطوّر الذي عرفه حراك الريف خير دليل على فشل الدولة في معالجة الظاهرة الاحتجاجية وتوفير شروط الاستقرار الحقيقي للشعب المغربي. ويظهر هذا التطور جلّ عيوب النسقين السياسي والاقتصادي كما سبق التعرّض لهما. فقد انطلقت شرارة الغضب الشعبي في الريف بموت بائع السمك محسن فكري مطحونا في شاحنة أزبال أثناء احتجاجه على مصادرة أسماكه من طرف السلطات بداعي الرّاحة البيولوجية. وقد كشفت هذه الحادثة الأليمة عن بعض مظاهر الاستهتار بالقانون في قطاع الصيد البحري. ولم يكن للتحقيق الذي باشرته النيابة العامة استجابة لسخط ساكنة الحسيمة الوقع السياسي والوطني الذي كان يُطمح إليه، إذ سعت الدّولة كعادتها إلى اعتبار الحادثة معزولة. لكن الاحتجاجات بلورت إحساس “الحـﯖرة“ الذي جسده محسن فكري وطوّرته إلى ملف مطلبي كامل يشمل كل عناصر التنمية الاجتماعية والاقتصادية في بعدها المحلّي والجهوي، وكشفت عن واقع التهميش الذي طال منطقة الريف لعقود طويلة منذ اعتبارها منطقة عسكرية سنة 1959. وقد تزامن هذا التطوّر مع البلوكاج في تشكيل الحكومة، ممّا عمق الإحساس بنهج الدولة لسياسة التجاهل إزاء انتفاضة المغاربة في الريف ومراهنتها على إعياء الاحتجاج دون الحاجة إلى الجلوس إلى طاولة الحوار للتسوية.
ولمّا بدا أن دينامية الاحتجاج قد تمكّنت من الجموع في الريف واشتد عودها النضالي بما يقتضيه ذلك من تنظيم وتأطير وقيادة، لجأت الدولة إلى ترسانتها المعهودة لاستهداف الحراك بهدف استنزافه واستفزاز المحتجين. وبالإضافة إلى الأداة الأمنية القمعية، تم تسخيرالمنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي لمهاجمة نشطاء الحراك وانتهاك مواطنتهم واتهامهم بإشعال نار الفتنة، ولم تتأخر هذه المنابر في اتهام الريفيين بالنزعة الانفصالية مستغلة تاريخ المنطقة الحسّاس بالنسبة للدّولة. والأرجح أن الهدف من وراء ذلك كان تفجير الحراك من الدّاخل واستفزاز مشاعر المحتجين وجرّهم نحو العنف والانفلات لتعليل التدخل الأمني. ولم يكفِ الدّرس الجميل الذي قدّمه المحتجون في التحضّر والسّلمية والصمود لزعزعة عقيدة السلطة والمسؤولين الذين لزموا الصمت طوال عدة أشهر حرصا منهم على “هيبة” الدولة، بل وتطوّر الأمر إلى حملة واسعة من الاعتقالات والاقتحامات ومنع التجمّعات في الأسبوعين الأخيرين، لا مسوّغ حقيقي لها سوى إصرار الدولة على مقاربتها الأمنية الصرفة التي من شأنها أن تؤدّي إلى زيادة الاحتقان وتأجيج الاحتجاج، وهو ما نشهده اليوم مع الإضراب العام بالحسيمة والوقفات اليومية بإمزورن وكذا الخرجات التضامنية في باقي مناطق المملكة، التي لم تسلم بدورها من تدخل السلطات لتفريقها بالقوّة.
