فقدان المناعة الأخلاقية: " السيبة"
على غرار داء فقدان المناعة المكتسب: “السيدا SIDA “، الذي يصيب الانسان من حيث هو كائن بيولوجي، والذي على إثره يفقد الجسم قدرته الدفاعية ضد الأمراض، تصاب المجتمعات بحالة من فقدان المناعة الأخلاقية: “السيبة”، كداء اجتماعي يصيب الانسان من حيث هو فرد اجتماعي. وهي حالة غياب نسبي، أو كلي للقيم والقوانين الموضوعية، التي عليها يقوم التوازن والسلم الاجتماعيين. وقد اخترت استعمال كلمة “السيبة”، نظرا لما لها من معنى الشمولية. ففي ظل السيبة يشعر الفرد بالتهديد من كل الجهات، وبكل أشكال الشر الممكنة. تماما كما هو الحال بالنسبة لكلمة ” السيدا” التي تعبر عن حالة مرضية شاملة، وعن سبب للإصابة بكل الأمراض. ترى، هل المجتمع المغربي يعيش السيبة الآن؟ وإذا كان الجواب بالإثبات، فما هي تجلياتها ؟
آراء أخرى
في الواقع، نحن لا نعيش في مجتمع بدائي منعدم القيم. ورسميا، نحن نعيش في دولة فيها جهاز أمني وقضائي لحماية الناس. لكن هل يشعر هؤلاء- في المجتمع المغربي الراهن- بالإنسانية التي ميزت الانسان الاجتماعي عن إنسان الطبيعة؟ وهل يشعرون أيضا بالأمن، والعدالة بوجود جهازيْ الأمن والقضاء؟ وما قيمة وجود مؤسسة أمنية، وأخرى قضائية، ما لم يشعر الناس بالأمن والعدالة؟
إن ما يشعر به الناس في المجتمع المغربي الراهن، هو غياب الأمن . وهو شعور موحد بين كل الناس، صغارا وكبارا؛ رجالا ونساءً؛ مواطنون وأجانب.
يذكر المغاربة في تاريخهم ما سمي: ب “زمن السيبة” وهو إشارة إلى تلك الفترات التي عاشتها القبائل، التي لم تكن تخضع لنظام الدولة في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، حيث كانت المناطق الخاضعة لنظام الدولة، تسمى:” بلاد المخزن” وتلك التي لا تدين بالولاء للدولة، تسمى :”بلاد السيبة”. وبالطبع، لم تكن بلاد المخزن آمنة كليا، ولا بلاد السيبة سائبة كليا. لكن السيبة وانعدام الأمن، كانا مرتبطين، إما بالنزاع القبلي و التمرد السياسي ، أو بنقص الموارد، والمجاعة. وهنا لابد أن نتساءل : لماذا لم تستطع القيم الأخلاقية منع حدوث السيبة، والحد من انتشارها، بالرغم من قيامها على أسس دينية محافظة، وبالرغم من سيادة العقل الجمعي، و تماسك المجتمع الى درجة انصهار الأفراد فيه؟
تشير الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، إلى أن القيم الأخلاقية- كسلوك ثقافي مكتسب- لا تصمد – في معظم الحالات- أمام الحاجات الغريزية. لهذا السبب يستسلم الناس لغرائزهم ونزعتهم الأنانية. والنتيجة، سيادة ما هو فردي على ما هو اجتماعي. ومن تم سيادة السيبة. لكن إذا كان ل”زمن السيبة” ما يبرره من حرب ومجاعة…فما الذي أدى الى حالة السيبة التي يعيشها المجتمع المغربي الراهن ؟ بالطبع، فإن الأمر يختلف بين السيبة في زمن الأمس، والسيبة في زمن اليوم. بالأمس كان حضور سلطة القبيلة أكثر من سلطة الدولة، لأن المجتمع القبلي، يدين بالولاء للقبيلة قبل الدولة. ولهذا، كانت حالات السيبة منحصرة داخل القبيلة الواحدة، أو قد تمتد للقبائل المجاورة. في كل الأحوال، فان الإحساس بغياب الأمن، كان محليا، أما اليوم فهو احساس شامل، من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. لم تعد للقبيلة سلطة على أفرادها، ولا للمجتمع، ولا للأسرة، بل للدولة بالدرجة الأولى؛ وهذه إحدى خصائص المجتمعات المعاصرة، وهي: سيادة سلطة الدولة على كل السلط الأخرى، وتحملها – رسميا، وبشكل مباشر- مسؤولية حماية مواطنيها؛ لأن الأصل في أي تعاقد بين أفراد المجتمع، والهيأة السياسية التي اختاروها، هو توفير الأمن أولا، و حماية الناس من اعتداءات بعضهم على بعض.
