من يمثل الإسلام؟؟؟ تهافت العلام..
“ماذا يجب على الرعايا فعله إن جار عليهم حاكمهم؟”.. بهذا السؤال افتتح السيد عز الدين العلام، الأستاذا بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بمدينة المحمدية، مقالته التي عنونها ب”عن علاقة المحكوم بالحاكم في الإسلام. وبهذه الجملة أجاب: “ليس هناك جواب غير سيل من الأقوال والآيات والروايات والأحاديث والمأثورات تحث كلّها على تحمّل مضار السلطان الجائر وظلمه. “فإذا جار السلطان، فعليك الصبر وعليه الوزر” و”من خرج عن السلطان شبرا واحدا مات ميتة جاهلية” و”سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم”… الخ”..
آراء أخرى
هل فعلا لا وجود في الإسلام لمعارضة الحاكم والخروج عليه إن جار وظلم وتعسف؟ ما كان موقف الصحابة الكرام والتابعين، رضوان الله عليه، من الحاكم الجائر؟ ما كان ولا يزال موقف علماء المسلمين الربانيين العاملين من الحاكم الجائر؟ لماذا هذا الإصرار على كشف الوجه القبيح لأفعال ومواقف المسلمين بالإسلام؟
لا جواب غير تسويق إسلام الخمول والذلة والركون إلى الظلمة.
في القرآن الكريم، وهو كلام الله المنزه، الآيات التي تحض وتحرض ضد الظلم والظلمة وتحذر من الركون إليهم، لا عد لها ولا حصر، وأشد الأمثلة مواجهة أنبياء الله، عليهم السلام، للحكام الظلمة، وما بعثهم الله إلا ليصدوهم عن ظلم العباد وعن الجور والإفساد في الأرض.
يقول العلام: “”ليس من حق المحكومين “المؤمنين بالله”، تحت أي ذريعة كانت، إعلان ثورتهم على الحاكم “المؤمن بالله” طبعا. هذا هو موقف الغالبية العظمى من الفقهاء والأدباء الذين كتبوا عن المجال السياسي، وحجتهم درء الفتنة، والحيلولة دون تفرق كلمة الإسلام يتضمن تحريم “حق الثورة” على الحاكم الإسلامي “واجب الطاعة” الذي ذهب به فقهاء الإسلام إلى حد اعتباره “من أعظم الواجبات الدينية””!!!
من هم هؤلاء الذين سماهم العلام ب”فقهاء الإسلام” والأدباء الذين كتبوا عن المجال السياسي، معتبرا إياهم بالغالبية العظمى؟؟؟ ألا يوجد من فقهاء المسلمين من يقول بوجوب الخروج على الحاكم الظالم ومواجهته؟؟؟ وهل يمثل هؤلاء الإسلام ومواقف الإسلام؟؟؟
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) فشرط الطاعة بكون أولي الأمر منا. فإذا انحرفوا عن الدين وعن الصراط المستقيم، فليسوا منا ولسنا منهم.
ولا يكون أولي الأمر منا ونحن منهم إلا حين نختارهم طوعا لا كرها، عبر بيعة شرعية، لا بيعة إكراه وتوريث.
يعلمنا القرآن الكريم ويحذرنا تحذير تحريض ضد الظلمة. قال الله تعالى مخاطبا رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، وأمته من بعده: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ* وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
الاستقامة الجماعية كما أمر الله، مدخل أساسي لمواجهة الظلمة وعدم الركون إليهم، مجرد الركون! لأنه ذلك موجب للسقوط في النهار وموجب لسخط الله وخذلانه.
يوم دخل الصحابي الجليل، ربعي بن عامر رضي الله عنه، على قائد الفرس رستم، لخص لهم الموقف الواضح في بضع كلمات. قال له رضي الله عنه: “«الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».
الأديان جور والإسلام عدل. الإسلام أن تسلم وجهك لله وحده لا شريك له.
أخرج الإمام أحمد والشيخان عن عُبادة بن الصامت أنه حدَّث في مرضه قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنشَطِنَا ومَكْرَهِنَا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله (عند أحمد زيادة: نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم): «إلا أن تروا كفراً بَواحا عندكم من الله فيه برهان».
