"كورونا" وطبيعة العلاقة بين العلم والدين
“تفسير” العديد من المؤمنين المسلمين ـ وحتى مؤمنين من غير المسلمين ـ انتشار وباء “كورونا” على أنه امتحان أو عقاب من الله، يطرح طبيعة العلاقة بين العلم والدين، وبين الله والإنسان والكون عند المسلمين، أي في الإسلام كما يفهمه ويمارسه المسلمون.
آراء أخرى
الجبرية والقدرية:
أول ما أُثيرت طبيعة هذه العلاقة كان ذلك بمناسبة أفعال الإنسان: هل الله هو الذي يخلقها ويريدها ويختارها له ويقدّرها عليه، أم أن هذا الإنسان هو الذي يخلقها ويريدها ويختارها بنفسه لنفسه، باعتباره ذا إرادة حرة قادرة على الفعل والاختيار؟ هكذا ظهرت، ومنذ أواخر العهد الراشدي، فرقة القدرية التي تنفي قدَر الله، وتعترف للإنسان بالقدرة على الفعل والاختيار. كما ظهرت الفرقة المخالفة لها، وهي الجبرية، التي تقول بأن كل ما يقوم به الإنسان من أفعال هو مجبر عليها ولا حرية له في اختيارها، لأن الله هو الذي يخلقها ويريدها له ويجبره على القيام بها.
وما يهمّ في التعارض بين الجبرية والقدرية، بخصوص علاقة الله بالإنسان، هو طبيعة قدرة الله: فإذا كانت أفعال الإنسان مْن خلْقه واختياره وإرادته الحرة، كما تذهب القدرية، فمعنى ذلك أن قدرة الله محدودة ومقيّدة، لأنها لا تشمل أفعال الإنسان. أما إذا كان الله هو الذي يخلق أفعال الإنسان ويكتبها له ويقدّرها عليه، كما تذهب الجبرية، فمعنى ذلك أن قدرة الله مطلقة، لا حدود لها ولا قيود عليها. وهكذا مثلا، حسب مذهب القدرية، إذا اختار شخص بمحض إرادته مخالطةَ مصابين بمرض “كورونا” فانتقل إليه المرض، يكون هو المتسبّب فيه والمسؤول عما أصابه من عدوى، ولا دخل لإرادة الله وقدرته في ما أصابه. أما مذهب الجبرية فيرى أن سبب انتقال العدوى إلى هذا الشخص ليس هو اختياره مخالطة المصابين بالمرض المعدي، وإنما يرجع ذلك إلى مشيئة الله الذي اختار أن يسلّط عليه ذلك المرض.
نفي مبدأ السببية:
هناك إذن، كما في المثال السابق، سبب (المخالطة) هو الذي يفسّر النتيجة (انتقال العدوى إلى من خالط المصابين بها). وهو إذن تفسير طبيعي وعلمي لا يترك مجالا لتدخل إرادة الله وقدرته. وهذا ما يرى فيه الجبريون حدّا من قدرة الله وإرادته. ولهذا رفضوا المذهب القدري وحاربوه. ثم سيأتي أبو حامد الغزالي، في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وسيطرح هذه المسألة على مستوى أوسع، يتجاوز علاقة الله بالإنسان وأفعاله، ليشمل علاقته بالكون والطبيعة وظواهرها. وهو ما حدا به إلى نفي وجود الأسباب التي يلجأ إليها البعض لتفسير ظواهر الطبيعية والكون. فحسب الغزالي، إذا كان لكل الظواهر أسباب تفسّر حدوثها، فلن تكون قدرة الله محدودة لا تشمل هذه الظواهر فحسب، بل قد نستغني عن الله بالمرّة لعدم الحاجة إليه، ما دام أن لظواهر مثل المطر، والاحتراق، والزلازل، والبراكين، وتعاقب الليل والنهار، والحركة، والسكون، والمرض، والوباء، والإنجاب، والموت، والفيضان، والجفاف…إلخ، أسبابا تفسّر حدوثها. وتلافيا لهذه النتيجة، التي قد نستغني فيها عن وجود الله لعدم الحاجة إليه، ينفي الغزالي مبدأ السببية، الذي يتأسّس، حسبه، على مجرد عادة ترسخّت لدينا من ملاحظتنا لاقتران ظاهرتين نعتبر الأولى سببا والثانية نتيجة لها، كما في حال اقتران احتراق الورق بتعرّضه للنار، وهو ما استخلصنا منه أن النار سبب احتراق الورق، في حين أن السبب الحقيقي والمباشر للاحتراق، حسب الغزالي، هو الله وليس النار.