وقد شكّلت تهمة الانفصالية الذريعة المثلى للسلطة لتجاهل مطالب اقتصادية واجتماعية مشروعة، باعتراف السلطة نفسها، ومضت في حملاتها السياسية والإعلامية ضد نشطاء الريف. وانساقت الحكومة والأحزاب إلى هذا النهج الذي توّج ببلاغ أحزاب الأغلبية الذي اتّهم زعماء الحراك بتلقي أموال من الخارج والسعي إلى المسّ بالوحدة الترابية، وهي “طابوهات” يستحيل معها أي نقاش في الحالة المغربية. لكن المخزي في الأمر، في بلد يدّعي الانتقال الديمقراطي، أن هذه الأحزاب لم تدع إلى نقاش حول المطالب الاجتماعية ولم تحاور قادة الحراك حتى تقف على تذرّعهم بها رغبة في خدمة أجندات انفصالية، وهرولت إلى التخوين والتجريح دون أن تسمع لفروعها الإقليمية التي لها اتصال بالسّاكنة، وقد منع بنكيران في هذا الباب نشر البيان الذي وقعه الفرع الإقليمي لحزب “العدالة والتنمية” بالحسيمة، والذي تضمن تنديداً بالمقاربة الأمنية وحملة الاعتقالات الواسعة، وذلك رغم تراجع أحزاب الأغلبية عن موقفها العدائي نحو الحراك.
وانساق الإعلام الوطني إلى نفس الخطأ المنهجي في تعامله مع “حراك الريف“. وبعد مدّة طويلة من التعتيم، جاءت بعض التغطيات المتناثرةالتي حاولت التخفيف من حدّة الغضب الشعبي، والتركيز على تشتّت الرؤية فيما بين مكونّات الحراك. وقد كان مفترضا في إعلام بلد يدّعي الانتقال الديمقراطي، الدفع إلى تغطية خاصة لمجريات الاحتجاج، والسبق إلى توفير منبر لكلّ الأصوات، بما يقتضيه تنوير الرأي العام في المجتمع الحديث. لكن الإعلام الوطني أثبت مرة أخرى أنه أداة في يد السلطة تسخرّها كما وأنّى شاءت، وقد تأكّد ذلك بالملموس بعد فبركة صور لأحداث شغب مزعومة في حراك الحسيمة على قناتي “الأولى” و“ميدي1″، وتملّصِ وزير الاتصّال من مسؤوليته مموّها باستقلالية الإعلام في تصريح مستفز يحتقر ذكاء المغاربة. وهو نفس الأسلوب الذي نهجه وزير حقوق الإنسان بادّعاءه عدم التوفر على المعطيات في موضوع حملة الاعتقالات الواسعة بالحسيمة. ولم تتوقّف رداءة التعاطي الإعلامي عند هذا الحدّ، فقد بثّت إذاعة “ميد راديو” برنامجا هدّد فيه “مامونالدريبي” قائد الحراك “ناصر الزفزافي” بالأذى الجسدي وساق في وجهه جملة مشينة من عبارات السبّ والقذف نازعا عنه “ريفيّته” في مشهد بلغ العنف فيه مبلغا سورياليا لم تتعفف الإذاعة عن إعادة بثه على “يوتوب“، في غياب تام لأيّ إدانة رسمية من “الهاكـا” أو من الوزارة الوصية.