لقد كتب الفيلسوف الانجليزي “توماس هوبزThomas Hobbes” ، ومعه كل فلاسفة “العقد الاجتماعي” عن حالة الطبيعة الأصلية، التي سادت فيها النزعة الفردية، والحرب الشاملة، وغياب القيم الإنسانية، والتي لم يكن فيها للناس خيارا سوى الانتقال إلى وضع اجتماعي ينهي حالة السيبة المطلقة؛ ولهاذا السبب كان الشرط الأساسي في” العقد الاجتماعي” هو الحق في الأمن والسلم.
لا يمكن لدولة أن تتقدم -إنسانيا- ولا لمجتمع أن يرقى – بقيمه- في ظل غياب الأمن؛ و السبب، هو أن الفاعلية في العمل والإنتاج تتقهقر ، والثقة كقيمة أخلاقية تنعدم، وملكة التركيز تهتز، ويَنْصَبُّ قدر كبير من تركيز الناس على الاحتراس من عدو محتمل. ومع عدم فعالية الاحتراس الانساني، يستعين البعض بوسائل تقنية، ككاميرات المراقبة، لعلها تساعده في حماية نفسه وممتلكاته. فالتاجر مهدد بسرقة بضاعته، والمدرس مهدد في كرامته وسلامة جسده، إن هو ادى عمله كما يجب، ورجل الأمن ذاته لا يشعر بالأمن، وتجار المخدرات يفسدون بسمومهم صحة البشر علنا، وأبطال المسايفة – في الشوارع- يرعبون الجبناء والشجعان على حد سواء ، والسائقون مهددون بفقدان حياتهم بسبب تهور آخرين، والمسافرون غير مطمئنين على أمتعتهم، والأسر مسكونة بفوبيا سرقة، أو اغتصاب الأطفال، واغتصاب النساء، والتحرش بهن في الشوارع ووسائل النقل العمومي، والمواطن يخشى ابتزاز الموظف ومطالبته بالرشوة، والطالب لا يحترم أستاذه، ويخاف- في نفس الوقت- من انتقامه، والمارة في الشوارع متوترون وضائقون بسب احتلال الملك العمومي. بل وحتى المصلون في المساجد غير مطمئنين على أحديتهم.
هذا غيض من فيض؛ وما خفي -لا شك أنه- أعظم. فهناك السيبة العميقة، وأبطالها من أهل السياسة. إنها حالة من السيبة الصامتة، التي تنتشر بهدوء، وتنخر المجتمع في صميمه . ومع استئناس الناس بها، أضحت حالة عادية لدى الكثيرين.
