كتاب آسفي وعلاقة مدينتهم بالبحر (ج2)
بعد الجزء الأول التي رصدنا فيه النظر السوداوية لمدينة آسفي في كتابات روائييها، ونوعا من جلد الذات بالتلذذ في إبراز عيوب المدينة وتقديمها في صورة كالحة، نحاول في هذا الجزء الثاني إبراز بعض الإشارات المشحونة بدلالات موجبة في الكتابات الروائية التي استطعنا قراءتها.
آراء أخرى
فمن الروايات ما رأت أنه لولا البحر لما كان للمدينة وجود، ولَمَا قصدها التائهون وأهل الله، فقد ” كان البحر بدءاً وكانت آسفي، استوت على الجرف العالي، واستوى الفلك على الجودي، صاعدة من قلب الطوفان، جوهرة ومنارة وحضناً للتائهين والحيارى وعابري المحيط والمؤلفة قلوبهم على الخير والصلاح والواصلين من أهل الله”[i] هكذا كانت أسفي عاشقة البحر ومعشوقته، بينهما عناق أبدي، حتى لتبدوَ المدينة من قمة سيدي بوزيد ” في عناق حميمي خالد مع البحر فكأنها تخرج من بين ذراعيه، أو هو ينسل من بين أحضانها، أو كأنهما في اللحظة الأخيرة للانفصال عن بعضهما، أو هما في اللحظة الأولى للعناق والالتحام والضم”[ii] ، هذا العشق يفرض التضحية من أجل العشيق، والحب عطاء مستمر بدون انقطاع ومن أحب يعيش من أجل الحبيب: “أحب البحر هذه المدينة، وأحبت آسفي هذا البحر، عاشت من أجله، وعاش من أجلها، أغدق عليها خيراته وعطاياه فسكنت إلى جواره بنت بيوتها البدائية على شواطئه”[iii]
لقد جعل البحر من آسفي نهاية العالم، وأبعد ما يمكن أن تصله المراكب والحضارة يوما ما، من وسط البحر تتراءى المدينة نقطةَ ضوءٍ تلوح فيقصدها التائهون في البحار وعلى ساحل بحرها وقفت: “سنابك جياد عقبة بن نافع كآخر نقطة للعالم المتحضر، نهاية العالم المتحضر، فلا فتح ولا عمران بعد آسفي… وآسفي آخر منارة قصدها الفتية المغررون أنقذتهم من التيه والضلال، كانت منتهى رحلتهم وغاية مجراهم، لقد اتجهوا نحو الضياء والشهاب والقبس “أسافو”[iv]
ظل البحر، ولا زال، يغدق خيراته على المدينة وكان سببا في أن بوأها مكانة عالمية في الصناعة الغذائية، وجعلها عاصمة السردين العالمية، فساهمت خيرات البحر في إنشاء “معامل تصبير السمك الممتدة على طول الساحل ابتداء من حي تراب الصيني وانتهاء بالشاطئ الجنوبي للمدينة يفوق عددها خمسين معملا يرتبط نشاطها بالإنتاج البحري”[v]، هذه الخيرات والمعامل خلقت فرصا للشغل، وما ضاقت الحياة بامرأة من أبناء المدينة إلا ووجدتْ ضالتها في تلك المعامل هكذا لمَّا “ترمَّلت رحمة أم إزَّة خرجتْ للعمل في معامل تصبير السردين الملاذ الوحيد لمن ضاقت به سبل العيش وصفعته الأيام القاسية”[vi]. ولم يجد المستثمرون لما فكَّـروا في بناء مشاريع استثمارية سوى الواجهة البحرية لبناء تلك المعامل، فشيدوها “على امتداد الساحل الجنوبي للمدينة: ارتفاع صخري يشغل مساحة هامة من حيز طبيعي يطل مباشرة على البحر بأجرافه العالية”[vii] ليكون البحر مصدر الخير، مطهِّر الأجساد والأرواح ومستقبل النفايات لذلك بُنِيَتْ المعامل على مشارفه ” مما يسهل رمي النفايات والتخلص من بقايا مخلفات السردين”[viii] بالبحر.
