بانوراما الانحطاط السياسي بالمغرب
لعل أبرز سمات المشهد السياسي اليوم في المغرب بعد خمس سنوات من تعديل الدستور سنة 2011 هو حالة معممة من الضبابية والفوضى في تنكر واضح لمقولات العهد الجديد التي كرّسها نص الدستور الجديد فيتجاوب إيجابي مع الضرورة التاريخية التي أججتها حركة 20 فبراير. وتتجلى هذه الفوضى في استمرار ابتعاد عناصرالتدافع السياسي عن لحظة 20 فبراير المؤسِّسَة كما يسوّق لها هذا التدافع السياسي ذاته، وهو ما قد يحتمل تفسيرين اثنين متكاملين ومترابطين سنأتي على تفصيلهما فيما يلي : أولا، ضبابية الرؤية لدى معظم الفاعلين السياسيين في مواجهة تحديات التنمية والانتقال الديمقراطي لأسباب ذاتية كعدم الكفاءة أو صراع المصالح مثلا و أخرى موضوعية متعلقة بمدى تركيب الأزمة الذي يعيشها المغرب منذ سنوات؛ وثانيا، عدم تنازل الدولة المخزنية عن أساليبها التقليدية خصوصا بعد خروجها سليمة من الحراك الشعبي بل وإن هناك مؤشرات على خروجها أقوى مما كانت عليه.
آراء أخرى
لقد حمل الربيع الديمقراطي عبد الإله بنكيران إلى رئاسة الحكومة من حيث لا يعلم، ليدشن بمعية رفقاءه في الحزب والحكومة زمنا سياسيا جديدا بخطاب أريد له أن يكون قريبا من نبض الشارع وشعبيا بالشكل الذي يعزز الوعي والمشاركة السياسية لدى عموم المغاربة، لكن حماس البداية المدفوع برغبة الإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد سرعان ما اختفى لتعود الصورة التقليدية المترسخةللأحزاب إلى الواجهة بوصفها تجمعات للانتهازيين المتصارعين على الوزارات والمقاعد أولا وقبل كل شيء. وهي الصورة التي لا زالت واسعة الانتشار بين الشباب المغربي على بعد أيام من انتخابات 2016. إنها صورة تحدّ من مقبولية الأحزاب ومن شرعيتها في الولوج إلى دواليب الدولة لإحداث التغيير، أي أنها صورة تسيء إلى المشروع الديمقراطي وتعطله بإعادة الاعتبار للدولة المخزنية التيقنوقراطية المتعالية على التطاحن الحزبي والساهرة على ديمومة مصالح البلاد بتسيير مباشر من المؤسسة الملكية. وقد ساهم اهتراء وابتذال المعارضة البرلمانية وإن بشكل أقل في تعزيز هذا الابتعاد التدريجي.
إن المتأمل لخطاب بنكيران، والمقصود هنا خطوطه العريضة وتطور مفاهيمه السياسوية والشعبوية، يلمس كيف أن الدولة لم تحدث أي قطيعة مع أساليب ما قبل 2011 بما فيها من آليات مخزنية متنوعة.وفي الوقت الذي كان المغاربة يمنون النفس بحملة شرسة ضد الفساد والمفسدين موازاة مع إعادة الاعتبار للملفات الاجتماعية الأساسية كالسكن والتعليم والصحة، وجد بنكيران نفسه أمام مجموعة من الملفات ذات الأولوية “القصوى” المرتبطة بأزمة المغرب الاقتصادية الموروثة عن حكومات سابقة والتي لم تكن في الحسبان، وهو ما أدى إلى تخليه شبه الكلي عن محاور برنامجه الانتخابي، وقد اعترف بنكيران في أكثر من مناسبة أنه لم يعرف حقيقة مشاكل البلاد إلا عند استلامه لمنصبه، مما يرسم صورة رديئة للسياسي المنتخب الذي يغازل مشاعر المقهورين ليزيدهم قهرا بحصوله على امتياز تطبيق تعليمات صندوق النقد الدولي لاسترجاع التوازنات الماكرواقتصادية، بما يقتضيه ذلك من إجهاز على القدرة الشرائية وإطلاق يد الخواص في الصحة والتعليم بطريقة عشواء تشرعن الفوضى والداروينية الاجتماعية كما يحصل اليوم مع مهزلة 70 تلميذا في القسم. إنها صورة السياسي الشعبوي الذي لا يتوفر حتى على المعلومات الكاملة عن الوضعية العامة للبلاد وأولويات إنقاذها، وسواء كان المشكل في سياسيينا أو في ولوجهم إلى المعلومة، فإن هذا التدبير الارتجالي الاستعجالي المباغث ينم عن خلل بنيوي في مشروع الديمقراطية المغربية.