وزاد من صبّ الزيت على النار عنصر هامّ ومركزي في ترسانة السّلطة بالمغرب تستمدّ منه شرعيتها التاريخية، ألا وهو الدين. فبالإضافة إلى تعالي أصوات الشيوخ الموالين لها من أمثال “الفيزازي“ للدفاع الدوغمائي عن الوضع القائم، عمدت السلطة إلى استغلال خطبة الجمعة لشيطنة المحتجين بدعوى إذكائهم لنار الفتنة وخروجهم عن طاعة السلطان، وهو ما كان سبباً في اعتقال “ناصر الزفزافي” بعد مقاطعته للإمام، ممّا يسائل بقوّة مشروعية هذا الاعتقال والتهمة التي سوّغَت له. وقد اعتادت السلطة في المغرب على اعتبار الدين مجالا محفوظا لها كنتيجة طبيعيةلمؤسسة إمارة المؤمنين. والحال أن الدين الرسمي، كما يتم تدريسه في المدارس وتكريسه في الخطب والمناسبات الرسمية، دين يركز على وحدة الأمة وطاعة سلاطينها باعتبارها ثوابت سياسية وهوياتية، ويكاد يغيّب إقامة العدل بين الناس وإتيان الحقوق بما ينسجم ودولة الحق والقانون، وهو ما تثبته الحركات الاجتماعية خصوصا حين نجد في بعض خطاباتها من يستنبط شرعيّتها من الدين نفسه.ويبقى تسخير الخطاب الديني لأغراض سياسية ودعائية مهما كانت عملا لا أخلاقيّا – خصوصا حين يتعلّق الأمر بشيطنة الطرف الآخر وإخراجه عن الجماعة/الأمة –، في الوقت الذي يمكن أن يؤدي انزلاق الدولة المتكرّر إلى أدلجة الدّين ومحاولة تجييش الناس من منطلق عقيدتهم، بشكل ينطوي على قدر غير قليل من التدليس والابتزاز،إلى تهديد شرعيّتهاومصداقيتها،في كلّ مرّة تثبت فيها الوقائع أن إيديولوجية الدولة تبرّر الظلم والاستبداد، وتمنع إقامة العدل ومحاربة الفساد.
يتضح، إذن، أن تعنّت السلطة بالمغرب واستعلاءها على المحتجين أدّى إلى تصعيد في منطقة الريف غير مسبوق منذ حراك 20 فبراير. وقد أدّى تناوب لغتي التجاهل والقوّة إلى تعميق إحساس الساكنة بالتهميش و“الحـﯖرة“ وخروج حركات احتجاجية جديدة في خريبكة وعين تاوجطات وأزيلال، وهي قائمة مرّشحة لأن تطول. وراكمت الدّولة في استعراضها السّلطوي الخطأ تلو الآخر، فقد أبانت عن تحكّمها في جلّ قنوات تصريف الدينامية المجتمعية من وسائل إعلام وأحزاب ومؤسّسات عمومية، وساهمت في الإضعاف المسبق لدور المنتخبين ومؤسّسات الوساطة، وهكذا كان مجيء الوفد الحكومي – من طرف حكومة فاقدة لشرعيتها الشعبية منذ البداية – فاقدا للمصداقية بعد بلاغ التخوين. والحال أن أزمة الثقة بين المواطن والسلطة بلغت أوجها في الوقت الرّاهن، ممّا يفسّر نفور ساكنة الريف من مؤسّسات الوساطة الرسمية ومخاطبتهم رئيس الدولة بشكل مباشر، وهو ما يعقّد حيثيّات تسوية الأوضاع في غياب تدخل ملكي، وما لم تحصل خطوة من قبيل إخلاء سبيل المعتقلين والكف عن تخوين وشيطنة النشطاء، خصوصا إذا ما اشتعلت شرارات حركات اجتماعية أخرى في القادم من الأيام.
حراك الريف وآفاق الإصلاح والمصالحة التاريخية بالمغرب
لقد كشف “حراك الريف” عن جملة من التصدّعات والاختلالات التي لم ينقطع النسق السياسي المغربي عن مراكمتها دون أن ينتبه إلى ضرورة القيام بنقد ذاتي عميق وشامل يجنّبه الانزلاق إلى مزيد من العنف واللاعقلانية. وقد شكّل تزامن هذا الحراك الشعبي مع المسلسل البئيس لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات البرهان الأبلغ على موت السياسة في مغرب ما بعد 2011، كما كان الحال قبلها حين فاجأ حراك 20 فبراير الطبقة السياسية والمخزن معاً. ونكاد لا نبالغ إذا قلنا إن المجال المؤسّساتي يسير بإيقاع غير إيقاع المجال المجتمعي، بل ويكاد يكون معزولا عن نبض الشارع، ممّا يفسّر عدم قدرة الدولة على استباق الأزمات وسوء تقديرها لتفاصيلها. ولا غرو أن يعرف المغرب هذه الأزمات والاحتجاجات الشعبية كنتيجة تاريخية منطقية لاحتكار القرار من طرف المخزن وتغليب مصالحه الاقتصادية ومعاملة الشعب بمنطق الرعية التي يجب ترويضها. وها هو المخزن يجني ثمار سلطويته التي حالت دون نجاح أوراش التنمية، ويرى بوادر التدويل الإعلامي والسياسي لحراك الريف بسبب كبريائه.