وبالإضافة إلى تأثير البحر على اقتصاد المدينة، فقد بينت بعض الروايات أثره على ساكنة المدينة وتطبعهم بطباع كائناته البحرية ، فليظهر بطل إحدى الروايات تعلقه بمحبوبته قال: ” كسكان آسفي أصبحت آكل السردين باستمرار، فحملت كثيرا من خصائصه، السردين وَفِـيٌّ لأرضه، يقطع ألاف الأميال ليعود لمسقط رأسه ليضع فيه نسله، لا يمنعه من الوصل سوى الموت، وأنا وَفِيٌّ مثل السردين، أحِنُّ لأرضي، وأنت يا سكينة أرضي، سأموت ما دمت لم أستطع الوصول إليك”[ix] ، هكذا يكون البحر قد سكن أفئدة أبناء المدينة ليظل منقوشا في ذاكرتهم ووجدانهم حتى وإن غادروا المدينة، فلم تجد “السيدة كركم” إلا أن تمتع شريكها بما كان البحر قد متعها به في صغرها بآسفي فتقول له: “سأجلبُ لكَ جراد البحر الشّائك، وكذا حبّاره وأخطبوطه ومحاره وبلحَه الأحمر، لن أتركَ شيئا كان اللهُ يرزقني إياه على مائدة طفولتي”[x] فظل البحر، ولا زال، يسكنها لا يفارقها طيفه، لدرجة أن أول ما تنسمته في صدر حبيبها عطر البحر الذي ذكرها بمدينتها آسفي تقول: “وتتذكّر جيّدا كيف ظهرتَ لي حينما وضعتُ رأسي على الوسادة في أوّل ليلة أقضيها بها (صقلية) ، كنت لا أعرف أيْنني حقيقة، أمازلتُ هناك في المغرب أم أنني في أرض أخرى غيره؟ كيف لا وقد كان أوّل ما تنسّمتُه عطرَ البحر في صدركَ فتذكّرتُ محيط المدينة التي رأيتُ فيها النّور، واليوم وأنتَ تظهَرُ لي من جديد في السّوق بالقرب من بائع السّمكِ فإنّ أول سفر ستقوم به ذاكرتي سيكون في ملكوت السّمك”[xi] وكلما رأت البحر أو مدينة بحرية إلا لاح طيف آسفي التي ارتبطت بالبحر تقول وهي في صقلية: ” صقليّة تذكّرني بكلّ شيء وبحرها يجذبني إلى بحري وسوقها تجذبني إلى أسواق وطني”[xii]
لقد شكل البحر على الدوام مصدر متعة وإمتاع، فيقصده أبناء المدينة للراحة والاستجمام، وتفريغ ما يختلج صدورهم، وكلما اغتم أحدهم، أو ضاق ذرعا بالحياة أمَّ البحرَ يشكوه همومه لأن البحر يحيط بالآلام ويرسم ويتقبَّل الآمال الممنوعة “مدينة آسفي كنت أستمتع قرب بحرها المحيط الذي كان يحيط بآلامي ويتقبل آمالي الممنوعة”[xiii]. وكان سارد رواية “النادل والصحف” لا تحلو له جلسات المساء إلا في شرفة شقته يستمتع بجمال زرقة البحر يقول: (كثيرا ما كان يحلو لي الجلوس بهذا الفضاء أحتسي ما أعده من قهوة المساء، منتشيا بزرقة البحر على مرمى البصر من على الطبقة الثالثة من العمارة، وهي عمارة، تعتبر من نتاج الحرب العالمية الثانية مثلي، ما زالتْ إلى الآن على اسم مشيديها من الأوروبيين تحمل اسم العمارة الأوروبية)[xiv]. وكذلك كان الطيبي الجزولي الطفل الكسيح في “سيرة صمت” يحب الجلوس في الكورنيش ومراقبة البحر (كنت أحب أن أجلس في الكورنيش أراقب البحر الهائج والصيادين الذين يرمون بقصباتهم المصنّرة خيوطها نحو الماء طلبا للأسماك.”[xv]