ما العمل إدن، في ظل هذا الوضع ؟ وهل يستطيع الحس الاجتماعي تدارك الأمر، وإنقاد المجتمع؟
لقد تغيرت طبيعة المجتمع المغربي، من مجتمع تقليدي متشبع بالقيم التقليدية، المرتكزة- بالأساس- على العقيدة، والمتمتع- نسبيا- بالحصانة الذاتية، إلى مجتمع حديث ( بما يستورد من تقنيات، وآلات، ووسائل صناعية متطورة). لكنه مضطرب، وغير حداثي؛ لأن الفرق بين التحديث والحداثة شاسع جدا. فالتحديث يرتبط بالتقنيات الصناعية، واساليب العيش المادي -كما ذكرت- ،أما الحداثة، فتحتوي التحديث ولا تقف عنده، بل تمتد الى مجال العقل، والقيم الانسانية، مُحَاوِلة بناء موقف موضوعي يتجاوز نقائص التقليد والتحديث معا. لأن انسانية الأنسان لا تتحقق بالوسائل والتقنيات، بل بما يحمل من قيم: كالديموقراطية، و الاختلاف، والموضوعية، والنزاهة، والنقد البناء، والمنافسة الشريفة، والتعايش السلمي، والتضامن الإيجابي، والمسؤولية، والعدالة، والأمن…
ولا شك أن المجتمع المغربي الراهن، حديث بدرجة معينة، وتحديثه مستورد عبر الوسائل، والتقنيات الصناعية التي عملت على إخراج المغاربة من بساطة العيش، إلى حياة حديثة، وسريعة التغير. لكن على المستوى التقني فقط. أما على مستوى القيم، فنستطيع القول بأن المجتمع المغربي يتدهور. فهو ماض في التخلي عن إيجابيات القيم التقليدية، ولم يستوعب – بعد – قيم الحداثة. ولهذا يشكو من فراغ قيمي. فلم تعد القيم التقليدية (بما فيها الدينية) فاعلة لدى الكثير من المغاربة، بالرغم من حضورها اليومي في وعيهم ولاوعيهم. فهي الآن، مجرد نسخة باهتة من التدين الشكلي، الخالي من البعد الحقيقي للعبادة، والمسيطر على الثقافة بفعل وطأة العادة. ولم يستطع هذا المجتمع التأصيل لقيم الحداثة، أو -على الأقل- استيرادها واستيعابها بشكل سليم. ونظرا لهذا الخواء المزدوج، يعيش الوعي الاجتماعي حالة من الشقاء؛ المتمثل في: الانحصار الحضاري، وتردي القيم، وسيادة السيبة.
وبما أن الوعي شقي، فإن الوعي السياسي ليس استثناءً. بل هو أكثر أنواع الوعي شقاءً في بلادنا؛ لأن استراتيجيته لا تقوم على التقدم ، وانما على “إيديولوجيا التقدم”؛ والفرق بين الأول والثانية كبير الى حد التناقض. ولا أقصد هنا التقدم بالمعنى العلمي، والتكنلوجي فحسب. بل بالمعنى الأخلاقي أيضا. وهو التقدم ذاته الذي دعت اليه فلسفة الأنوار في أروبا القرن الثامن عشر. تقدم مادي كمي ينبني على العقل العلمي- التقني، ويراكم (آلات، أدوات، تقنيات، ومهارات). وتقدم نوعي ( قيمي) ينبني على ملكة العقل الأخلاقي، ويراكم القيم الإنسانية، التي بها يتجاوز المجتمع، الاستبداد، و الاضطهاد، والديكتاتورية، والعبودية، والميز، والاستغلال، والاحتقار، ومختلف مظاهر السيبة.