نفي السببية وبداية عصر الانحطاط:
رغم أن الميكروفيزيا (فيزياء الأشياء الصغيرة جدا) الحديثة، وخصوصا الفيزياء الكوانطية physique quantique، قد أعادت صياغة مفهوم السبب بشكل يختلف فيه عن مفهوم السبب في الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء نيوتن)، إلا أن ذلك لم يُتقص شيئا من دور السببية كأحد شروط قيام المعرفة العلمية، بل أكّد أن نفيها هو نفي للشرط الواقف لهذه المعرفة، والتي هي معرفة بالأسباب. فبدون اعتماد مبدأ السببية لا يمكن أن يكون هناك علم ولا فهم سليم للطبيعة وظواهرها. ولهذا فإن نفي الغزالي لمبدأ السببية كان إيذانا بدخول المسلمين عصر الانحطاط والتخلّف، والذي لم يخرجوا منه بعدُ، وتدشينا لهيمنة التفكير الغيبي والخرافي، وترخيصا شرعيا لسلطة الجهل المقدّس (سلطة اليقينات التراثية ذات المصدر الخرافي والغيبي، والتي لا تجوز مناقشتها أو التشكيك فيها)، وتعطيلا لإعمال العقل لتفسير الظواهر بمعرفة أسبابها الطبيعية، وهو ما استحال معه أن تنشأ وتتطوّر العلوم الطبيعية التجريبية عند المسلمين.
ولا يرجع هذا الانتصار للتفكير الخرافي والجهل المقدّس على التفكير العقلي والعلمي إلى مكانة الغزالي وتأثيره الكبير على الفكر الإسلامي فحسب، بل يرجع إلى تبنّي الحكام لهذا التفكير الخرافي والجهل المقدّس والتشجيع عليهما، والعمل على نشرهما وترويجهما، لأنهم كانوا يرون في الحدّ من تدخّل الله في الطبيعة وفي سلوك الإنسان، إعمالا لمبدأ السببية ولأفكار المذهب القدري، حدّا من سلطانهم واستبدادهم. ولهذا قتل الحكام الأمويون معبدا الجهني وغيلان الدمشقي، اللذيْن كانا من مؤسسي المذهب القدري المدافع عن حرية الإنسان، وشجّعوا على نشر الفكر الجبري لأنه يبرئ الحكام من مسؤولياتهم عما يرتكبونه من مظالم ويقترفونه من معاصٍ وآثام، ويردّ تلك الأفعال إلى الله الذي أراد أن يفعل الحكام ما فعلوه دون أن تكون لهم حرية الاختيار بين الفعل أو الامتناع عن الفعل.
وهكذا كانت السياسة دائما هي التي تستعمل الإسلام لصالحها، وتؤوّله بما يخدم جوْر الحكام واستبدادهم. فكان من الطبيعي أن يحظى الفهم المحافظ والمتخلّف للإسلام بالتشجيع والانتشار، ويُحاصر الفهم العقلاني الذي يعترف بحرية الإنسان ويقرّ بالسببية لتفسير ظواهر الطبيعة. ولهذا ساد الجهل المقدّس وانتصر المذهب الجبري والتفكير اللاعقلاني، القائم على نفي وجود الأسباب التي تفسّر حدوث الظواهر. فأصبحت أفكار الغزالي المنكِرة للسببية بمثابة اكتشاف عبقري فذّ، وغدَت كتبُه، المناهضة للفلسفة والعقل والمنطق، مرجعا في الجهل المقدّس المستند إلى الدين. وفي المقابل ستُحرق كتب ابن رشد (520 ـ 595 هـ) ذات المضمون العقلاني، وتُبخس أفكاره النيّرة التي ستجد من يحتضنها ويدرك قيمتها في أوريا المسيحية.