وأحيانا كثيرة، كان البحر يجود بفواكهه دون تعب، فيلتقطها الأطفال من على رمال الشاطئ، تصف بطلة رواية السيد كركم كيف كان الأطفال يتناولون فواكه البحر الشاطئ دون أن يدركوا قيمتها الغذائية فتقول:” وفوق الرمال المبلّلة كنّا نجلس معاً ونفرش إزارَنا الأبيض ونبدأ في أكل خيرات البحر نيّئةً، بينما والدي يشرحُ لي كيف أفتحها بالكُلاّب أو أكسرها بالمطرقة الصّغيرة، وكنتُ سعيدة بذلك أيّما سعادة وأنا سّأشربُ ماء القنفذ وألتهمُ بيضَه، أو وأنا أتلذّذ بمذاق بلح أو محار البحر النيّئين يِن والمالحين والمفعمين بكلّ العناصر المغذّية للجسد والمولّدة للطّاقة فيه. وما كنتُ أعلمُ أنّني كنتُ ألتهمُ الحياة الحقّة في شكلها الخام وكلّ عناصرها التخليقية إلا حينما كبرتُ وبدأتُ أعيد النّظر في كتاب الوجود، وأستوعب كيف أنّ البحر نفسه كان ولم يزل معلّمي الكبير، وكيف لا يكون كذلك وفي حضَرتِه عثرتُ على بيضة الكون، ومعه وبه شربتُ سرّهَا، ومددتُ كلّ خليّة في جسدي بنُسغها وأنا في رفقة السلطعون النّاسك والسرطان الأحمر والأسود والأزرق، وحيوانات أخرى لا حدّ لها ولا حصر.”[xvi]
هو البحر مصدر تغذية ومفرِّج الكُرَب والهموم، فلما ضاقت الدنيا بفاطمة – بطلة رواية “انتقام يناير” – وقررت الانتحار بعدما كاد يغمى عليها وسط زحام شارع الرباط بالمدينة، لم تجد سوى البحرَ متنفساً وبلسماً يشفي جراحاتها تقول: “تمكنت من سحب هامتي من الازدحام نحو كورنيش المدينة المطل على البحر من على ظهر جرف هار، بدت لي الشمس بعيدة تستعد لتغطس في قاع البحر، وتغتسل من تعب النهار، فكرت في إلقاء نفسي في الجرف السحيق عسى الارتطام يطهر النفس من أردان الزمن الموبوء، ضباب سنوات الدراسة الطويلة تلاشى، وألق الوعود بدده قرار رئيس يدعي تمثيل الشعب : لماذا لا أنتحر أ ريح وأستريح؟؟(…) نفخ نسيم البحر رذاذه على وجهي فكانت انتعاشته بلسماً”[xvii] بل استفادت من إصرار الموج على نطح صخور الكورنيس دون ملل، ومن مقاومة الصخور للموج على مر الزمان، تقول” وضعت صدري النصف مكتنز على الحاجز، وغرقت أتأمل الجرف العنيد يقاوم تتابع هجمات الأمواج، فتتكسر تباعا، لا هي تعبت، ولا هو استسلم، ردَّدتْ قول الشاعر بترنم:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
فَلأكن كهذه الصخور لن أستسلم سأتسربل المشاكل، وإن أصابتني مشاكل أخرى تكسرت المشاكل على المشاكل…”[xviii]
