يتميز العصر الحالي بظاهرة اندثار القضايا الكبرى عند الانسان و غياب ممنهج لكل الاحلام الثورية التي ميزت الحقبة السابقة. هذا الفراغ أنتج مجموعة من التحولات الجذرية لدى الفرد و المجتمع كجموح الفردانية و التقوقع حو الذات و السعي نحو المصالح الفردية أولا و أخيرا، و الانسحاب التدريجي من الفضاء العمومي بشكل عام، و حلول البحث عن المتعة عوض النضال السياسي و السعي نحو الثروة بدل حلم الثورة.

أصبح إنسان ما بعد الحداثة فارغا من أي قضية كبرى يعيش في سبيلها و تمنحه معنى للوجود، حيث أصبح لقمة سائغة لدى الآلة الرأسمالية الهائلة التي استغلت الهشاشة الفكرية و النفسية العامة و قامت بتطويع و تبضيع الفرد و تدجينه و تحويله لذات استهلاكية عبر استثمار جميع وسائل التسويق الممكنة و الغير الممكنة في سبيل إثارة رغباته و تحفيز شهواته و تفجير لاوعيه. لقد منحت الرأسمالية الفرد وعدا بالفردوس الأرضي من خلال نعيم الاستهلاك المتواصل و المتجدد، و أصبح الفعل الاستهلاكي هو العبادة الوحيدة التي شرعتها آلهة الدين الرأسمالي الجديد دونا عن كل الطقوس الأخرى.

لكن السؤال الجوهري يبقى كالتالي ، هل حققت ووفت الرأسمالية بوعودها المرتبطة بالسعادة الدنيوية للفرد المستهلك ؟ هل جعلت منه فردا أفضل؟ هل خلصته من آلامه و معاناته؟ و هل بالفعل غايتها الحقيقية هو تحقيق ذلك كله؟

انطلاقا من جل الدراسات الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية المعاصرة، توفرت لدينا بعض عناصر الإجابة، حيث عرفت المجتمعات الاستهلاكية تطورا هائلا على مستوى الإنتاج و بلغ الاستهلاك مستويات أسطورية في التاريخ البشري، و النتيجة أنه لم يكن الفرد أكثر تعاسة مما هو عليه اليوم و لم يشهد التاريخ أمراض نفسية و عصبية كالتي يشهدها اليوم.

يقينا ليس معدل النمو الاقتصادي و لا غيره من المؤشرات الاقتصادية الرسمية تعكس تطور و هناء الفرد من قريب أو بعيد، إذ أصبحت تشكل كل هذه المؤشرات نوعا من الصنمية الجديدة حلت مكان الاساطير التقليدية. بالإضافة لذلك استطاعت الضواري الرأسمالية تزويد الإنسان بمزيد من السلع و الخدمات الغير محدودة و نجحت في إشباع رغباته و تجديدها في الوقت نفسه، لكنها لم تفلح عن قصد من سياساتها الممنهجة في تهدئة الجانب النفسي و تنمية جانبه الفكري أي أنها لا ترغب في وجود فرد عقلاني سيصمد أمام أمواج طوفانها الجارف، بل إن الاشباع المادي لديها لم يكن دون مقابل و كانت له ضريبة نفسية و اجتماعية تمثلت في الكم الفظيع من الضغط و الغبن و الخوف و الإحباط الناتج عن التفاوتات و الفوارق المجتمعية و التي أضحت أداة مركزية لتحديد قيمة الفرد داخل تجمع بشري ما، فضلا عن عدم الاستقرار يسببه الغياب الممنهج للأمن الوظيفي و نسف البنيات التضامنية و تشجيع التسابق المحموم نحو الاستهلاك الاستعراضي بغرض التباهي و التفاخر مما يؤدي إلى شروخ اجتماعية سرطانية.

أخيرا يمكن القول أن المتع المادية التي يعيشها الفرد المعاصر قد أفضت إلى وجود مجروح غير ناضج، محركه مزيد من السلع و مزيد من الاستهلاك في مقابل خلل وجودي عميق يكفي الوعي به كي تحقق انتصارا رمزيا آنيا.

إن الفيروس الاستهلاكي يدعونا للتأمل مليا في وضعية الإنسان المعاصر لكل التطور العلمي و التكنولوجي و المالي الحالي، هذا الإنسان الذي لا ينعم بالسلام و لو مجازا، و الذي يعتبر ضحية حدث تاريخي يتمحور حول السيطرة و الاخضاع، لذلك إن هناك أمراض عضوية كثيرة معروفة فإنه هناك قتل رمزي يومي لكل ضحايا الآلة الاستهلاكية الجهنمية لذلك ندعو الجهات التي تسهر على صحة الفرد من خطر الفيروسات أن تجد لقاحا فعالا لهذا الفيروس الوحش و الذي نأمل أنه لا تتجاوز سطوته سلطة الدول إلى سلطات غير مرئية.