أسئلة الغزالي سيطرحها المسيحيون كذلك:
وعلى ذكر أوروبا المسيحية، يجدر التذكير أنها عرفت، هي كذلك، طيلة القرون الوسطى، وبشكل يفوق ما عرفه المسلمون، انتشارا واسعا للفكر الخرافي المستند لتأويل محافظ ومتخلّف للدين، خدمة للسلطة السياسة للحكّام الإقطاعيين. وكان إذا تعارضت الحقائق العقلانية والعلمية مع المسلمات الدينية المخالفة للعقل والعلم، استُبعدت الأولى بدعوى أنها مخالفة لما تقرّره العقيدة المسيحية، واعتُمدت الثانية باعتبارها حقائق مطابقة لما هو مسطّر في الأناجيل، كما كان الأمر عند المسلمين، كما رأينا في مسألة الجبرية والقدرية ومبدأ السببية.
وبخصوص مبدأ السببية، سيخلص الفكر الفلسفي المسيحي، لفترة ما بين عصر النهضة حتى نهاية القرن الثامن عشر، إلى نفس النتيجة التي سبق أن وصل إليها الغزالي: إذا كانت الظواهر تنتج عن أسباب طبيعية، فقد يؤدّي ذلك إلى الاستغناء نهائيا عن الله ما دام أن كل شيء يمكن تفسيره دون حاجة إلى الله. وإذا كان الغزالي قد توقّف عند هذه النتيجة، التي استند إليها لنفي مبدأ السببية حفاظا على وجود الله وقدرته المطلقة، فإن المفكرين المسيحيين، للفترة المشار إليها، سيلجؤون إلى استحضار النتيجة الأخرى، التي تجاهلها الغزالي، والتي يتضمنها نفي مبدأ السببية بإرجاع كل ما يحدث إلى إرادة الله: إذا كان كل ما يحصل من ظواهر في الطبيعة هو من فعل الله وتدخله المباشر في إحداثها، فلن يكون هناك أي إمكان لقيام معرفة بالطبيعة وظواهرها، إذ المعرفة تقتضي العلم بالأسباب. لكن في هذه الحالة، التي يفسّر فها كل شيء بإرجاعه إلى الله كسبب له، فلن تكون هناك حاجة إلى معرفة الأسباب، فضلا على أن هذه المعرفة تكون غير ممكنة، كما سبقت الإشارة. إذا كان الغزالي قد ضحّى بالعلم بالأسباب من أجل الإيمان بالله كسبب لكل شيء، فإن الفكر الفلسفي المسيحي، لهذه الفترة، سيعمل على إنقاذ الإيمان بالله وإنقاذ المعرفة بالأسباب، أي المعرفة العلمية بالطبيعة وظواهرها. كيف نجح في ذلك؟
كيف نجح المسيحيون في اعتماد العقل لفهم الطبيعة؟
التوفيق بين الإيمان بوجود إله هو خالق هذا الكون، وبين الإيمان في نفس الوقت بقدرة الإنسان على فك ألغاز الطبيعة ومعرفة أسباب ظواهرها واكتشاف القوانين التي تحكم هذه الظواهر، كان يقتضي، كحل وحيد لهذه المعادلة، الإقرار أن الله عندما خلق الكون خلق معه القوانين التي يسير وفقها، بحيث إن كل ظاهرة تحدث في هذا الكون تكون ناتجة عن علاقات سببية تدخل في إطار القانون الذي يحكم حدوث تلك الظاهرة ويفسّره. فالله ليس حاضرا كفاعل مباشر في إحداث تلك الظاهرة، وإنما هو حاضر من خلال القوانين التي خلقها، والتي تؤدّي بالضرورة، أي عبر العلاقة السببية، إلى حدوث تلك الظاهرة. وهو