وعصر الدجالين الذين يقلبون الحقائق ويزيفون المعطيات سواء تعلق الأمر بفئة الأقوياء الأغنياء أم بطبقة الضعفاء الفقراء ومن ينطق باسمهم من أشباه المثقفين الذين يعتبرون الثقافة وسادة عريضة ينيخون عليها برؤوسهم المثقلة بهموم المناصب والمكاسب.

في الحالة الأولى، وكما عرض لها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في مجموعة من كتاباته كالعقل والحرية Raison et Liberté وصناعة الرضا La fabrication du consentement، تتحرك الآلة الدعائية الضخمة للشركات العملاقة ومافيا المال والأعمال التي تسيطر على السياسة والسياسيين لتبتلع آخر ما تبقى من العقلانية والفكر العقلاني وتتلاعب بالعقول للتحكم في الإنسان والإنسانية وتسخيرهما لهدف واحد ووحيد :

الاستهلاك بغباء وفي شقاء لينعم بالمقابل المترفون من أرباب الشركات بالسعادة والرخاء.

الخطير في هذه العملية هو السلاح الذي تلجأ إليه هذه الماكينة المتوحشة والمفترسة للطبيعة والإنسان. انه سلاح اللغة.

فعلى مسمع ومرأى من الجميع، يتم بكل صلافة ووقاحة تدمير اللغة الإنسانية بتدمير العلاقة التاريخية التي تربط بين اللفظ والمعنى، أو بتعبير اللسانيات الفرنسية ما بين le signifiant et le signifié أي المبنى والمعنى.

وهكذا أصبحت المفردات بلا معنى أو أنها قد تعني كل شيء ولا شيء أو أنها تحمل المعنى ونقيضه في نفس الآن أو معنى جديدا لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد من الدلالة الأصلية للكلمة…ولنا أن نتصور حجم الاضطراب الذي ستخلقه هذه الفوضى اللغوية في أذهان المتلقين أو المتكلمين أو المتعلمين وخصوصا مع التراجع المستمر في مستويات الأنظمة التعليمية عبر العالم.

ويطلق اللسانيون على هذه الظاهرة، فساد اللغة Corruption du langage.

مثال على ذلك في المجال الاقتصادي أن يتحدث الليبرالي عن التوزيع العادل للثروة وعن المساواة والعدالة الاجتماعية…في قرصنة غريبة للمفاهيم الاشتراكية. أو أن يتقمص الحاكم المستبد دور الراعي لحقوق الإنسان كما في الرواية الشهيرة للكاتب الانجليزي جورج أرويل 1984…

باختصار، يتقمص الشيطان دور الملاك ليخفي سعير ناره بفكر الأنوار.

في الحالة الثانية، لا يسمي أشباه المثقفين الأسماء بمسمياتها خوفا وطمعا في المناصب والمكاسب كما هو الشأن في العالم الإسلامي والعربي الذي بلغت فيه سطوة الحكام ما يعجز العقل عن تصديقه أو تخيله.

وبما أن اللغة خادم مطيع ووفي، فقد استسلمت الكلمات بدورها لأنها تحتاج إلى جواز مرور،

واللفظة، كما أنشد الشاعر العربي نزار قباني…

اللفظة جسد مهترئ

ضاجعه الكاتب والصحفي

وضاجعه شيخ الجامع

اللفظة ابرة مورفين

يحقنها الحاكم للجمهور

منذ القرن السابع

وهكذا نقصف صباح مساء ولعقود طويلة بنفس الكلمات الفارغة التي تهرب من المسؤولين ومسؤولياتهم في واقع الظلم والانحطاط الجاثم على صدورنا. لتتهم عالم الغيب تارة أو عالم الطلاسم المجردة تارة أخرى كما في حقب السحر والأساطير البائدة.

ففي المغرب مثلا…

ما معنى الدولة العميقة؟

وما معنى المخزن؟

وما معنى القصر؟

هل هي كائنات خرافية أم واقعية؟

وما المقصود بالثروة؟

ثروة المغاربة أم ثروة فئة من المغاربة؟

وأين هي هذه الثروة التي نسمع بها ولا نراها إلا في القنوات الأجنبية؟

والاستقرار؟ استقرار ماذا؟ ومن؟ وما هو بالضبط؟ استقرار المغاربة؟ أم استقرار فئة منهم؟ وهلم جرا…

تلاعب بالكلمات وضحك على الذقون إلى ما لا نهاية لا ينم إلا عن شيء واحد :

نهاية الشجاعة la fin du courage, Cynthia Fleury. شجاعة الكلمة كما بينت ذلك الفيلسوفة الفرنسية في العنوان المذكور..شجاعة تسمية الأسماء بمسمياتها دون لف أو دوران لسبب بسيط وهو أن الهروب من الاسم هروب من المسمى وأول طريق إلى الحقيقة هو أولا النطق بها ووضع النقاط على حروفها.