دعنا الآن من التقدم (بالمعنى الكمي والتقني)؛ لأنه لا يهمنا في هذا الموضوع. وسنركز على التقدم بالمعنى القيمي (الأخلاقي)، وسنرى هل المغرب يتقدم – فعلا- أم يتقهقر؟
الكل يعلم الدعاية المغرضة التي ترد دها وسائل الإعلام العمومي من خلال عبارة: “دولة الحق والقانون”. قد تتساءلون، لماذا تتردد هذه العبارة على مسامعنا باستمرار؟
والجواب، هو: أن النظام السياسي – في اي بلد في العالم- حينما يعجز عن القيام بإنجازات واقعية، فإنه يعوضها بدعاية إيديولوجية زائفة. وما يلفت النظر هو أن حجم الدعاية أضخم من حجم الانجازات في بلادنا. واذا كان ما أنجزته الدولة يبدو مهما – بالمقارنة مع ما مضى، أو بالمقارنة من دول غير ديموقراطية- فانه يبدو تافها بالمقارنة مع المجتمعات المتقدمة؛ لأن مقياس دولة الحق والقانون ليس هو الدعاية، أو تشريع القوانين بل هو تفعيل تلك القوانين بالشكل الذي يجعلها حامية لحقوق الناس جميعا، ودون تمييز على أي أساس. لا يزال النفود السياسي، والمالي، والعائلي، والوظيفي مهيمنا على أرض الواقع، ضحاياه ممن لا سلطة لهم، ولا مال ، ولا شهرة عائلية، ولا وظيفة مميزة.
والآن، سأسلم بكون تلك الدعاية حقيقية، و سأطرح أسئلة بسيطة، وسأحرم نفسي من حق الاجابة عنها، تاركا لكم هذا الحق بناءً على انطباعاتكم عن دولة الحق والقانون. وهذه الأسئلة هي: ماذا ستكون نتيجة دعوى قضائية بين شخصين أحدهما يمتلك السلطة، أو المال، أو الشهرة العائلية، أو وظيفة عليا في الدولة، أو كلها مجتمعة، وآخر لا يملك أي شيء منها؟ وماذا ستختار انت، ان ابتليت بتهمة، وخيروك بين العدالة المغربية، والعدالة الفرنسية لمحاكمتك؟ وأين ستختار العلاج ان ابتليت بمرض وخيروك بين المستشفيات المغربية ونظيرتها السويسرية؟
مهما كانت الأجوبة، فان دولة الحق والقانون هي التي تضمن حقوق الناس، وتحمي مواطنيها من الميز والفساد والجريمة والسيبة، بالفعل لا بالقول؛ بالواقعية لا بالدعاية؛ بالحقيقة لا بالإيديولوجيا.
كلنا يعلم الحجم الهائل للدعاية النازية، والفاشية، والشيوعية، والتي لم تصمد أمام واقعية شعوبها، فانهارت انهيارا سريعا ومزلزلا لم يستوعبه أحد. وبقيت الأنظمة التي تصون حقوق مواطنيها دون دعاية كاذبة. ولو كانت دولتنا – فعلا- دولة حق وقانون، فلماذا الدعاية إذن؟ وهل هناك دعاية للحق والقانون في دولة ديمقراطية كفرنسا، وسويسرا، وكندا، واليابان…؟
لكن، مهما كان حجم هذه الدعاية، فإن المغاربة واعون بحقيقة الوضع في بلدهم، وعارفون – حق المعرفة- درجة الفساد، التي تنهش جسد المجتمع. وحتى أصحاب الوعي المتدني يدركون – بالحس البشري – الفرق بين وضع سليم وآخر معتل. وهذا ما تكشفه حالة العزوف السياسي المتزايدة، التي تتجلى من خلال نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات التشريعية، وآخرها اقتراع 07 أكتوبر 2016 الذي لم تتجاوز النسبة فيه 43 % (ان سلمنا بصحتها). و ما تكشفه أيضا، حالة التشاؤم البادية على وجوه المغاربة. فكل المغاربة متشائمون من سياسة دولتهم، ومن مستقبل وطنهم. باستثناء ممثلي السلطة السياسية، والمتهافتين عليها، والمنتفعين من ريعها، والمغمى عليهم إيديولوجيا. هؤلاء وحدهم متفائلون بمستقبل أفضل لا ندري متى سيتحقق.
لكن بالرغم من وعي المغاربة بالسيبة والفساد في مجتمعهم ، وبالرغم من إرادتهم الطيبة لإصلاح الوضع، والتصالح مع النظام السياسي، فهم غير قادرين على ذلك. بعكس السلطة السياسية التي هي قادرة على الإصلاح، لكن لا ارادة لها فيه.