ما يسمح لنا أن نفسّر ذلك الحدوث بمعرفة سببه الطبيعي واكتشاف القانون الذي يتحكّم في ذلك الحدوث كنتيجة ضرورية لذلك السبب. والمثال التوضيحي لعلاقة الله بالكون من خلال خلقه للقوانين التي يخضع لها هذا الكون، وبشكل ضروري، هو جهاز الساعة التي تتحرّك عقاربها. فصانع الساعة ليس “ساكنا” داخلها يحرّكها باستمرار (وهو ما ينطبق على نظرية الغزالي)، وإنما عندما صنعها صنع كذلك القانون الذي تتحرّك وفقه عقاربُها بشكل ذاتي مستقل عن صانعها نفسه. الكون كذلك، بكل ظواهره وعناصره، “يشتغل” طبقا للقوانين التي خلقها الله، وبشكل ذاتي مستقل عن تدخّل الله، تماما مثل حركة الساعة المستقلة (الحركة) عن صانع نفس الساعة.
في هذا الاتجاه الذي يجمع بين الإيمان بالله، والإيمان بوجود أسباب وقوانين تحكم الظواهر الطبيعية، والإيمان بقدرة الإنسان على فهم هذه الأسباب والقوانين وتفسير هذه الظواهر في استقلال عن الدين، سار الفكر الفلسفي، ذو المرجعية المسيحية، منذ عصر النهضة الأوروبية. وهو ـ عكس ما فعله المفكرون الإسلاميون الذين ضحّوا بالمعرفة بالأسباب من أجل الجبر والقضاء والقدر ـ ما أنقذ الدين والعلم، والإيمان والعقل دون التضحية بأحدهما من أجل الثاني. وهذا ما يفسّر أن العديد من الاكتشافات العلمية، منذ عصر النهضة حتى القرن العشرين، ظهرت داخل الأديرة والكنائس على رجال دين مسيحيين، مثل “كوبرنيك” Copernic (1473 ـ 1543) و”جيوردانو برونو” Giordano Bruno (1548 ـ 1600) و”جاليلي” Galileo Galilei (1564 ـ 1642) في علم الفلك، و”كريكور منديل” Gregor Mendel (1822 ـ 1884) في علم الوراثة، و”جورج لوميتر” Georges Lemaître (1894 ـ 1966) صاحب نظرية “الانفجار الأكبر” Big Bang وتمدّد الكون…
كيف نفسّر أن هؤلاء جاؤوا بنظريات متعارضة مع تعاليم المسيحية التي يؤمنون بها هم أنفسهم؟ الجواب هو أنهم استطاعوا الفصل بين مجال الدين، كإيمان واعتقاد وعبادة، وبين العلم كمجال للبحث في أسباب الظواهر لاكتشاف القوانين التي تحكمها. أما عند المسلمين فمن الصعب الفصل بين المجالين لأن العلم عندهم، كما كان الأمر كذلك عند المسيحيين في القرون الوسطى، يجب أن يكون تابعا للدين وموافقا لأحكامه، وإلا فهو مرفوض. ولهذا نجد عند المسيحيين، وكذلك البوذيين، الكثير من المعتقدات الخرافية والغيبية ذات المصدر الديني، قد تفوق ما نجده عند المسلمين كما سبقت الإشارة، دون أن يكون لها تأثير على إنتاجهم للمعرفة العلمية، لأن هذه الأخيرة مستقلة عندهم عن الدين، كما شرحت. أما عند المسلمين فالفكر الخرافي والغيبي يعدّ من عوائق انتشار الفكر العقلاني والعلمي، لأن العقل والعلم، عندهم، يجب أن يكونا في خدمة الدين وخاضعيْن لحقائقه ومسلّماته، كما أوضحت.