نِعَمُ البحر على المدينة لا تعدُّ ولا تُحصى، فهو مصدر غذاء، ووسيلة راحة، سبيل حذاقة إنسان المدينة وفطنته لقدرته على تعليم الصيَّادين أسرارَ الطبيعة فرأت فيه إحدى البطلات المعلم الكبير “البحر نفسه كان ولم يزل معلّمي الكبير”[xix]. والبَحَّارُ الذي استأنس بالبحر وعرف أسراره “يُكثِر الحديث عن الصدفيات والرخويات والقشريات فيعرف المصايد واحداً واحداً، وأيُّها أوفر سمكاً، وأيُّ ريحٍ أنسب للصيد، وأي طعم يمكن استعماله في أوقات معينة تستهوي الأسماك مما يجعل الصيد وفيرا وعن حركات المد والجزر وارتباطهما بالقمر..”[xx] بل إن البحر يُكسب البحَّار درايةً وخِبرةً فتصبح له ” القدرة على معرفة الأسماك الموجودة في كل جهة من البحر بحاسة الشم فقط، يشم ريح المنطقة ويأمر” ارموا الصنانير هنا يوجد سمك موسى بالأطنان”[xxi] ومنه كانت بطلة رواية “سيدة الكركم” تستلهم معارفها فبقد الرهبة التي كانت تشعر بها كما وقفت بجانب البحر، كانت استفادتها منه تقول لعشيقها: “دعني أحدّثك عن البحر، فمنذ طفولتي البعيدة، كنتُ كلّما وقفتُ أمامه شعرتُ برهبةٍ كبيرة، كان أبي يعلّمني كلّ أسماء أهل البحر من القشريّات والصدفيات راسماً في يديّ خريطة الصّخور كي أعرف أين يسكن سرطان البحر مثلاً، أو الرّبيان الملكيّ، وكنتُ أجد في ذلك متعةً كبيرة وأنا أطّلع على الكهوف والثقوب الصّخرية الكبيرة”[xxii]ـ ومن الكائنات البحرية التي تتأملها على الشاطئ كونت معرفتها بالكون والوجود، تقول: ” حينما كنتُ أمسكُ قنفذ البحر بين يديّ فكان أوّل ما يصلني منه من رسائل عرفانيّة هو خطابه الدّفاعيّ المتمثّل بكثرة أشواكه، ضف إلى ذلك رائحته التي كانت تحتفل بالحياة بكلّ معانيها، ولون بيضه البرتقاليّ كان يقول لي إنّه منّي تبدأ الحياة وبها تنتهي. سرطانُ البحر له أيضا خطابات من هذا القبيل لكنّ شكل قوقعته كان يذكّرني دائماً بشكل القوقعة البشريّة أيْ بجمجمة الإنسان التي تحتضنُ الدّماغ بكلّ عنايةٍ ومحبّة، هذا الدّماغ الّذي يشبه في تشعّباته ولزوجته كثيرا المادّة الحيّة التي توجد في داخل قوقعة السرطان[xxiii]”
وتستمر تلك العلاقة الوجدانية والحب العفيف الطاهر، بين البحر وسكان مدينة آسفي حتى بعد الممات، في علاقة تشبه ما عبر عنه جميل بن معمر لمحبوبته بثينة لما قال فيها:
يهواكِ ما عشتُ الفؤاد وإن أمُتْ يتبعْ صدايَ صداك بين الأقبرِ
لذلك كانوا يختارون لموتاهم مقابر تطل على البحر، حتى يظلوا مستمتعين بجماله بعد موتهم، ورد في روايةٍ لعبد الرحيم لحبيبي: “حفر أهل آسفي قبور موتاهم ومقابرهم على جنبات البحر، شمالا ووسطا وجنوبا، على منخفض حي آشبار المطل على الشاطئ والميناء، كانت هناك مقبرة كبيرة يشرف منها الموتى وهم في العالم الآخر على الرمال الذهبية… وعلى هضبة لالة هنية الحمرية، ومن تحت أقدام الجهة الجنوبية للسور كانت هناك مقبرة ، تحتها آثار مدينة قديمة مطمورة… في كل مكان على جنبات البحر مقابر صغيرة وكبيرة حتى في ضواحي المدينة باديتها المجاورة للبحر هناك مقابر ساحلية بحرية”[xxiv]. فظل البحر عبر التاريخ يُمْتِع المدينة، يستمع إليها ويحكي حكاياتها ” هذا البحر يحكي قصتنا نحن في آسفي”[xxv] .