وعلى الرغم من مركزية بعض المحطات التاريخية في الخطاب الرسمي، انطلاقا من هيئة الإنصاف والمصالحة كلحظة مؤسّسة لثقافة المواطنة وحقوق الإنسان في العهد الجديد، إلى دستور 2011 كمنعطف للانتقال الديمقراطي، مروراً بإقرار الجهوية الموسّعة كآلية لتحقيق المساواة المجالية والتنمية الشاملة، وبغض النظر عن دقة هذه المضامين كما يُسَوَّق لها، تثبت السلطة في المغرب في كل اختبار لها عدم التزامها بلغة الحداثة هذه وعدم مراعاتها لما تقتضيه من تحوّل في ممارسة نفوذها. ويكاد المتأمّل لهذا الانفصام بين الخطاب والممارسة يجزم أن هذا الخطاب دعائيّ بالأساس، مرتبط بلحظات اضطرّت فيها الدولة إلى إبداء وجيز لشيء من المرونة وحسن النيّة للدّاخل والخارج حتى تستطيع البنى المخزنية الاستمرار في ضبط سيناريوهات الحياة السياسية والاقتصادية.
والحال أن جمود هذه البنية التي تعود إلى ما قبل الاستقلال يتحدّى منطق التاريخ، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار فشلها في تمتيع الشعب المغربي بشروط عيش كريم واستقرار مستدامة. وبينما تؤشّر حركة اجتماعية من قبيل “حراك الريف” على استمرار شروط الانتفاض الشعبي، يؤشّر استفراد السلطة بالقدرة على المبادرة وسدّها لباقي منافذها (من حكومة وبرلمان وجمعيات وهيئات منتخبة) على دخولها مرحلة دقيقة من تاريخها تتسّم بترادف الاحتجاج الشعبي على الأوضاع الاجتماعية ونقد البنية المخزنية، باعتبارها عائقا أمام محاولات التنمية، كما يؤشر على ذلك فشل لحظة 20 فبراير في تحقيق تراكم فيما يخصّ الإصلاح من الدّاخل. وكما أوردنا في باب جدل التنمية والديمقراطية، فإن كل حراك أو احتجاج اليوم أو غداً يسائل الإرادات العليا ويسعى للحصول على وعود أو ضمانات عليا ومباشرة من رئيس الدولة، في ظل افتقاد باقي المؤسسات للمصداقية، وهو ما يعني أن هامش الخطأ الذي لطالما نعمت به الدولة المغربية ماضٍ في التقلّص مع مرور الزمن، وكلّ وعد جديد مُخلَف ستكون تكلفته السياسية والاجتماعية أكبر من السابق.
وإذا كان الإصلاح السياسي والاقتصادي ضرورة حتمية لبقاء الدّولة واستمرارها حسب ما سبق، فإن الأحجية المغربية تكمن في مدى إمكانية القيام بإصلاح حقيقي دون المساس بجوهر الدولة المخزنية التي لا يقبل فيها المخزن السياسي والاقتصادي أن يتقاسم سلطه وامتيازاته مع الشعب. والحال أن إرساء حكامة جيدة وتعميم فرص التحرّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يقتضي بالضرورة مراجعة المساحات التي تُعطى لفعل السلطة المخزني وانحسارها التدريجي في أفق التأسيس لدولة مدنية حديثة كاملة الأوصاف تستمدّ شرعيتها من الشعب وتكون الملكية فيها ضامنة لحمولتها القيمية وزخمها التاريخي. ولا غرو أن يخلّ هذا التوجه في الحالة المغربية بموازين القوى التقليدية، وأن يتطلّب تظافر إرادات الدولة والنخب والشعب، لأنه يعني تخلّي السلطة عن حلفاءها التقليديين من الأعيان والأغنياء الكباروباقي المنتفعين، واستثمار قاعدتها الشعبية الأوسع بما يصاحبه من قطع مع نظام الامتيازات وتشارك في صنع القرار.
