هل بإمكانِ المواطن الذي يعيش في دول العالم المتأخّر أن يعيش مُطمئن البال؟ أم أنه سيحتاج لا محالة إلى دفع الثمن كي يشتري قِسطا من الراحة، أو بعبارة أخرى هل يجب أن يدفع المال ليطمئن البال ويعيش في أمن وأمان.

على خلاف المواطن في الدول المتقدمة الذي يرافقه الأمن أينما حل وارتحل، تجد المواطن في العالم الثالث لا يُعوّل كثيرا على ما يُقدمه مسؤولو الأمن لديهم. ربما أن القائمين عليه لديهم ما يبرر ذلك، أو ربما أن العنف و وحشية المجرمين واللصوص فاقت الإمكانيات والاحتياجات الأمنية، او ربما هي سياسة يُرادُ بها ذلك من أجل الاستثمار وترويج الأموال في شتى القطاعات السكنية والتعليمية والترفيهية والصحية، وإن كان كذلك، فوجب التأكيد على أن هذه الدول تعيش في أسوء زمان وأسوء مكان، وعلى المواطن أن يأخذ حذره ويجعل من نفسه ممثلا عن كل القطاعات وعلى رأس كل الوزارات و أيُّ خدمة جاءت من الحكومات فهي بمثابة عَطيّة وفضل تتطلب شكر ودعاء في الصبح والمساء.

ما يقع اليوم من انفلات أمني من اغتصاب وعنف و أحيانا قتل في الشوارع، في المؤسسات، في الأحياء والزقاق يطرح أكثر من سؤال، رغم النداءات الكثيرة من جمعيات ومنظمات حقوقية وغيرها…في التحسيس بخطورة الأمر ودعوة الحكومات إلى التدخل العاجل، لكن هذا كله لم يزعزع هذا الكابوس المخيف لدى المواطنين المتمثل في انعدام الأمن، بل و يزداد من حدته سنة بعد سنة. وإن أراد أحد أن يعُدّ الحالات اليومية لأُصيب بالذعر من هول الكثرة.

هذا الخوف الذي حلّ بهذه الدول ـ الذي ربما كان مقصودا وأتمنى ألا يكون كذلك ـ أصبح تجارة تُدِرُّ أرباحا لدى مجموعة من أصحاب الأموال، بحيث أصبح المواطن مجُبر على دفع أموال باهظة مقابل البحث عن قليل من الأمن، كلما دفعتَ أكثر كلما اشتريتَ الأمن أكثر.

من المعروف مثلا أن الوحدات السكنية الاقتصادية والاجتماعية التي يتكدس فيها أصحاب الدخل المحدود والطبقات الهشة في هذه الدول تعيش نوعا من الإرهاق، ليس بسبب مساحة الشقق ولا دونية المرافق ولا طريقة البناء الحاط بالكرامة الآدمية، ولكن بالإجرام والسرقة الذي يقع في جنح الظلام وأحيانا في واضحة النهار، ناهيك عن المخدرات والخمور والدعارة، ولا أريد أن أسمي بعض الأحياء حتى لا أثير حفيظة البعض والمقام لا يسمح بذكرها.  فإذن ما العمل في ظل هذا الوضع الموبوء في هكذا سكن؟ سيلجأ كثير من الناس إلى الهروب إلى مكان اكثر أمن وأمان وأغلى ثمن، وبالتالي خوفه جعله يلجأ إلى المنعشين العقاريين ليشتري سكنا بثمن مضاعف رغم فقره وقلة حيلته. ولو أنه وجد في السكن الاقتصادي أمنا لذهب إليه رغم ضيق مساحته.