وللروائية الاسفية لمستها الروائية ونظرتها الخاصة للبحر، هكذا وجدنا الروائية أسماء غريب تضفي مسحة نسائية على علاقة البحر بأسفي فتفتح في كتاباتها الروائية المطبخ المغربي على البحر لتقدم ألذ الأطباق لشريك حياتها تقول بطلة “السيدة كركم” : “بعد المشروب السّاخن دعني أقدّم لك الجزء الثاني من أطباق البحر: سأبدأ بسمك القدّ، وقد طبختُه لك بالبخار في كسكاس من الخيزران ولا شيء معه غير بضع قطرات من زيت الزيتون وبصلة لتمتصّ روائح الخشب والسّمك، بعد هذا سأطهو لك بيديّ هاتين أطباقاً متنوعّة من سمك السردين”[xxvi] و لنر كيف تتفنن في تقديم تلك الأطباق وكيف وسم البحر الطبخ المغربي ليقدم للعالم طريقة تحضير وجبات السمك لما تقول لحبيبها “سنشعل نارا ألسنتها من خلٍّ عَطِر صنعتُه من التّفاح، وآخر من الليّمون الحامض وقشرته، وسأنقع فيهما معاً قطعاً رفيعة من سمك السّلمون والسّيف الفضّي، ثم أُزْهِرُهما بعروش من البقدونس الطريّ المقطّع بشكل دقيق جدّاً، ولن أضع ذرة واحدة من الملح. أمّا عن الأفوكادو والإجّاص، فإني سأصنع لك منهما طبقاً منعشاً ممزوجاً بحفنة، وبضع من حبات ياقوت الرمان ووريقات النّعناع الزكي وبضع قطرات من عصري الليمون..”[xxvii] وأكثر من الأكل كان البحر قادراً على أن يقدم إكسير حياة، وقادرا على تجديد الخلايا الإنسانية، وتطهير الأبدان والنفوس فتدعو حبيبها إلى شراب صنعته بيدها من ماء البحر : “هذه مائدتنا الرّابعة أ يها الفتى الزكّي، سأفتح إزارها في الصّباح الباكر، ونشرب معا قبل كلّ شيء إكسيرا صنعته لك بيديّ من ماء البحر وجلستُ أنتظركَ. سترى كيف أنّه لم يعد مالحاً، نريد أن نجدّد به خلايانا، ونطهّرها من كل العوالق والرواسب. فهو كما تعلم سرّ من أسرار العرفاء الأوائل”[xxviii]
هكذا كانت المدينة هِبَة البحر، وكان البحر مصدر رزقها ووجودها، وحق لأبناء المدينة أن يفخروا بهذه العلاقة بين المدينة والبحر ويكفيهم فخرا وقوف عقبة بنافع على شاطئها يقول سارد باب الشعبة مخاطبا سكان المدينة: (حق لكم أن تفخروا يا أهل آسفي… فوق هذه الشطآن تكسرت أمواج البحر على ركائب الفرسان، هناك رفع عقبة بن نافع يا سادة إلى الباري عز وجل أكف الضراعة وصاح عبر الزمان” اللهم لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضت جهادا في سبيلك”[xxix] وكيف لا يفخرون والبحر يتعاطف مع المدينة في السراء والضراء فثارت ثائرته غضبا، وتجاوزت أمواجه الحواجز لتلامس الأسوار، وبكت السماء مطرا مدرارا ، وقصف الرعد منذرا بالخطر المحدق بالمدينة، ليلة قدوم السفن البرتغالية غازية: “لم يكد ينتصف الليل حتى ارتفعت أمواج البحر فلامست السور المواجه لها كما أخاف الرعد والمطر الغزير السكان…”[xxx]