من جهة أخرى، شكل التخلي عن محاسبة المفسدين وتشبيه مطاردتهم بالبحث عن الساحرات التجلي الأبرز لانبطاح الإسلاميين أمام ضغوطات النظام القائم المستمر، وإعادة ضبط بوصلتهم، وانطلاقتهم في لعبة قمار طويلة الأمد بين المخزنيين القدامى والمخزنيين الجدد بعد التخلي المعلن واللا مبرر عن شعار المرحلة المركزي. وهنا إساءة كبرى لأي مشروع ديمقراطي إذ يتم إقرار ضعف المؤسسات وعجز ترسانة العدالة، بما يفيد من جهة طغيان طغمة “متحكمة” في أجرأة القوانين وفق بنية أوليغارشية تقترب من النموذج الروسي، واستفحال أشكال الفساد الطفيلية لتجاوز الضعف الممأسَس لأجهزة الديمقراطية من جهة أخرى، وبذا أصبح الدستور يقبل تأويلا محافظا أو مخزنيا وآخر ديمقراطيا مع مراعاة أسباب النزول في الحالتين،وقد جعل هذا التعامل البرغماتي مع الوثيقة الدستورية مغرب ما بعد 2011 شبيها حد التماهي بمغرب ما قبل 2011، ولعل فضيحة أراضي خدام الدولة خير دليل على ذلك. وهكذا، استمر التنكر لزخم 20 فبراير الهش بالقبول باللجوء إلى الأحزاب الإدارية لاستكمال التشكيلة الحكومية،والقبول فيما بعد بوزراء مستقلين لا يخفى نفوذهم و قربهم من دوائر القرار العليا، والتنازل عن وزارات السيادة المعهودة ربما بدعوى التهديدات الأمنية والتحديات الجيوستراتيجية. وهنا مفارقة كبرى مع خطاب بنكيران الذي يضع العدالة والتنمية في مركز تجربة حكومية لا يشكل وزراء حزبه فيها إلا الربع وربما لا تتتجاوز مساهمة حزبه الفكرية في قراراتها الربع نفسه، ولا يشمل هذا الربع القرارات الكبرى المتعلقة بإصلاح المقاصة والتقاعد والماء والكهرباء وكذا الخوصصة.