قال الحافظ ابن حَجر: «قال الخطابي: معنى قوله بَواحا يريد ظاهرا باديا، من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه وأظهره». وذكر رواية الطبراني وفيها «كفرا صُراحا». ورواية ابن حبان وفيها: «إلا أن يكون معصية لله بَواحا». ورواية أحمد من طريق جُنادة: «ما لم يأمروك بإثْمٍ بواحٍ». رواية إسماعيل ابن عبيد عند أحمد والطبراني والحاكم عن إسماعيل بن عبيد عن أبيه عن عُبادة: «سَيَلِي أمورَكم من بعدي رجالٌ يُعَرِّفونكم ما تُنكرون ويُنكرون ما تَعْرِفون. فلا طاعةَ لِمَنْ عصى الله». ورواية أبي بكر وابن شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة: «سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تُنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة».
هذه الأحاديث المرويات تلخص لنا أن:
* حديث الشيخين يجعل الطاعة واجبة ما لم يكن كفرا بواحا اهر باد.
* زيادة لإمام أحمد تجعل معارضة الحاكم واجبة إن خالف الحق. ولم يُذْكَرْ هنا كفرٌ ولا معصيةٌ.
*رواية ابن حبان تسقط الطاعة في حالة المعصية البواح يرتكبها الحاكم.
*رواي أحمد عن جنادة تسقطها إن أمر الحاكم الناس بإثم بواح.
أمرنا الله تعالى ورسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، بالسمع والطاعة لأولي الأمر، الذين اشترط أن يكونوا منا وأن يكونوا تولوا علينا بمشورة منا وبيعة شرعية لهم، من جهة ثانية جعل ديننا الحنيف الطاعة لهم في المنشط والمكره مقرونة بطاعتهم لله، فإن أظهروا عصيانا لله ولرسوله، لم يبقى لنا يد من طاعة لهم، بل يصبح عصيانهم والعمل عل إسقاطهم واجبا شرعيا.
روى أبو هلال العسكري في كتاب «الأوائل» أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما عزل سعداً بن أبي وقاص، بطلب من الرعية (أنظر بطلب من الرعية وبلسان العصر بطلب من الشعب) خطب فيهم فقال: «إني عزلت عنكم سعدا، فأخبروني: إذا كانَ الإمام عليكم يمنعكم حقوقَكم، ويُسيء صحبتَكم ماذا تصنعون؟» قالوا: «إن رأينا خيرا حمدنا الله، وإن رأينا شرّاً صبرنا». فقال عمر: «لا والله لا تكونون شهـداء في الأرض حتى تأخذوهم في الحق كأخذهم إياكم فيه، وتضربوهم على الحق كضربهم إياكم عليه. وإلا فلا !».
تحريض واضح من سيدنا عمر، رضي الله عنه، للأمة ضد الحكام الجائرين. تحريض يتماشى مع التربية القرآنية النبوية.
قال الله جلت عظمته: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}1. أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن غيرَ النسائي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤُهم فلم ينتهوا. فجالسوهم في مجالسهم-قال يزيد: أحسبـه قال: وأسواقهم- وواكَلوهم وشارَبوهم. فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ولعنهم على لسـان داود وعيسى بن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده !حتى تأطِروهُم على الحق أطرا»!. الحديث رواه الترمذي وحسنه.
وجاء عند عبد بن حميد حديث رواه عن معاذ بن جبل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رحى الإسلام ستدور، فحيثما دار القرآن فدوروا معه. يوشك السلطـان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا ! فإنه سيكون عليكم مُلوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره. فإن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: يا رسول الله ! فكيف بنا إن أدْرَكنا ذلك؟ قال : تكونون كأصحاب عيسى: نُشروا بالمناشير ورُفعوا على الخُشُب ! موتٌ في طاعة خير من حياة في معصيةٍ ! إن أول ما كان نَقَصَ في بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر شِبْهَ التعزير. فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آكَلَهُ وَشَارَبَهُ، كأنه لم يعب عليه شيئا. فلعنهم الله على لسان داود، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفسي بيده لتامُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُن عن المنكر أو ليسلطَن الله عليكم شِراركم، ثم ليَدعُوَنَّ خيارُكم فلا يستجاب لهم. والذي نفسي بيده لتامُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر ولتأخُذُنَّ على يد الظالم فلَتَأطِرُنَّه عليه أطرا أو ليضربن الله بعضكم ببعض».