ومن المعلوم، أن الإصلاح لا يتم الا بتكامل الإرادة والقدرة معا، وهو ما لم يتحقق بعد. إذ لا يزال مجتمعنا عاجزا عن إجبار المسؤولين السياسيين على الاستجابة لإرادته. ولو كان قويا كفاية، لأجبر الحكومة على اصلاح ذاتها أولا، ثم إصلاح مجال التربية، والتعليم، والصحة، والأمن، والقضاء بشكل فعال، وقادر على الرقي بالمجتمع لتجاوز هذا الوضع السائب.
لقد سبق للمفكر المغربي عبد الله العروي أن قال: بأن الدولة -في المغرب- متقدمة على المجتمع. والمقصود بذلك، أن ما راكمته الدولة من قوانين، وتشريعات حقوقية، يفوق بكثير مطالب المجتمع. أي: أن المغاربة غير واعين بما تم إنجازه في مجال التشريع. وبالتالي، غير واعين بالكثير من حقوقهم التي يضمنها القانون. وهذا صحيح إلى حد ما. إلا أن ما قامت به الدولة من إصلاحات – وخصوصا في مجال التشريع الحقوقي – لم تكن بوازع الارتقاء بقيمة الانسان المغربي من مستوى الرعية إلى مستوى المواطن. بل بوازع خارجي، واستجابة لمطالب وإملاءات خارجية، قصد تلميع صورة الدولة ديبلوماسيا، وكسب الاعتراف الخارجي بمشروعية الحكم. وخير دليل هو: أن الدولة تخشى من رد فعل المؤسسات، والمنظمات الحقوقية الدولية، أكثر من رد الفعل الداخلي؛ وكأنها تستمد شرعيتها من الخارج لا من الداخل. ولأن الأمر يتعلق بهبة حقوقية نزلت على المغاربة من فوق، فإن الواهب يتصرف فيها كما يشاء، ويخرقها متى شاء. وهذا ما نراه – بين الفينة والأخرى – من خروقات للقانون وانتهاكات لحقوق البشر، وخاصة حقوق الصحفيين، ومعتقلي الرأي، والمعتقلين السياسيين المتابعين بتهم جنائية. ليس المهم هو المطالبة بالحقوق، وإنما المهم هو القدرة على تحصينها. ولو كانت التشريعات الحقوقية المنجزة – حتى الآن- قد حصلت بفعل ضغط شعبي، لكان المغاربة قادرين على تحصينها، ولما أقدمت السلطة على خرقها.
يطالب معظم المغاربة بحقوق اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، والأقلية منهم تطالب بحقوق سياسية، تؤازرها في ذلك الدول الديمقراطية، والمنظمات الحقوقية الدولية. لأن الوعي السياسي في المجتمع المغربي متدن الى حد كبير؛ ولذلك أسباب عديدة، منها: تلك الممارسات السلطوية والطقوس التقليدية المرتبطة بها؛ والتي رسخت في الثقافة الشعبية تصورا مغلوطا لمفهوم المشروعية السياسية. وجعلت فئة من المغاربة عازفة عن السياسة، وفئة تمارسها بالعاطفة لا بالعقل، وبدافع المصلحة الذاتية لا المشتركة، وعلى الهامش فئة أخرى تمارس المعارضة العلنية، أو الصامتة، لكن دون تأثير.
ومن إيجابيات العولمة، أنه حتى ولو كانت بعض الشعوب لا تعرف حقوقها، أو غير قادرة على المطالبة بها، فهنالك من المنظمات، والهيئات الحقوقية التي تتولى الدفاع عنها، وتجبر الأنظمة المستبدة على القيام بإصلاحات تلتزم بحقوق الانسان. ولكن- بالطبع- إصلاحات كهذه هي بمثابة ثورة فوقية، متعالية على المجتمع. لهذا لم يستوعب معظم المغاربة ما حصل من إصلاحات في مجال التشريع الحقوقي ؛ ولهذا السبب يعتبر العروي الدولة متقدمة على المجتمع. ومن هنا يتضح نوع الثورة التي يحتاجها المجتمع المغربي، ألا وهي: ثورة الوعي أولا.