ما يشبه الخاتمة:
يستنتج إذن من خلال مقاربة تيمة آسفي والبحر في الرواية المعاصرة اختلاف وجهات نظر روائيي آسفي إلى علاقة المدينة بالبحر، ورغم ذلك الاختلاف فالنظرة عموما محكومة بنوستالجيا وحنين جارف للماضي مقابل حنق وغصة في الحلق على ما آلت إليه المدينة. فعلى الرغم من كون بحر آسفي اليوم يلعب وظائف متنوعة، يؤمن وظائف وقوت عدد كبير من أبناء المدينة، ويساهم بنسبة هامة في الاقتصاد المحلي، الجهوي والوطني، فإن الكِتابة الروائية وهي تحن إلى الماضي إنما تحاول خلق طريقة للتأقلم مع الحاضر ورصد مخاوف المستقبل…
وتتضح هذه النوستالجيا أكثر عندما تقارن بعض الروايات بين واقع البحر الآن وحاله في الماضي، فقد روى بطل رواية “باب الشعبة – الذي طالما أثث الصورة السلبية روايته- قائلا: ” كان الصيد وفيرا وكان الميناء رغم صغره يضج بالحيوية والنشاط وكان من عادة الصيادين رفق أصواتهم بالصلاة على رسول الله عند إنزال ما اصطادوه من قواربهم.”[xxxi] ليتبين بالملموس أن المسألة متعلقة بالأحاسيس، وبتطور الحدث الروائي، أكثر من تعلقها بالواقع، فما يصطاده صيادو أسفي اليوم أكيد أضعاف مضاعفة مما كان يصطاد قبيل الغزو البرتغالي، وحركية الميناء وقيمة ما يروج فيه، وتقنيات وآليات الصيد لا يمكن مقارنتها بما كانت عليه آنئذٍ… وليبرر السارد إحساسه اضطر إلى العزف على وتر الدين ” وكان من عادة الصيادين رفق أصواتهم بالصلاة على رسول الله عند إنزال ما اصطادوه من قواربهم”
ولتبين بعض الروايات أهمية النشاط التجاري للميناء ذكرت ذات الرواية أن الميناء كان يربط بين آزمور وجزر الكناري والبرتغال تقول: “نشطت حركة التجارة وازدهرت سوق السفن الرابطة بين ميناء آسفي وأزمور وموانئ جزر الكناري وأصيلا والمملكة البرتغالية[xxxii] ولسنا في حاجة لنبين الجهات التي يتعامل معها ميناء مدينة آسفي كل يوم في الوقت الراهن من جميع القارات…
والحنين والنوستالجيا للماضي ليس عيبا، ولكن لا ينبغي بخس الحاضر حقه، وإصدار أحكام قيمة مطلقة قد يتداولها الخلف، مثلما نتداول رأي الأسد الأفريقي في آسفي وأخلاق أهلها وقد انطلق من تجربة ذاتية ليعممها على المدينة، فالحاضر سيصبح غدا من الماضي، ومن يعيش بيننا صبيا قد يحن هو الآخر لهذا الواقع الذي يحلو لبعض الروائيين تقديمه مأزوما. فمن حق الرواية انتقاد الواقع، لكن الرواية الفضلى هي التي تتجاوز الواقعية الانتقادية إلى الرواية التي يثور فيها البطل الإشكالي على واقعه ويغيره لينشر الأمل… و مدينة آسفي حباها الله بمؤهلات طبيعية كثيرة ولعل من أهم تلك النعم أن ارتبطت في تاريخها ببحر كان وسيستمر مصدر الخيرات، وليس عبثا اختيار العرب البحر رمزا للتعبير عن الكرم والجود.