بل تحذير حتى من مجالسة الظلمة الفسقة في مجالسهم ومشاركتهم الطعام والشراب، ويمكن أن نقول هنا: مقاطعة ولائم الظلمة وحفلاتهم، وأسواقهم، وهنا نجد الإشارة إلى مقاطعتهم اقتصاديا حتى يعزلوا عن الشعب وتشل حركتهم.
يعقب الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله: (ثم مقاطعة الظالمين: لا نواكلهم ولا نشاربهم ولا نجالسهم. وهذه هي الصيغة المثْلَى للقومة. فلو قدرنا أن نتجنب استعمال السلاح ضد الأنظمة الفاسدة، ونقاطعها حتى تشل حركتها، ويسقطَ سلطانُها، وترْذُلَ كلمتُها كما فعل إخواننا في إيران، لكان ذلك أشبهَ شيء بروح الإسلام الذي يوصي ألا تسفك دماء المسلمين بينهم)*.
*رجال القومة والإصلاح..
من رجالات القومة الأوائل والخروج على الظلمة الفسقة، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانه جده، الإمام الشهيد الحسين بن علي عليه السلام.
(كان عليه السلام ريحانةَ جده، وساعِدَ أبيه. شاركه في حروبه إلى جانب أخيه الحسن. فلما ولِيَ الحسنُ الإمامةَ بعد أبيه دخل في طاعته، وآزره، وحضر الشرط المشروط على معاوية عند الصلح. وبعد أنْ سَمُّوا الإمام الحسن بدأ اضطهـاد آل البيت. فقُتل أنصارُهم أمثالُ حُجْرِ بنِ عَدِيٍّ الصحابي. وقُطِعت أرزاقُ العَلَويِّينَ. وطُورِدُوا حين التفّوا حول الإمام الحسين بعد مقتل أخيه. فلما تولى يزيد بن معاوية الأمر عن بيعة كان فيها الإكراه، وانفتحت لِغِلْمة قريش أبوابٌ كان يُغلقها سِياسةُ مشايخهم من قبل. كان يزيد شابا لعوبا طائشا متهـورا. فلم يكن بُدّ من أن ينهض السبطُ الزكيُّ الطاهر لمقاومة الفاسق العِربيدِ.
أبى الإمام السبط أن يبايع يزيدا، فهاجر من المدينة إلى مكة. وإلى هناك كاتَبَهُ شيعة الكوفة، وواعدوه بالنُّصرة إن هو جاء إليهم. وكتب إلى الأتباع وعامة الناس هذا البيان الذي يحدد فيه موقفه وبرنامجه: «أما بعد فإني لم أخرج أشَراً ولا بَطَراً ولا مُفسدا ولا ظالما. وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وسلم. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرة جدي وأبي علِيٍّ بن أبي طالب. فمن قبِلني بقَبول الحق فالله أولى بالحق. ومن رد علي هذا أصْبِرْ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق. وهو خير الحاكمين».
ونهض الإمام إلى العراق بعد أن بعث ابن عمه مسلم بن عقيل ليمهد له الأمر. لكن العشائر التي كانت متحمسة له خذلته لَمّا رأت جيوش يزيد المجَيَّشة وبأْسَها. ووقعت كارثةُ كربلاءَ، وهي الخَرْم العظيم في تاريخنا، بأبي وأمي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم!).*
*رجال القومة والإصلاح..
من رجالات القومة أيضا نجد الإمام جعفر الصادق، الذي انصرف عن المقاومة المسلحة، وأقبل يربي العلماء والدعاة، ويعلمهم مقاطعة الظَّلَمَة.
(يقول عليه السلام: «من عذَرَ ظالما بظلمه سلط الله عليه من يظلمه. فإن دعا لم يستجب له، ولم يأْجُرْه الله على ظُلامَتِه. والعاملُ بالظلم والمعين له والراضي به شركاءُ ثلاثتهم».
كتب إليه أبو جعفر المنصور العباسي: «لِمَ لا تغشانا كما يَغشانا الناسُ؟» فكتب إليه الصادقُ: «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له. ولا أنت في نعمة فنهنئك. ولا تراها نقمة فنُعَزِّيَكَ». فكتب إليه: «تصحبُنا لتنصحَنا». فأجاب: «من أراد الدنيا لا ينصحُك، ومن أرادَ الآخرة لا يصحبك»).*
*رجال القومة والإصلاح..