من جهة أخرى، إذا كان الجانب الخرافي واللاعقلاني في الدين يطغى على جانبه التنويري لدى المسلمين، فدلك لأن السلطة السياسية، ومنذ الأمويين، تشجّع على نشر وانتشار هذا التفكير الخرافي واللاعقلاني، لأنه يشكّل إحدى الوسائل الإيديولوجية التي تعتمد عليها الأنظمة الاستبدادية لممارسة استبدادها واحتكارها للحكم. فأخطر ما يهدّد هذه الأنظمة الاستبدادية هو انتشار الفكر العلمي والعقلاني. ولهذا إذا كانت هذه الأنظمة تقبل باستعمال منتوجات الفكر العلمي والعقلاني المستوردة، إلا أنها ترفض العقل المنتج لها.
الإسلام كما يفهمه ويمارسه المسلمون:
أما الاعتراض أن الإسلام يدعو إلى إعمال العقل وتأمّل الظواهر لفهمها، فهو اعتراض خارج الموضوع. لماذا؟ لأنني لا أناقش هنا موقف الإسلام من العقل والعلم والمعرفة بالأسباب، وإنما أناقش موقف المسلمين، أي الإسلام كما يفهمه ويمارسه المسلمون. ونفس الشيء في ما يخص المسيحية: لقد كانت دينا موغلا، أكثر بكثير من الإسلام، في الخرافة ومعاداة العقل والعلم، عندما كان المسيحيون يحرقون العلماء ويكفّرونهم ويحاكمونهم. ثم تحوّلت إلى دين لا يخاصم العقل والعلم عندما أصبح المسيحيون يفصلون بين مجال الدين ومجال العلم، حيث لا رقابة لليقينات الدينية على حقائق العلم، مما كان سيحول ـ لو استمرت هذه الرقابة ـ دون قيام معرفة عليمة بنتائج متعارضة مع تلك اليقينات الدينية، كما عند المسلمين، ولا رقابة لحقائق العلم على المسلمات الدينية، مما كان سيلغي الدين باعتبار حقائقه غير علمية.
هذا الفصل بين مجال الدين ومجال العلم هو ما يجعل استمرار حضور الخرافة مثلا لدى المسيحيين، وممارستهم للصلاة والتضرّع إلى الله لرد البلاء والوباء، لا يؤثر على العلم والمعرفة بالأسباب كمجال مستقل عن الدين، وما يرتبط به من ممارسات وشعائر ومعتقدات. وهكذا كان “جورج لوميتر” مثلا، كمؤمن مسيحي، يصلّي ويتضرّع إلى الله في أوقات العبادة. لكن عندما كان يراقب الأجرام السماوية، كان يفعل ذلك كعالم ملتزم بالمنهجي العلمي، في استقلال تام عن الصلاة والضراعة، والإيمان والتقوى. أما المؤمن المسلم، فمن الصعب أن يكون عالما فلكيا على شاكلة “لوميتر”، المؤمن المسيحي، ذلك أن هذا العالم المسلم، إذا تهيأت له مراقبة الأجرام السماوية بـ “تلسكوب”، فالغالب أنه بمجرد ما يشاهد أشكالها سيربط ذلك بعظمة الله وقدرته، وليس بالقوانين الموضوعية التي كشف عنها علم الفلك، خالطا بذلك بين مجال العلم ومجال الإيمان، مما يجعله يفسّر ظاهرة طبيعية، لها أسبابها وقوانينها، بمعتقده الديني الإسلامي.
هيمنة ثقافة الجبر والقضاء والقدر:
نخلص من هذه المناقشة إلى أنه من غير الممكن للمسلمين، في ظروفهم المعرفية الحالية التي تتسم بسيادة الجهل المقدّس، أن ينتجوا معرفة علمية مع ما تثمره من تقنية وتكنولوجيا، ما داموا يُخضعون العلم، الذي يقوم على المعرفة بالأسباب، للدين الذي يرى أن سبب كل شيء هو الله. هذا الاعتقاد في سببية إلهية مطلقة تشمل الظواهر الطبيعية والإنسانية، كجزء من إيمان الإنسان المسلم، تتعارض مع البحث عن الأسباب الطبيعية للظواهر الطبيعية، والذي هو شرط لقيام معرفة علمية.
