قيل والعهدة على تاريخ العرب , انه زمن الامير عبد الرحمان الداخل في الاندلس ظهر رجل يدعى شقنة بن عبد الواحد في قبيلة من مكناسة المغرب وادعى نسبا شريفا فاطميا ويدا ممدودة في الطب فادعى قدرة الشفاء , وكانت لديه موهبة الكلام فقد حفظ من الاصول والفروع ومسالك الفرق والأديان ما يكفي ليقنع قبائل جنوب الاندلس بأنه احق من ابن معاوية المشرقي في حكم قرطبة , واستمرت الفتنة عشرين سنة مما يعده التاريخ لم تحدث ولا مواجهة عسكرية واحدة مباشرة بين الداخل عبد الرحمان والدعي شقنة لان الاخير اختيار الحرب الايديولوجية بدل الحرب العسكرية المباشرة وكانت الاصعب على بني امية من بين كل الفتن التي انتهت بالدم والقصاص , يقول المؤرخ البريطاني ارلوند توينبي ان فتنة شقنة الهادئة حازت مكاسب اهم من كل ثورات الاندلس , فلقد انضمت ثلثي القبائل الاندلسية لحلف المكناسي شقنة وحاز نصف الارض , وأنهك الجيش الاموي في الاندلس حتى صارت الحرب مغرما في بلاط السلطان , ولم تنتهي الفتنة الا بان قتل شقنة على يد احد حجابه بعد ان طلقه زوجته ليتزوجها , ومن تم صارت عرب الاندلس تقول مثلا صار عبرة في تشخيص الازمات  ” فتنة شقنة اشد من فتنة السيوف” , لقد كانت فتنة عظيمة هزت الاركان السياسية والثقافية لنموذج الدولة الاموية التي اصطبغت بشرعيات النسب والتاريخ والدين وحكمت بها , لقد كان شقنة أول أخر ثائر يضع السيف ويواجه دولة بإيديولوجية فكرية وأساليب سياسية غرضها استقطاب الناس ليخوضوا حرب وكالة على الدولة الاموية والتي سقطت في مأزق الاجابة على نوازع الثورة وأسبابها .

إن فتنة شقنة بن عبد الواحد تجد ظلها اليوم في تحليل واقع ازمة الدولة المغربية في الجانب المتعلق بأسباب الازمة وموقع الداء , فالدول الاسلامية عموما كانت تحتكم الى المعيار الثقافي المتعلق بالدعوة  والسياسي المتعلق بالعصبية القبلية لضبط ايقاع الازدهار او الافول او حتى الاندثاراي ان الموضوعية العلمية تستجدي منا بحث العلل في ركائز البناء وليس في اعراض التدبير , وهو الامر الذي ما يزال يجد موضوعيته التحليلية في واقع الدول الاسلامية اليوم , وهذا لايعني اننا ننفي باي شكل من الاشكال الانماط التحليلية كالعامل الاقتصادي الا اننا نؤمن بان الدولة المغربية نموذج ثقافي وسياسي متكامل عكس الجانب الاقتصادي والذي في نظري لا يمكن القياس على علله لاسباب ذاتية وموضوعية متعلقة بمدى صنع المغرب للقرار الاقتصادي .