نجد أيضا (الإمام زيد بن علي. أبوه هو الإمام زين العابدين. فهو عم الإمام الصادق. في أيامه وصلت دولة الجباية والقهر ذروةً من العتو، وسَفُلَتْ في الأخلاق آخرَ دَرَكَةٍ. فغضب زيد عليه السلام، وقام ضد هشام بن عبد الملك سنة 121، إذ لم ير غير السيف لغةً للخطاب، ولا سواه أسلوبا للتعامل مع الظالمين. اجتمع عليه خمسةَ عشر ألفَ مقاتل من الكوفة، سوى أهلِ البصرة وأمصار خراسان. وناصره الإمام أبو حنيفة وقد كان تتلمذ له.
كتب الإمام زيد إلى تلميذه أبي حنيفة يطلب إليه أن يفد عليه ليقاتل إلى جنبه. فأجاب أبو حنيفة: «لو علمت أن الناس لا يخذلونه، ويقومون معه قيام صدق، لكنت أتبعُه، وأجاهُد معه من خالفه، لأنه إمام حق. ولكني أخاف أن يخذلوه كما خذلوا أباه (يعني جده الحسين عليه السلام). لكني أعينه بمالي فيتقوَّى به على من خالفه».*
*رجال القومة والإصلاح..
من رجالات القومة نجد أيضا، الإمام محمد النفس الزكية، و(هو من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنهم. بايعه الزيدية والعباسيون قبل انتصار دعوتهم. فلما استولى بنو العباس على السلطان نكثوا دعوته. فاختفى هو وأخوه إبراهيم. ثم انحاز إلى الحجاز، وجمع حوله مائة ألف سيف، ثم زحف على أطراف البلاد. ففزع المنصور العباسيُّ وترك بغداد وذهب إلى الكوفة. فكان يقول: «والله لا أدري ما أنا فاعل !».
وجاءته أخبار سقوط البصرة وفارس والأهواز وواسط ومدائن وغيرها. فلبث المنصور شهرين لا يغيِّرُ لباسه، ولا يأوي إلى فراشه. ويجهز عُدَّتَه للفرار تحسبا لانتصار القائم من آل البيت. وقد كان النفـس الزكيـة آية من آيات الله في سمو النفس، وجمال الصورة، وحسن الأخلاق، وغزارة العلم، ومتانة الدين.
كان أبو حنيفة يحُثُّ الناس على الخروج مع إبراهيم أخي النفس الزكية. وأفتى بأن الخروج معه أفضل من الحج النّفل خمسين أو سبعين مرة. ونهى أبو حنيفة تلميذه أبا قحطبة -وكان قائدا من قواد جيش بني العباس- عن محاربة النفس الزكية. فكان مذهب أبي حنيفة في القومة أنها واجبة إذا كان القائم عدلا رِضىً وتوفرت له أسباب النصر.
قال الناس للإمام مالك لما قام الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية: «إن بيعة المنصور في رقابنا، فكيف نخلعها ونبايع غيره». فأفتى ببطلان بيعة العباسيين. وأعلن أنَّ بيعة المكره لا تجوز. فجلده والي المدينة جعفر بن سليمان وهُدَّتْ يده حتى انخلعت كتفه.
«خرج مع إبراهيم كثير من العلماء، منهم هشيم، وأبو خالد الأحمر، وعيسى بن يونس، وعبَّاد بن العوام، ويزيد بن هرون، وأبو حنيفة. وكان يجاهر في أمره ويحث الناس على الخروج معه، كما كان مالكٌ يحث الناس على الخروج مع أخيه محمد. وقال أبو إسحاق الفَزاري لأبي حنيفة: ما اتَّقيتَ الله حيث حثَثْتَ أخي على الخروج مع إبراهيم فقُتِل؟ فقال: إنه كما لو قتل يوم بدر ! وقال شُعبة: والله لَهيَ عندي بدرٌ الصغرى».
قال الشهرستاني: وكان أبو حنيفة رحمه الله على بيعته (يعني النفس الزكية)، ومن جملة شيعته، حتى رُفع الأمرُ إلى المنصور، فحبسه حبسَ الأبَد حتى مات في الحبس. وقيل إنه إنما بايع محمد ابن عبد الله الإمام (النفس الزكية) في أيام المنصور. ولما قتل محمد بالمدينة بقي الإمام أبو حنيفة على تلك البيعة يعتقد موالاة أهل البيت. فرُفِع حالُه للمنصور فتم عليه ما تم».