إن البحر جزء من آسفي ، وآسفي جزء من البحر وخصائص البحر تشكل جزءا من هوية ابن المدينة، بتسللها لكل شيء فيه، فأثَّرت على سحنته وشخصيته وارتسمت على ملابسه وجلده، فهذا ” عطانة السمك امتزجت بملابسه وعلقت بجلده )[xxxiii] وذلك تسللت إلى فراش نومه فأضحى فراشه “تفوح منه رائحة الرطوبة الممتزجة بملح البحر” [xxxiv] ومن المؤسف أن نجد معظم الروايات تربط بحر المدينة بالغزاة، ونهب الثروات وتهريب الرمال، والأشغال الدونية المحتقرة سواء في الميناء، في البحر أو في معامل السردين… ولا رواية ذكورية أشارت لما يلعبه البحر في تلطيف الجو، ولما يجود به على المدينة من أسماك، ولما ميز مطبخ المدينة من أطباق شهية تفردها في المطبخ العالمي… ولعل الغرابة أن تجد بطل رواية يعيش في مدينة يحيط بها البحر ولا يذكر البحر إلا عند زيارته لمدن أخرى، فلما أراد بطل رواية “أناس عرفتهم” الإشارة إلى نسيم البحر العليل سافر بالبطل “الطيب” من آسفي إلى رؤية صديقه حسن يقول ” تذكر صديقه حسن فقرر السفر لرؤيته، حسن يقطن بمنطقة مطلة على البحر، منطقة هادئة يشعر معها الطيب بطراوة البحر ، وبنسيم البحر العليل”[xxxv] وكأن مدينته لا بحر فيها، وفي بيت صديقه فقط ” وككل زيارة يجلس الطيب للحظات طويلة في شرفة الغرفة … كي يراقص النوارس بعينيه …”[xxxvi] وهو القادم من مدينة النوارس بامتياز، ولما تزوج لم تتمكن زوجته من الاستمتاع بالبحر إلا بعد سفرهما إلى طنجة ” على رمال البحر الأبيض المتوسط، مرغت العالية جسدها لأول مرة بالرمال… كانت العالية تتمرغ بالرمال والماء، تتمرغ لدرجة أثارت استغراب الطيب لقد كانت متعتها الأولى”[xxxvii]. فيما لا يربطه ببحر آسفي غير المآسي ووأد أحلام الطفولة، ولم يشر إليه إلا عندما ” كان يرافق أصدقاءه نحو الشاطئ، على سوره رسم بيت حبيبته ومكان وقوفها… طريقة لتأكيد أحقية حلمه في الوجود… فاجأه حارس الميناء بالقبض عليه من الخلف… ليسمع هدير الفاركونيت على مقربة منهم، استعطفهم الطيب، لم يمهلوه الوقت الكافي للكلام، حملوه ورموه دفعة واحدة للداخل، اتجهوا به مباشرة إلى مركز الشرطة”[xxxviii]
صحيح إن البحر في الثقافة الإنسانية عالم المتناقضات: مد وجزر، هدوء وعاصفة، لين وقسوة، أمان وخوف، غدر ووفاء… لكن معظم روائيي آسفي آثروا ألا يروا سوى الصورة السالبة… وصعب جدا على مدينة ضاربة في جذور التاريخ أن تؤول حروفها هذا التأويل: “آسفي: أربعة حروف وملايين الأوجاع؛ ألفها استبدلت الألفة إفلاتاً وتفلتاً، سينها استبدلت السناء سكونا وسكّيناً غائرا في الجراح متغوِّلاً على الجسد، فاؤها فراغ لا نهائي ينخر الأرواح والأحياء والنفوس فيحولها إلى غيران لا تصلح إلا سكنا للوطاويط من مصاصي الدماء”[xxxix] إلا إذا كانت رغبته قول عكس ما يحس به تجاه مدينته.