من جهة أخرى، تثير الخصوصية التاريخية لمنطقة الريف وما ارتبط بها من إرث الإهمال والمعاقبة المجالية وإرث مقاومة الاستعمار قبل ذلك، أمرا محوريّا في ورش الإصلاح وبناء مغرب الغد. وقد كان انسياق الدّولة لخطابات التخوين والتخويف من سيناريوهات الفتنة والانفصال مخيّبا للآمال، فقد أرجع عقارب السّاعة إلى الوراء كاشفا عن تشنّج الدّولة في تعاطيها مع تاريخها وعدم تصالحها مع خصوصية الريف وإرثه النضالي الذي لم يحظ بالاعتراف الرسمي الكافي ولم يدخُل بعدُ في مجال المشترك الوطني في فهم الدّولة، وإلا فكيف نفسّر مطالبة المحتجين برفع العلم الوطني كنوع من الضمانة على وطنيتهم، واعتبار أعلام جمهورية الريف وعبد الكريم الخطابي ذات حمولة انفصالية؟ ولماذا لا تزال الدولة تصر على التنكّر لتاريخ مقاومة الريف وترفض إعادة الاعتبار له، بعد أزيد من نصف قرن على أحداث الريف الدامية؟ سؤالان ملحّان ونحن نرى ساكنة الريف تعبّر عن وعي تاريخي عميق ومُصالِح يفتخر بإرث المنطقة التاريخي ذي الإشعاع العالمي، وتؤكّد في الوقت ذاته على انتمائها الوطني ووعيها بأن الريف، رغم خصوصيته، لا يشكّل استثناء في خريطة التخلّف والتهميش بالبلاد. والحال أن المغرب، وبالرغم من تشدّقه بعراقته التاريخية، لا زال يرفض مواجهة تاريخه القريب والبعيد، ويتعامل بانتقائية كبيرة وإيديولوجية تراهن على النسيان أكثر ممّا تراهن على المصالحة وتتلكّـأُ في توسيع دائرة المشترك بإعادة الاعتبار للتاريخ المحلي لكل منطقة وإسقاط الوصاية مهما كانت مبرّراتها الدينية أو الإيديولوجية.
وفي النهاية، يمكن القول إن واقع السياسة والاقتصاد بالمغرب لا يبشّر بالخير، وينبئ بتواتر الاحتجاج الشعبي بشكل قد يستدعي تقييما حقيقيا للعقد الاجتماعي وتجديدا له إذا اقتضت الضرورة. والأجدر بالدولة اليوم أن تعجّل بإيجاد سبل للتدبير الفعّال للحركات الاجتماعية القائمة، تبدأ بالتخلي عن المقاربة الأمنية البائدة وبفتح كل أبواب الحوار مع المجتمع. وإذا كانت السّلطة غير مستعدة لتقديم اعتذارها عن أخطائها التاريخية والمرحلية، فإن عليها على الأقل الكفّ عن التفكير بهيبتها وكبريائها، والانكباب على إيجاد تسويات لكل الحركات الاجتماعية. كما ينبغي عليها التراجع عن سيرورة السلطوية المستمرة منذ عقود والتي تجدّدت مع تشكيل الحكومة، والسماح بالدفع بعجلة الإصلاح والانفتاح إلى الأمام لتحصين مستقبل البلاد من الأزمات وإعادة الاعتبار للإنسان أوّلا والمواطن ثانيا، وذلك بتمكين المغاربة جميعا من فرص التحرر والارتقاء والظفر بثقتهمالتي لا يمكن بدونها بناء دولة حديثة قويّة مستقرّة.