ولا يعدو تذرع الإسلاميين بالجرأة السياسية أن يكون سوى محاولة بئيسة للملمة عذريتهم التي لم يدافعوا عنها في وجه ما يسمونه اليوم بالتحكم. ذلك لأن الجرأة السياسية لإعادة ملء خزائن الدولة تقتضي بالإضافة إلى هذا التقشف تسخير كل الآليات بما فيها الإصلاح الضريبي لجبي مستحقاتها، ومحاربة ناهبي المال العام، وتقديم المتحكمين للعدالة بتهمة الشطط في استعمال السلطة والتعدي على مؤسسات الدولة الحديثة الديمقراطية. لكن بنكيران يقول بنفسه أنه ليس بطلا وأنه ليس صداميا ولا يحب التنازع على الصلاحيات كما أنه لم يفك بعد طلاسم “الروح” التي تسكن أم الوزارات، فكيف يمكن أن تكون حكومة تتنازل على صلاحياتها جريئة؟ بل ثمة زيادة على ذلك غياب انسجام في مؤسسة الحكومة وتملص من المسؤولية عبر قنوات غير مؤسسية كما فعل وزير العدل للحفاظ على مقعده وإن كلفه ذلك نزاعا فايسبوكيا معلنا مع وزير الداخلية يتبرأ فيه من مسؤوليته عن تزوير الانتخابات لأنه لا يستشار، أو كما فعل رئيس الحكومة عبر منابر إعلامية، مع حصاد بعدما حدث في تعنيف الأساتذة المتدربين،أو مع أخنوش والعلمي وبوسعيد في قضيّتي صندوق التنمية القروية وتأمينالمحاصيل الزراعية،أو عندما تحدث عن عصبية الرميد وانفعاله النابع عن وطنيته في إطار “كْوِي وبُخْ”؛ إنه مشهد يشبه الدار الأبوية التي تؤوي العائلة الكبيرة حيث يحاول كل شاب فيها أن يقضي مآربه دون “شوهة” ويبرئ نفسه لكي لا يمنع من المبيت في مرقده الدافئ. وهو مشهد مميز للبؤس الذي لم تعرفه قبل 2011 مؤسسة من هذا النوع في التفاف واضح على مطالب الشباب أثناء الحراك.
إنها بالأحرى “السنطيحة” السياسية التي يمارسها بنكيران وغيره عندما يخترعون مفهوم التحكم، وعندما يتابع المغاربة مباشرة ارتباك التنسيق بين مختلف الوزراء، بل وغياب التواصل أحيانا. وتراهن هذه السنطيحة على أمرين أولهما تقديم صورة السياسي الشفاف الصريح نظيف اليد المتصارع مع المتحكمين وثانيهما تأكيد الولاء للسلطة المخزنية مع اختلاف درجات الرضى عن سياساتها. ولذلك، يقول بنكيران أنه جاء لمساعدة الملك الحاكم الفعلي للبلاد، وأنه لا يمكن أن يقطع مع ما يحمله المخزن من حمولة رمزية تدل على الاستثناء المغربي، كما أنه يتبرأ من مسؤولياته عن السياسة الخارجية والسياسة الدينية في ظل مؤسسة إمارة المؤمنين. لكن هذه “السنطيحة” تخسر الرهانين معا لأنها لا تتجاوز مفارقتها الأساسية وهي امتداح السلطوية من داخل الديمقراطية وامتداح الديمقراطية من داخل السلطوية. ويبرهن التشنج بين القصر والعدالة والتنمية على هذا الرهان الخاسر، فقد ورّط بنكيران نفسه والقصر بإشاراته المفرطة إلى المؤسسة الملكية في كل القرارات الوازنة أكثر مما مضى في الوقت الذي كان من المفترض في دستور 2011 أن يبعد القصر من مد وجزر السياسات العمومية، بشكل رمزي على الأقل، ولم يزد مفهوم التحكم إلا في تأزيم العلاقة مع دواليب الدولة التي لا ترضى أن تُبتَزّ أو تسَلّط عليها الأضواء بهذا الشكل حتى وإن لم ينتقص ذلك من الولاء لها ولأساليبها. وهكذا فإننا أمام صورة سياسي مبتز مضلِّل ومتشبث بالسلطة يتشدق بنظافة اليد وهو في الواقع بدون يد لأنه وهبها لسلطة المخزن، بغض النظر طبعا عما أثير عن قضايا فساد وشطط وامتيازات لا تليق ببلد يعيش أزمة خانقة.