الوضع في المدارس العمومية لا يقل أهمية عما نتحدث عنه، فقد أصبحت سمعة هذه المدارس سيئة ومشوهة، لا يذهب إليها إلا من لا يجد بديلا عن ذلك. فهي في نظر كثير من الناس مدرسة الفقراء والمحتاجين من الطبقات الهشة الذين يلدون أكثر ويُربّون أقل، والأطر التربوية لا يهتمون كثيرا بتربية التلاميذ ولا يراقبونهم أو يسألون عنهم لحظة غيابهم، فتجد العنف والتسيّب والكلام الساقط وهلم….وهذا ما يدفع كثير من الآباء ممن يبحث عن الأمن والأمان لأبنائهم أن يتّجه إلى المدارس الخصوصية فيُسدد ثمنا باهظا من أجل ذلك.. فيشجع عدد كبير من أصحاب الأموال ورجال الأعمال ـ الذين لا يفهمون من التربية والتكوين إلا الحيطان المزركشة والألوان البرّاقة الساطعة ـ إلى بناء المدارس وإجبار الآباء إلى دفع الأموال خوفا من هذا الواقع في أوساط المؤسسات العمومية. وهذا الواقع قد لا يكون كذلك كما يروّج له البعض لكن صانعوا هذا الواقع يملكون القرار ويملكون الإعلام لتسويقه فيفعلون ما يشاءون في عقول الناس.

أما قضية المستشفيات العمومية فقد أزكمت رائحتها الأنوف، بحيث لا تجد هناك استثناء رغم الشكاوى والإضرابات المتكررة والميزانيات الضخمة التي تُضخُّ من أجله. تردّي هذا القطاع الحيوي وخُلوّه من جميع  الخدمات الطبية جعلتْ منهُ قبلة فقط لأصحاب الجيوب الفارغة الذين لم يجدوا بُدّا من التوجه إليه حاملين بعض أسماء الأطر التي تشتغل هناك من اجل الوساطة. لا يمكن للمريض أن يتوجه إلى هذه المستشفيات وهو مطمئن البال لأنه يعلم أنه سيبقى عُرضة إلى الإهمال لا قدّر الله.

لا نغفل في حديثنا هذا مسألة النقل العمومي كذلك التي أصبحت جد مخيفة خاصة الحافلات في وسط المدار الحضري،

نلخصها إجمالا أنها في الحضيض من حيث تكديس العشرات من المواطنين داخل شبه حافلات مهترئة، وفوق طاقتها الاستيعابية، في مجملها تصبح معها أرواح المواطنين أرخص من ذبابة، ولعل الحوادث اليومية والمأساوية خير دليل على ذلك، ناهيك عن بعض السلوكيات المشينة التي تستفيد من هذا الواقع لتطفو على السطح (السرقة، التحرش الجنسي)

أما محطات المسافرين فأضحت قبلة للمتسكعين والمتسولين والمجانين، اضطرّ إلى إثرها كثير من المواطنين المغلوبين باستئجار سيارات الاجرة عوض الركوب في الحافلات العمومية التي يتعرض إليها الشخص بمضايقات متنوعة الأهداف والأغراض. إنه الخوف إذن الذي يدفع كثير من الركاب إلى اختيار الأغلى عوض الأرخص، ومن الناس من يذهب إلى أكثر من ذلك فيتوجه إلى القرض ليشتري سيارة ليساهم في اغتناء البنوك وأصحاب الأموال، ويتحقق المثل ” مصائب قوم عنذ قوم فوائد”

وأخيرا أختم بما يتعلق بالترفيه والتنزه العمومي داخل المساحات الخضراء التي بدورها تعرف إهمالا شديدا وتفتقد إلى كل المواصفات لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، فالإضافة إلى انها قليلة جدا فإن الموجود منها لا يحمل صفات الحدائق العامة . هذا ما يشجع كل متسكع ومتشرد ومجنون وسارق مستغلين بذلك تدني الخدمات الأمنية من حراسة وكهرباء، ظُلمتها وقلة أمنها ترفع من درجة وقوع المخالفات وتسبب في عزوف كثير من الأسر لارتيادها، والذين يفضلون على مضض النوادي الخاصة المدفوعة الثمن خوفا من المآلات المأساوية التى قد تقع لا قدّر الله في الحدائق العامة.

من المستفيد من هذا كله؟ هم من يتاجرون في خوف الناس وهلع الناس بُغية الأرباح، ومما يزيد الطين بلّة تلك السياسات العمياء التي ينتهجونها والديكتاتوريات التي يصنعونها رجال السياسة في غياب تام لأي محاسبة أو حتى معالجة ممكنة ، والخاسر الأكبر ذلك المواطن البسيط الذي يبحث عن السراب ولم يجده في أرض الله التي يسكنها عرب العالم الثالث. الله غالب.