خطورة ردّ كل ما يحدث إلى سببية إلهية، لا يتجلّى بالضرورة في غياب إنتاجات علمية هامة لدى المسلمين، بل يتجلى في هيمنة ثقافة الجبر والقضاء والقدر، في تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية على السواء، والتي تحول دون تكوين فكر علمي وعقلاني قادر على فهم الطبيعة من أجل تسخيرها واستعمالها. ولقد رأينا الصعوبة التي واجهتها السلطات لفرض احترام تدابير الحِجر الصحي لمواجهة وباء فيروس “كورونا”، بعد أن تحدّى العديد من المواطنين هذه التدابير، ليس حبا وطلبا للحرية كما فعل بعض الأوروبيين الذين لم يلتزموا هم كذلك بنفس الحِجر الصحي، وإنما انطلاقا من قناعتهم الدينية أن هذا الوباء هو قضاء من الله، وأن وقفه لن يكون إلا بمشيئة الله التي لا ينفع معها حِجر ولا إعلان حالة طوارئ. وهذا ما جعل مجموعة من المتهوّرين يخرقون، استجابة لنداء سلفيين ومتاجرين بالدين، قرار الحِجر الصحي، ويخرجون، ليلة السبت الأحد 21ـ22 مارس 2020، بطنجة وتطوان وفاس وسلا، مردّدين جماعةً: “الله أكبر”، مستعرضين بكل سفه ووقاحة جهلهم المقدّس، موجّهين بذلك رسالة واضحة إلى السلطات يعبرون من خلالها عن رفضهم للإجراءات التي اتخذتها بخصوص الحِجر الصحي باعتبارها، بالنسبة لهم، تحدّيا لإرادة الله وتمردا على قضائه واختياره.
مسؤولية الدولة ابتداءً وانتهاءً:
لماذا لم يستطع المسلمون أن يتجاوزا، كما فعل المسيحيون، الاعتماد على الجهل المقدّس، المستند إلى فهم متخلّف للدين والتراث، لتفسير الطبيعة وظواهرها، ويفصلوا، كما نجح في ذلك المسيحيون، بين مجال الدين ومجال التفسير السببي للطبيعة وظواهرها؟ لأن الدولة، في المجتمعات المسلمة، كما سبقت الإشارة، هي التي تحافظ على هذا الجهل المقدّس، وترعاه وتعمل على نشره وانتشاره لحاجتها إليه كعامل للضبط الفكري والإيديولوجي والسياسي. ولهذا لا يمكن انتظار حدوث تغيير في نظرة المسلمين إلى الظواهر الطبيعية كمعطيات موضوعية مستقلة، في أسبابها وقوانينها، عن الإيمان والدين، وقابلة بالتالي للمعرفة العلمية بنتائج قد تتعارض مع نظرة الدين إلى هذه الظواهر، إلا إذا قررت الدولة ذلك ورغبت فيه. فتبدأ، لتحقيق ذلك، بإصلاح البرامج التعليمية وإعادة النظر في طريقة تدبيرها للدين واستعمالها السياسي له. وهذا يقتضي أن هذه الدولة سوف تنتقل إلى الممارسة الديموقراطية للحكم، وهو ما لا تحتاج معه إلى الجهل المقدّس الذي كان دعامة لحكمها الديكتاتوري والاستبدادي.
نلاحظ إذن كيف أن الدولة حاضرة بقوة، سواء عندما يكون حكمها استبداديا فتستعين بالجهل المقدّس، أو عندما يكون ديموقراطيا فتحتاج إلى العقلانية والتخطيط العلمي والمنطقي في التسيير والتدبير.