ولا يستقيم عرضنا البانورامي هذا دون التطرق إلى ما يميز خطاب المعارضة البرلمانية في عهد يسمى خطأً بعهد الإسلاميين. وهو الخطأ الذي تمادت فيه “معارضة جلالة الملك” في محاولة لحصر النقاش في مدى اقتناع الإسلاميين بالانتقال الديمقراطي. وصحيح أن بنكيران وجماعته سهروا على اختراق المؤسسات وتكوين “لوبي” إسلاموي داخل الدولة مستغلين في ذلك بعض الصلاحيات الجديدة،ولكن هذا الأمر يكشف إدراك بنكيران لعدم تغير قواعد اللعب ولاجدوى الدخول في صراع لا يملك أدواته الإيديولوجية والمؤسساتية. ففي الوقت الذي ينتقذ فيه إدريس لشكر تنازل بنكيران عن صلاحياته وتدبيره اللاتشاركي للولاية التشريعية، يجهز لشكر نفسه على آخر ما تبقى من الديمقراطية الداخلية في حزبه ويتهرب من التعليق على فضيحة أوراق بنما ويتيه في خطاب أكاديمي نوستالجي عن قوة الشعب فيما يؤشر على إتمام مخزنة حزب أنقذ المغرب من السكتة القلبية. من جهته، ينتقد حميد شباط لا ديمقراطية رئيس الحكومة ويشحذ بندقية حزبه المحافظة بدعوى الشرعية التاريخية ربما ضد مشروع مشابه يحمله ملتحون ، وهو هجوم يصعب على المرء أن يخطئَ نزعتَه المخزنية إذا ما احتكمنا إلى واقع حزب الاستقلال ورئيسه.
أما إلياس العماري فإنه يطلق من قلعته الحداثية المستحدثة صفارة إنذار من المشروع الإخواني لبن كيران ومشاريعه الرجعية في التشريع والمقاربة (القانون الجنائي مثلا)، في الوقت الذي لم تغير فيه العدالة والتنمية فلسفة التشريع المغربية المحافظة أصلا، والتي دائما ما تكيل بمكيالين في توازن شبه مستحيل بين قيم الحداثة والتقليد. ولنا في استمرار الاستهتار بالإعلام الوطني خير دليل على غياب اللمسة الإخوانية حيث ما زال المشاهد أمام نفس برامج رمضان المتواضعة والتافهة في كثير من الأحيان التي لم تتطور لا في اتجاه الدعاية إلى الإلحاد ولافي اتجاه الوهابية ولا في اتجاه احترام ذكاء المشاهدين.
وينتقد حزب الأصالة والمعاصرة إغراق المغرب بالديون بحكم الإكراهاات الدولية لكنه لا ينتقد السماح بنزيف الريع والثروة بحكم الإكراهات المخزنية، وهي عناصر فشل لم تنجم عن إيديولوجية الإخوان بقدر ما يمليها المخزنأو بالأحرى تواطؤ المخزن والنخب السياسية الذي ترسخ غداة الاستقلال إذا ما استثيننا حكومة عبد الله ابراهيم المجهَضة. وتردّ كتائب “حكومة جلالة الملك” وقائدها باتهام الحداثويين بالمتاجرة بالمخدرات والحرب على الإسلام والسعي إلى تقنين “الكيف” وتدمير صحة وقيم المجتمع، علما أن الأوروغواي التي قننت “الكيف” قبل سنوات تفوق المغرب صحةَ وقيماً؛ ولا يعقل ألا يتم تحريك القضاء سواء ضد العماري بتهمة الفساد أو لصالحه لما في هذا الهجوم من افتراء وقذف، وهو مايدل على جملة الأعطاب التي يفضحها هذا اللغط السياسي على مستوى ممارسة الديمقراطية واحترام مؤسساتها.