الدولة المغربية تعاني ازمة في نموذجها الثقافي , فالمغاربة ومنذ الدولة الادريسية حكموا وفق نمط ” الملكية ” مع اختلاف في التسميات والمراسيم , مما شكل في المخيال الجمعي للمجتمع المغربي صورة ثقافية ثابتة جعلت من النمط الملكي ثابتا في معادلة  الوصول الى السلطة المركزية لهذا فمجموع الثورات الشعبية  ومحاولات بناء الدولة النقيض في المغرب كانت تمارس في الهامش بل وحتى قيام الدولة كان مرتبطا بثقافة النسب وتاصيله من بيوتات المشرق , كما ان النموذج الثقافي بني على الهيمنة على المجالات الحيوية للمجتمع من خلال حضور شخصية الملك في مجال الدين ولو بدعاء ختم صلاة الجمعة وفي المجال القضائي باستصدار الاحكام باسمه وفي المجال التعليمي عن طريق تزكية المذهب الفقهي الذي غالبا ما كان يتماشى مع النموذج الثقافي للدولة  ,  لقد كانت البيعة بمثابة تعاقد شفهي بين الدولة والمجتمع في اطار كانت الغلبة فيه والامتياز للدولة لكن اليوم وعي المجتمع الجديد بتحولات السياسة العالمية والتزايد على مطالب التغيير منذ القرن التاسع عشر جعل شكل التعاقد مع الملكية الحاكمة يتغير تدريجيا متوجها نحو شكل مباشر من التفاوض على امتيازات جديدة للمجتمع , فغياب معادلة التجديد والتحيين في نموذج الدولة الثقافي المبني اساسا على الشرعية التاريخية دون غيرها كان من النفترض ان يستبدل بنموذج ثقافي مبني على شرعية الانجاز والذي من خلاله سيتحدد التعاقد الجديد , بالاضافة الى هذا فالدولة تعيش ازمة ” نخب البلاط” فعلى مر التاريخ كانت القصور تنافس على تفريخ العلماء والنخب لمنافسة علماء الزوايا  وعلماء فاس خاصة وهو ما افتقدته الدولة المغربية منذ القرن التاسع عشر على اعتبار ان العقم سببه جمود النموذج , فنخب البلاط تعتبر من اليات تنزيل لفلسفة الدولة بل ان كثير الانتاجات الفكرية والعلمية في المغرب كان الغرض الاساس منها تزكية هذا النموذج الثقافي.

الدولة المغربية اليوم تعيش ازمة سياسية صامتة في بعدين الاول مرتبط بالانتقال الديمقراطي والثاني مرتبط بالتقاطب الوطني للاحزاب السياسية والذي تزعمه العدالة والتنمية منذ انتخابات 2011, لقد بنت الدولة المغربية ما بعد الاستقلال خطابها السياسي وشرعيتها على الترويج بأن الدولة مسؤولة عن الانتقال الديمقراطي فكانت وثيقة العهد الملكي بمثابة وعد سياسي لاقرار التعددية الحزبية ومحاولة كتابة دستور مغربي , ورغم ان الخطوة كانت محاولة احترازية من القصر لتجنب تغول حزب الاستقلال فانها بذلك اسست لتعاقد سياسي لم يكن للدولة النية في تطبيقه , أن ايمان الاحزاب السياسية الوطنية بالانتقال الديمقراطي وتمسكها به منذ الاستقلال وضع الدولة في ورطة التوازنات بين نفوذها وصلاحياتها وبين اعتماد منهج ديمقراطي يختار فيه الوعي السياسي الجديد نظام محددا لتسيير , وبعد فشل الانقلابين دخلت الدولة في ردة ديمقراطية بنيوية احتكر فيها الملك خطاب التنمية والتقدم بدون الرجوع الى حزمة حزبية تضمن تداول الافكار على السلطة فيما بات يسمى بنموذج التنمية بدون ديمقراطية .

ان الربيع العربي كان حدثا هز كيان السلطة في كل البلدان العربية وهو الامر الذي دفع بالدولة المغربية لمراجعة النموذج الثقافي والسياسي الذي تبنته , فالتنازل عن بعض السلط ترك فراغا امام القوى الاصلاحية لمحاولة استعادة المبادرة من اجل احياء الانتقال الديمقراطي فجرت مياه كثيرة تحت جسر المملكة الشريفة سمحت لحزب العدالة والتنمية بخلق نوع من التقاطب الحزبي والتصنيف على سلم الوطنية , كما ان البرامج التنموية المقترحة من الاحزاب خلقت نوعا من المزاحمة الدستورية للدولة , ان ازمة الدولة السياسية تبدو جلية وولضحة من خلال محاولة تصديرها داخل حزب العدالة والتنمية عن طريق صناعة فوارق فكرية في التدبير لمرحلة النكوص فالصراع اليوم في العدالة والتنمية ليس صراع ترشيحات بقدر ما هو صراع حول رؤية تؤمن بان المرحلة تتطلب طرح سؤال حول النموذج الثقافي والسياسي للدولة وبين من يرفض ذلك .

إن فتنة شقنة تجد مساحة الراحة في كل مرة تحاول فيها الدولة القضاء على فكر يحاول المس بنموذجها المسيطر, فورطة الدولة اليوم في عدم قدرتها على الاعتراض على صوابية مشاريع الانتقال الديمقراطي في حين ان كل التدابير والسياسات توحي بان الدولة تحارب نفسها فهي كشقنة بن عبد الواحد وهي كالامير عبد الرحمان الداخل !  .