عبارة “آسف” ليست جديدة ولا طارئة على قاموس الكوريين الجنوبيين ولا هي عبارة نادرة مرتبطة بأزمات تهز، من حين لآخر، الساحة المحلية أو الإقليمية. كلمة “آسف”، على العكس من ذلك، تختزل سلوكا نابعا من ثقافة ما يصطلح عليه هنا بـ “مسؤولية الخطأ”.

منذ مطلع سنة 2015، والكوريون الجنوبيون يتابعون صور وشهادات أكثر من ست شخصيات مؤثرة وهي تقدم اعتذاراتها. “آسف”، قالتها رئيسة البلاد بسبب عدم قدرتها على احتواء فيروس “كورونا” الذي أودى بحياة 32 شخصا. أياما بعدها رددها أقرب مسؤول في محيطها، رئيس الوزراء الأسبق “لي وان كو”، عند تورطه في قضية هي الاكبر منذ حادث غرق الباخرة “سوول” التي ذهب ضحيتها أكثر من 350 طالبا كوريا. تلقى السياسي أموالا من رجل الأعمال الشهير “سونغ وان جونغ”، كتب عبارات الندم وقرأها  مباشرة على أمواج الإذاعة والتلفزيون فيما اختار رجل الأعمال الانتحار.

في الاعتقاد العام هنا، الانتحار مسح للخزي والعار، هو شكل من أشكال الاعتذار. لم يكن اسم رئيس الوزراء الاسبق الوحيد على اللائحة. قبل ان يضع رجل الاعمال حدا لحياته نشر قائمة بأسماء كل المتورطين، أغلبهم شخصيات نافذة معروفة بقربها من المحيط الرئاسي. بعيدا عن أسوار “البيت الأزرق” (القصر الرئاسي مركز القرار) قضية أخرى هزت الرأي العام هذه السنة. تفاجأ الكوريون مطلع الشهر الماضي بواحدة من اشهر الروائيات في الساحة الوطنية وهي تردد عبارة “آسف”.  الكاتبة “شين كيونغ سوك” اعترفت بسرقتها الأدبية لرواية مؤلف ياباني تعود لمطلع الستينات عنوانها “الوطنية “. 

في وطني البعيد، لم ينحن مسؤول سياسي معتذرا. لم يكتب رئيس حكومة خطابا دون أن يردد مرات عدة كلمة “لكن”. لم يعتذر كاتب عن سرقة أدبية على نحو صريح. في وطني البعيد، ترتكب الجرائم ولا يعتذر مرتكبوها.

توالت صور الاعتذار في مشاهد تكاد تكون متشابهة، تقف الرئيسة كالكاتبة كرئيس الوزراء… كل واحد من هؤلاء يقف بلباس بسيط وفي فضاء بارد الألوان أمام حشد من الصحفيين، ينحني المخطئ مرات عديدة مرددا كلمة “آسف” يسبقها خطاب يخلو من عبارة “لكن”، فلا مجال لالتماس الأعذار. هو اعتذار صرف يوجه للأمة ويذاع هنا وهناك، ويتصدر الصفحات الأولى من الصحف والعناوين الرئيسية للنشرات الإخبارية. اجل، في أكثر ديمقراطيات آسيا الشرقية حداثة، ليس كل شيء على ما يرام. قد تكون كوريا الجنوبية نموذجا اقتصاديا باحتلالها المرتبة 14 في ترتيب القوى الاقتصادية عالميا. قد توصف بالمعجزة لاعتمادها على عنصرها البشري فقط لتحقيق تقدم استثنائي في وقت وجيز وفي سياق إقليمي متوتر، لكن دولتها تعيش على إيقاع أزمة تدبير وحكامة منذ فترة. أزمة، من أهم تجلياتها تزايد الفوارق الاجتماعية وتنامي قضايا الفساد. حسب استطلاع للرأي نشر قبل أشهر، فإن 72% من الكوريين الجنوبيين لا يؤمنون اليوم بنزاهة العمل السياسي.  كثيرون لا يرون في طقس الاعتذار، إذن، سوى اجترار لتقليد ، لكن جيل التأسيس يرى فيه خطوة مهمةً لإحقاق العدالة وتصويب الخطأ وربما شيئا من تلك المبادئ والقيم التي تأسست عليها كوريا الجنوبية قبل ثلاثة عقود والتي بدأت تبتعد عنها شيئا فشيئا. 

لندع جميع القراءات العميقة لوظيفة الدولة ومعنى السلطة جانبا، هذه القراءات التي لا تقول صراحة ان هناك شيئا من الغبطة في اعتراف مسؤول بخطئه. في طقس الاعتذار هذا تلخيص لبنية سليمة تستوعب التغيير. و هذا يعني ان كل شيء ممكن.

في وطني البعيد، لم ينحن مسؤول سياسي معتذرا. لم يكتب رئيس حكومة خطابا دون أن يردد مرات عدة كلمة “لكن”. لم يعتذر كاتب عن سرقة أدبية على نحو صريح. في وطني البعيد، ترتكب الجرائم ولا يعتذر مرتكبوها. قد تسجن الضحية ويوصف الجلاد بالمسؤول الخلوق. في بلد يأكله البؤس تتبدد معاني الاعتذار. وعندما تنهار قيم المسؤولية والمحاسبة يٌشطب على كلمة “آسف” بخط أحمر. وقبل ذلك وأثناءه وبعده، تطبيع مقزز مع صور الفساد ومرتكبيه. يحار المرء ما هو الأسوأ: فائض الفساد؟ أم التواطؤ معه؟ الحيرة هنا على صورة الوضع الذي رسا عليه المغرب. هنا رأيت ساسة يتداركون الأخطاء.  هناك رأيت ساسة بلا ضمير. ساسة يقتلون القيم بكلماتهم، رايتهم يفعلون.  كما رأيت اثر الكلمات هنا وهناك. كم سيتطلب لمشاهدة بث حي لمسؤول سياسي ينحني للمواطنين معتذرا؟ كم سيتطلب لرفع الالتباس عن نظام لا هو ديموقراطي ولا هو متسلط بالكامل؟ وهل يكفي كل ذلك لوقف مسار الانحدار الذي يسلكه المغرب؟  تراكم الأخطاء يقصر المهل…

الشمس ذاتها التي تشرق هنا تشرق هناك، أتساءل أحيانا… مفارقة سخيفة إذ لا مجال لمواصلة المقارنة… لكن دوام الحال من المحال… هكذا أردد باستمرار.

© حقوق النشر محفوظة لكم2. كوم(2015)