الروايات المعتمدة في هذه الدراسة:
لأنجاز هذا العمل عدنا لعدد هام من الروايات والإشارة هنا إلى الروايات التي المقتبسة منها بعض الاستشهادات وهي :
- عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، إفريقيا الشرق ط1 الدار البيضاء
- عبد الرحيم لحبيبي: تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،
- أحمد السبقي: باب الشعبة ج1 مطبعة طوب بريس الرباط 2011
- ياسين كني: سيرة صمت، دار راشد للنشر ط1، الإمارات 2019
- ياسين كني: تيغالين حلم العودة، ط1 ، المكتبة العربية للنشر والتوزيع القاهرة 2017
- عبد الرحمان الفائز: النادل والصحف، ط1، المطبعة والوراقة الوطنية ، مراكش 2019
- حسن رياض: أوراق عبرية ، مطبعة المعرف الجديدة ط1 الرباط 1997
- محمد أفار: درب كناوة، ط1 مطبعة سفي غراف آسفي 2013
- عبد الله إكرامن: السيد “س” ط1 مطبعة الكتاب آسفي 2013
- المصطفى حاكا: أناس عرفتهم ط1 ، دار وليلي للطباعة والنشر، مراكش 2017
- الكبير الداديسي: انتقام يناير، مؤسسة الرحاب الحديثة، ط1، بيروت 2020
- أسماء غريب: السيدة كركم، دار الفرات للثقافة والإعلام ط1 العراق 2019
الهوامش
- – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، ص5
- – خبز سمك وحشيش ص 5
- – المرحع نفسه، ص6
- – المرحع نفسه، ص 5
- – محمد أفار: باب كناوة ص 15
- – المرحع نفسه، ص35
- – المرحع نفسه، ص 35
- – المرحع نفسه، ص35
- ياسن كني: سيرة صمت ، ص77
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص70
- – المرجع نفسه، ص66
- – المرجع نفسه، ص66
- – ياسين كني: سيرة صمت ص32
- – عبد الرحمان الفائز: النادل والصحف ص87
- – ياسن كني: سيرة صمت ص29
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص 75
- الكبير الداديسي: انتقام يناير، مؤسسة الرحاب الحديثة ط1 بيروت 2020 ص 353
- المرجع نفسه، الصفحة ص 354
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص 75
- – محمد أفار: درب كناوة ص246
- – المرجع نفسه، ص247
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص 74
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص 76
- – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش ص7
- – أحمد السبقي: باب الشعبة ص44
- – – أسماء غريب: السيد كركم، ص 80
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص 98
- – أسماء غريب: السيد كركم، ص 101
- – المرجع نفسه، ص33
- – المرجع نفسه، ص47
- – المرجع نفسه، ص15
- – أحمد السبقي: باب الشعبة، ص 160
- ياسين كني: سيرة صمت، ص 27
- المرجع نفسه، ص97
- – المصطفى حاكا: أناس عرفتهم، ص 61
- – المصطفى حاكا: أناس عرفتهم، ص62
- – المرجع نفسه، ص 68
- – المرجع نفسه ص 19
- – ياسين كني: سيرة صمت، ص 97
([i]) – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، ص5
([v]) – محمد أفار: باب كناوة ص 15
([ix] ) ياسن كني: سيرة صمت ، ص77
([x] ) – أسماء غريب: السيد كركم، ص70
([xiii] ) – ياسين كني: سيرة صمت ص32
([xiv]) – عبد الرحمان الفائز: النادل والصحف ص87
([xv]) – ياسن كني: سيرة صمت ص29
([xvi] ) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 75
([xvii]) الكبير الداديسي: انتقام يناير ، مؤسسة الرحاب الحديثة ط1 بيروت 2020 ص 353
([xviii]) المرجع نفسه، الصفحة ص 354
([xix]) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 75
([xx])- محمد أفار: درب كناوة ص246
([xxii] ) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 74
([xxiii] ) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 76
([xxiv]) – عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش ص7
([xxv]) – أحمد السبقي: باب الشعبة ص44
([xxvi]) – – أسماء غريب: السيد كركم، ص 80
([xxvii]) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 98
([xxviii] ) – أسماء غريب: السيد كركم، ص 101
([xxxii]) – أحمد السبقي: باب الشعبة، ص 160
([xxxiii]) ياسين كني: سيرة صمت ، ص 27
([xxxv] ) – المصطفى حاكا: أناس عرفتهم، ص 61
([xxxvi]) – المصطفى حاكا: أناس عرفتهم، ص62
([xxxvii]) – المرجع نفسه ، ص 68
([xxxviii]) – المرجع نفسه ص 19
([xxxix]) – ياسين كني: سيرة صمت، ص 97