إن النخب السياسية اليوم أكثر من أي وقت مضى تراهن على “سنطيحتها”- ربما لأنها لا تملك غير ذلك، وإن كان بنكيران أباها الروحي، فإننا نجدها أيضا عند بنعبد الله في نقد التحكم للتحكم، وعند مزوار في عدم التزام حزبين متحالفين بالتحالف،وعند بوسعيد في غياب التنسيق مع رئيس الحكومة،وعند أفيلال في فضيحة “جوج فرانك”، وعند شباط في فضيحة النصرة وداعش والموساد، و عند الرميد بخرجاته الفيسبوكية وتسخير القضاء أو تعطيله حسب مصالح شخصية ضيقة، وعند الأزمي في تجارة مغشوشة بالأرقام والملفات الاجتماعية. وتطول قائمة “التسنطيح” التي يمكن أن تشمل أيضا كل التصريحات البنكيرانية ضد الصحافة والمذكّرة التي رفعتها المعارضة إلى الملك ضد بنكيران، وعدم استقالة شباط بعد الانتخابات الجماعية، وتشدق البام بقوته الانتخابية المتنامية.
والحال أن كل عناصر هذا التطاحن ليست سوى محاولات لإعادة التموقع فوق خارطة لا زال المخزن يضبط حدودها. ويشي هذا “التسنطيح” سواء كان مقصودا أو مرتجلا باهتراء النخب السياسية وانشغالها بالتدافعات السياسوية والأدلجة القسرية لقضايا المجتمع، بحيث تنكب على النهش في سمعات وأعراض المعارضين متحججة بامتداد قواعدها الشعبية وتنامي الذكاء السياسي لدى جميع المغاربة، بعيدا عن القضايا الحقيقية للشعب الذي لا يحضر إلا شبحه المفاهيمي في سجالات لا تتجاوز دائرة حرب الأحزاب. وهكذا، كما أشرنا سابقا، يصبح السياسي في صراع دارويني من أجل منصب شغله وسيارته وعطلته، لأنه صار مجرد موظف سامي في الدولة يتوقف كل رزقه على مهاراته في “التسنطيح” عن جهل أو عن جبن في تسمية الأشياء بمسمياتها، والإحاطة بمعطيات الأزمة، وتأكيد حاجة الجميع للجرأة السياسية في مواجهة أسباب الظلم والتخلف؛أي أن السياسي في بلادنا عاجز وانتهازي لا يمكن أن توكل إليه مسؤولية التسيير الفعلي البلاد ولا يصلح له دستور 2011، مما يعزز بشكل مباشر وعميق ضرورة الدولة المخزنية والحاجة إليها لإنقاذ المغرب من نخبته السياسية.
وتصبح أساليب الحكم السلطاني في نسختها الحالية المخلص من هذه الرداءة والضامن لديمومة المصالح العليا للوطن. فلا يمكن أن تتواطأ الأحزاب والمخزن -إن لم يكن المخزن نفسه راعيها- دون هدم هيبة البرلمان ومؤسسات المراقبة والمحاسبة لصالح الحكم التنفيذي المباشر، وهوما حصل في فرنسا سنة 1940 حين سلم البرلمان كل السلط للماريشال بيتان بعد الاجتياح الألماني لنصف البلاد. وبالطبع، لم يحتج الشعب الفرنسي الواقع تحت هيمنة هتلر على هدم سلطة البرلمان لأنه كان قد سئم التطاحن العقيم الذي ميز المراحل السابقة للجمهورية الثالثة، والذي عطّل معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.وإن كان ما يميز المغرب هو تدخل المخزن المباشر لخلق هذا التطاحن الحزبي بدعوى التعددية، فإن هذا التوازي مع فرنسا الحرب العالمية الثانية يسمح ببروز العنصر الأساس والأهم في عرضنا البانورامي هذا، ألا وهو الشعب المغربي.