قتل الإمام الزكيُّ رحمه الله، واستُؤْصِلت مقاومةُ أخيه إبراهيمَ من بعده. لكن أئمَّتنا الفقهاء بقوا على وفائهم للقائمين بالحق. ففي سنة 189 حُمِلَ الإمامُ الشافعيُّ من الحجاز إلى هرون الرشيد مع قوم من العلوية بتهمة الطعن على الخليفة. فما نجا الشافعي من الموت بعد أنْ ضُرِبَت أعناقُ أصحابه إلا بتدخل قاضي القصر، وكان صديقاً للشافعيِّ. ولما خرج يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى، وهو قائم آخر من آل البيت، سنة 193 «بث دعاتَه في الأرض وبايعه كثيرون من أهل الحرمين واليمن ومصر والعراقين. وبايعه من العلماء محمد بن إدريس (الإمام) الشافعي، وعبد ربه بن علقمة، وسليمان بن جرير، وبشر بن المعتمر، والحسن بن صالح، وغيرهم»).*
*رجال القومة والإصلاح..
الخروج على يزيد بن معاوية لم يقتصر على الإمام الشهيد الحسين بن علي، عليه السلام، بل كان الخروج الاكبر حين خلعَ علماءُ المدينة يزيدَ بن معاوية سنةَ ثلاث وستين، فكان القمع الوحشيُّ المعروف في التاريخ بوقعة الحَرَّةِ. قُتِل فيها مَقْتَلَةٌ عظيمة من أبناء المهاجرين والأنصار الأُباة.
وكان الإمام مالك رضي الله عنه يجلس في مجالسه الحديثية ليحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ «ليس على مستكره طلاق». وسمع الناس مقالة الإمام فاستندوا إليها ليقيسوا بـيعة الـمُسْتَكَرَه على طَلاقِ المستكْرَه. وكان أبو جعفر المنصور العباسي ملك الوقت، فكان يرى في الحديث عن الاستكراه وبطلان عقوده خطرا. لا سيما وفي زمانه قام الإمام محمد بن عبد الله النفسُ الزكيَّةُ قومته المشهورة، واستدل أصحابُه على جواز خلع العباسيِّ بحديث الاستكراه. نهى أبو جعفر مالكا عن رواية ذلك الحديث فأبى. وأوذي الإمام وضرب حتى خلعت كتفاه. وكان قلبه مع القائم محمد النفس الزكية. فكان اجتهاده رضي الله عنه أن يَخْلَعَ الربقَةَ.
أمثلة القائمين من الفقهاء وعلماء المسلمين في وجه الظلمة الخارجين شرعا ضدهم كثيرة، بل تمثل المرجعية الأساسية للموقف الشرعي من الحكام الظلمة، لما كان يمثله هؤلاء، ولا يزالون، من ثقل شرعي عند جمهور الأمة. فلما جعل الإسلام مرتبطا بديدان القراء الذين باعوا آخرتهم بدنيا الحكام؟ لما الإصرار على ربط تعاليم دين الإسلام بالتشريع لطاعة الحاكم المستبد مهما جار وظلم؟ لماذا ربط المستولون بالسيف والانقلاب على شرعية الحاكم، الذين سموا أنفسهم ب”الخلفاء” زورا وبهتانا وسموا نظام حكمهم ب”الخلافة”؟ ألم يتبرأ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سماهم بملوك العض والجبر؟ وحرض ضدهم وحذر من الاستكانة إليهم والركون إلى جانبهم بدل الاصطفاف مع الحق والدوران معه حيث دار!
لماذا يجبن هؤلاء الشبه مثقفين حين يتعلق الأمر بمن يحكمهم الآن باسم إمارة المؤمنين وبيعة الإكراه؟ أليس الأحياء أولى بالنقد والإنكار من الأموات؟ لماذا لا يقفون في وجه الحكام الظلمة؟ لماذا لا يعبرون عن رفضهم لاستبدادهم وفسادهم؟
لا جواب نجد عند هؤلاء القوم غير الإصرار على كشف الوجه القبيح لأفعال ومواقف المسلمين وربطها بتعاليم الإسلام؟
لا جواب غير تسويق إسلام الخمول والذلة والركون إلى الظلمة.