وأخيرا اندلعت الحرب الأهلية بالمدرسة، و بدأ التلاميذ و الأساتيذ يتساقطون جرحى ومعطوبين و قتلى ، ليس في ساحات المعارك ، و لكن في ساحات المدارس والكليات، و أصبح النحر و جز الأعناق، يتمان تحت السبورة وفوق المصطبة . 

المصطبة التي كانت تأخذ الأستاذ إلى الأعالي، و تجعله كبيرا في أعين التلاميذ والناس، فوق هذه المصطبة، بدأ التراشق بالكلام البذيء و اللطمات و السكاكين، وأصبح لون الطبشور أحمر قانيا، وبدأ قطبا المعرفة يثوران ضد بعضهما البعض.

صحيح أن التلاميذ ، منهم الأشقياء و الأغبياء و الأتقياء ، و أنهم يأتون إلى الفصول يترنحون، و أن من بينهم من يحمل السكاكين و المديات و الهراوات، و أنهم يصمون آذانهم بالسماعات، و يرفضون الانضمام إلى عالمنا الذي لا يعجبهم و لا يغريهم ، و أن من بينهم كذلك ، من يتناول أقراص الهلوسة والهذيان ، ومساحيق بُنية اللون، شبيهة بتلك التي نتناولها في رمضان الكريم، فيبدو له الأستاذ في حجم النملة، أو كمن يطل على أهل الأرض من القمر.

قد يكون صحيحا كذلك، أنه عوض أن نمد الأستاذ بقطع الطباشير، علينا أن نمده بمخزون وافر من قطع الرصاص و المسدسات،و القنابل المسيلة للدموع والدماء، تحسبا لكل هجوم مباغت قد يأتيه من بين الصفوف و من تحت المدرجات.

 ربما صحيح أيضا، أنه عوض أن يلم المدرس بأحدث النظريات البيداغوجية  والديداكتيك، يجب عليه أن يحظ بتكوين عال و متعمق في أساليب القتال و فنون الحرب، وأن يتوج مساره، بدلا من الشواهد والدبلومات، عليه أن يحوز الأحزمة السوداء والحمراء و الزرقاء، وبدلا من أن يأتي إلى المدرسة يضع وزرة بيضاء، عليه أن يلبس رداء يقيه بأس التلاميذ،من دروع و خوذات كالتي يضعها سائقو الدراجات الكبيرة.   

كل هذا ، ربما بعضه صادق ، و بعضه الآخر مبالغ فيه، و لكنه صحيح كذلك، أن بعض أساتذتنا الأجلاء ” يبهدلون” التلاميذ في القسم، و يمسحون بهم الأرض و يشتمونهم وقبيلتهم، و يسمعونهم أحدث قاموس في التجريح و التوبيخ و التبكيت ، كل هذا و زميلاتهم في الفصل ينظرن و يتفرجن.

الأستاذ الجليل حامل المشعل، من يطرق قلوب التلاميذ قبل عقولهم، من يصاحبهم ويصادقهم و يتمنى الخير لهم، الذي يأخذ بيد هذه الكائنات المتفجرة، و التي من سوء حظها،  تعيش تحولات، لا قبل لأحد قبلها به، كائنات تتجاذبها تيارات و أمواج و بحور ذات لجج. الأستاذ صاحب الكاريزما الحادة والشخصية الآسرة، وليس الأستاذ الذي ينظر إلى تلاميذه سببا في تعاسته.

ما حجم الظلم الذي يجري داخل قاعات الدراسة، و ما حجم الغبن الذي يستشعره أبناؤنا جراء الحيف الذي يطالهم والمحاباة التي تفاضل بينهم.

 كم من المظلومين و المظلومات الذين غادروا مقاعد الدراسة، ساكتين صامتين، يشتكون إلى الله، كم عدد أولئك الذين قصمت مصيرهم، جرة قلم من أستاذ في قلبه مرض. كم من مؤسسة للتربية والتكوين، عوض أن نوجه إليها لجنة للدعم و المسرح وهدايا للأطفال، يجب أن نوجه إليها لجنة لتقصي الحقائق.

كم من اللواتي، وعوض أن ينظر المراقب إلى أوراق إجابتهن، ينظر إلى جيوبهن و نحورهن.

ولا ينبغي أن ننس كذلك، أننا و حتى الأمس القريب، كنا تلاميذ، ننظر إلى الأستاذ، كائنا ليس كغيره من الناس، كائن جاء من مكان بعيد ، ذو هيبة و وقار، كأنه نزل من السماء.

 ولن ينس أي واحد منا، تلك اليد التي ربتت على كتفه و لو مرة واحدة، تشجعه و تمده بالدفء والحرارة اللازمين لمواصلة المسير، في هذا الزمن الأجرب الأجدب،لم نكن لننس كل أساتذتنا الطيبين، مهما توغلوا بعيدا في الزمن، لا نفتأ نذكرهم، أو نترحم على أرواحهم، و ندعو لهم في سرنا و علننا، و حتما لن ننس كذلك كل ظلم طائش مسنا، مهما كان صغيرا أو كبيرا.

هي الحقيقة و الألم الذي يسكن مدرستنا، والذي لا بد أن نعترف بوجوده بيننا ، شئنا أم أبينا، وتحية إجلال و احترام للأساتذة الكرام الأباة، الذين بفضلهم، مازال كثير من الناس يؤمنون بالمدرس و دوره الحاسم في قيادة الناس نحو الرقي و التحرر.