لقد سبق أن قلت بأن المغاربة واعون بحقيقة الوضع المتردي في بلادهم. وهذا صحيح. لأن تجارب الفشل السياسي، والوقائع و الأحداث اليومية المخالفة للقوانين والقيم، كافية لترسيخ فكرة اللاأمن في وعيهم، ولا وعيهم. لأن التمييز بين مجتمع معافى وآخر مختل، لا يتطلب قدرة فكرية عالية. وحتى الحيوان يشعر بالأمن أو عدمه، لأن الأمن يرتبط بالأدراك الحسي قبل الوعي. ولأن الأمن يُشْعِرُ باستمرار الحياة، وغيابه يُشْعِرُ بالموت، او على الأقل التهديد به، فقد تأصلت – عبر ملايين السنين – في الأنسان والحيوان نزعة السكن من أجل الأمن و الاستقرار قبل أي شيء آخر.
واضح إذن، أن الحق في الأمن هو اعرق الحقوق واقدمها على الإطلاق . ومع ذلك فدولتنا تفرط فيه. ومن يعتقد، او يدعي ان السلطات لا تتوانى في محاربة الفساد، والسيبة، ولا تدخر جهدا في ذلك، فهو واحد من اثنين: إما واهم أو كاذب. فمحاربة الدولة للمجرمين، و للمفسدين واجب، لكنها في نفس الوقت مطالبة بمحاربة أسباب الجريمة و الفساد؛ وهو ما تتغاضى عنه السلطات في بلادنا. فظاهريا يبدو انها تعاقب تجار المخدرات، لكنها لا تحارب ظاهرة انتشار المخدرات، وتعاقب المرتشين، لكنها لا تحارب ظاهرة الرشوة. تعاقب معظم المجرمين، دون العمل على الحد من أسباب الجريمة. وفي ذلك قصد مُبَيّت، مؤداه: رعاية الدولة للسيبة، والحفاظ على أسبابها، كي لا يبقى في رصيد المطالب الشعبية سوى مطلب واحد، وهو: “توفير الأمن”. واستغفال الناس عن المطالبة بالحق في الشغل، والتعليم، والصحة، والسكن، والحرية، والعدالة، والعيش الكريم…وهذا التزام من السلطات بوصايا ميكيافيلي “Nicolas Machiavel” بوفاء وإخلاص.
قد يدعي البعض أن المغرب ينعم باستقرار اجتماعي وسياسي، مقارنة مع بلدان أخرى. لكن لهذا الاستقرار ثمن باهض يؤديه المغاربة في صمت، وهو الالتفاف على الحقوق والحريات.
كما لا ينبغي أن نتجاهل حالات الاضطراب، والخوف، وعدم الاستقرار النفسي الناتجة عن وضعية السيبة و انعدام الأمن. لأن بين الاجتماعي و النفسي علاقة سببية وطيدة، وتوازن أحدهما يؤدي الى توازن الآخر .
وهل يستطيع المجتمع أن يتقدم وهو غير متوازن سوسيولوجيا وسيكولوجيا ؟
معظم المغاربة يدينون بالولاء للسلطة السياسية، لأنها أثبتت كفاءة عالية على تحقيق الاستقرار السياسي، وحماية المواطنين من مثل الصراعات، التي تعانيها بعض دول الربيع العربي . لكنهم لا يعلمون بأن مثل تلك الصراعات تهدد السلطة ذاتها قبل المواطنين. ولو كانت السلطة السياسية في منأى عن نتائج مثل تلك الصراعات، لما فعلت ما تفعله الآن من يقظة أمنية شديدة.
لنعد مرة أخرى إلى حالة السيبة التي تجتاح المجتمع المغربي ونتساءل : لماذا لم تعمل الدولة على محاربة هذه السيبة بنفس الكفاءة والفعالية التي تواجه بها التهديدات الخارجية ؟
لا شك أن الجواب جلي، وهو أن استفحال الجريمة والفساد لا يهدد استقرار النظام السياسي، بل يهدد استقرار النظام الاجتماعي، ولا يهدد السياسيين ( فهم محميون)، بل يهدد أفراد المجتمع، اللذين لا حماية لهم. وكلما كان النظام السياسي غير ديمقراطي، كلما عمل على ترسيخ قاعدة “فَرِّقْ تَسُدْ”. ورعاية مظاهر الجريمة والفساد، هي الوسيلة لترسيخ تلك القاعدة، وجعل مطالب المجتمع مُنْصَبَّة-بشكل أساسي- على توفير الأمن.
ولمن لم يقتنع بعد، عليه أن يتساءل: هل النظام السياسي في بلادنا قادر على حماية نفسه؟ يبدو لي الجواب واضحا. نعم، فهو لا يدخر طاقة، ولا حيلة في سبيل ذلك، ويعمل بالطرق المشروعة، وغير المشروعة على تحصين نفسه. لكن لماذا هو غير قادر على حماية المواطنين؟
ان الأمر لا يتعلق بعدم القدرة، بل بعدم الإرادة، وفي بعض الأحيان بهما معا. لا يريد نظامنا السياسي حماية المجتمع، لأن في ذلك رفع من قيمة الانسان، ومن تم تطور المطالب الى مستوى أعلى (مستوى الإنسانية الراقية)، وهذا ما يزعج السياسيين. لأن نظام تقليدي كهذا (تقوم السلطة فيه على تصور عمودي لا أفقي)، سيصطدم -لا محالة- بالمطالب الشعبية المتصاعدة. ولهذا فهو يلعب دور المعرقل لتطور الوعي عموما، والوعي السياسي على وجه الخصوص، تفاديا لهذا التصادم ، وحفاظا على استقرار الوضع بعلله ومساوئه. فمن طبيعة النظم المستبدة، العمل على تفسيخ قيم المجتمع حتى لا ترقى المطالب إلى الحقوق السياسية والإنسانية العليا، بل تظل – فقط- في حدود ما هو اقتصادي، واجتماعي ، ولا تتعدي نطاق الغريزة. كالحق في الحياة، والأمن، ولقمة العيش. وبالموازات لذلك، يعمل نظامنا السياسي على مكافأة خدامه، أو ما يسمى: ب “خدام الدولة” بتعويضات سخية ورواتب سمينة، تتجاوز سقف الرواتب العادلة بأضعاف مضاعفة، لتتحول بذلك الى رشوة بغطاء القانون، يتقاضاها هؤلاء، مقابل إسكات الناس، والالتفاف على حقوقهم .
تلكم إذن، صور متعددة من مختلف المجالات للسيبة: الرسمية والشعبية، الظاهرة والباطنة، التي يتخبط فيها مجتمع محسوب على خير أمة أخرجت للناس، أو هكذا يعتقد. مجتمع مضطرب، وغير منسجم، يتوسل باستمرار إلى السلطات لحمايته، وتحريره من شعوره الدائم بفقدان الأمان. ولا يدري بأن هذه السلطات غير قادرة، حتى على حماية المال العام، من نهب كبار المفسدين المحسوبين عليها. وغير قادرة، حتى على تحرير الشوارع العمومية، من احتلال أرباب المقاهي، والمحلات التجارية، والباعة المتجولين، فكيف لها أن تحمي، وتحرر الناس، من حالة السيبة الهالكة للحرث والنسل.
ولو استدعينا خبراء دوليين متخصصين من مختلف المجالات، لتشخيص أعطاب هذا المجتمع، لأجمعوا في تقاريرهم على الحقيقة التالية: “المغرب مصاب بداء فقدان المناعة الأخلاقية”: السيبة.