ولعل السمة الأبرز في الوعي السياسي عند كثير من المغاربة شبابا وشيوخا، تشبثهم بالمؤسسة الملكية ولجوء المظلومين والمستضعفين منهم إليها دائما، ونفورهم العام من الأحزاب والسياسيين. وهناك مؤشرات عديدة على ارتياب المغاربة من مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والملكية البرلمانية نابعة من عدم الثقة في المنتخبين، كما أن هناك مؤشرات عديدة على وعيهم بالقصور الديمقراطي والحقوقي الحاصل في ظل هيمنة المخزن على القرار، حيث لا زال تجاوبهم مع الدولة يطبعه الخوف والبرغماتية خاصة لدى الشباب، فهم يدركون الضبط الذي تمارسه الدولة المخزنية واعتمادها في كثير من الأحيان على الفساد والفجوات القانونية، لكنهم يتعاملون بمنطق الأمر الواقع الذي لا نستطيع معه تغييرا، ولا يشغلهم إلا حماية أنفسهم وأبنائهم من الفقر والظلم فلا يترددون عند أول فرصة لمغادرة البلاد تحت شعار “ماكاينش معامن”.
ومن المثير أن تطفو هذه الروح الداروينية إلى السطح من جديد، وهي التي قامت احتجاجات 2011 للتنديد بها والقطع معها، مما يدل على فشل الحراك في تحقيق تراكمات في الوعي واللاوعي الجمعيين، وابتعاد مختلف فئات الشعب عن هذا النفَس، وقد يعزى ذلك إلى نفس العوامل التي أخمدت نار الحراك دون أن تنضم إليه شرائح واسعة من المجتمع ودون أن تحتاج النخب السياسية إلى الاصطفاف. ويورد المرحوم ادريس بنعلي في هذا الصدد ضعف التكوين والثقافة لدى فئات واسعةمن المغاربة إضافة إلى غياب طبقة متوسطة واسعة قادرة على حمل هذه النقلة النوعية على مستوى السياسة والثقافة الديمقراطية في ظل رداءة أداء النخب السياسية كما جاء فيما سبق. وهي مظاهر لا زالت مميزة لمغرب اليوم رغم تعارضها المبدئي مع الاختيار الديمقراطي، ذلك أن الفوارق الطبقية المهولة التي يعيشها المغرب تنتج شعبا لا يؤمن بجدوى المؤسسات وديمقراطيتها في الطبقتين الفقيرة والغنية معا. كما أن الأوضاع الكارثية التي تعرفها “المنظومة” التعليميةتعرقل كثيرا التحرر الفكري و الثقافي والاقتصادي للطبقات المتوسطة والفقيرة، وقد يكون من المستحيل بناء الديمقراطية دون أشكال التحرر هذه. والحال أن غياب ضغط الكتلة الشعبية عموما والشبابية خصوصا بفعل هذه العوامل يثبت أن براديغم الإصلاح ليس سوى سلعة انتخابية ودبلوماسية لا يؤسس تراكماته على غضب الشارع كما يدّعي.
وبغض النظر عن الممارسات الفيسبوكية لأتباع الأحزاب التي تكرّسالابتعاد عن قيم الديمقراطية بمهاجمة الأشخاص والأعراض عوض تداول الأفكار والرؤى كما يحدث مثلا في حوار اليمين واليسار في العالم، فإن البرغماتية لا زالت حاضرة في تعاطي الشعب المغربي مع الحقل السياسي سواء بالمشاركة والتصويت أو بالعزوف والمقاطعة، في استمرار لأوضاع ما قبل 2011 خصوصا مع سطوع نجم الأصالة والمعاصرة في التطاحن والأدلجة القسرية لقضايا السياسة. وطبعا، لا زال بيع الأصوات والذمم مستشريا كتعبير أسمى عن الانحطاط السياسي والردة الديمقراطية، سواء كان المقابل مالا أو أضحية أو وعدا بمنصب. ومن آخر وأفظع مشاهد هذا الانحطاط المسيرة “التاريخية” التي شهدتها الدار البيضاء يوم 18 شتنبر 2016 حين خرج مئات المغاربة من شرائح اجتماعية متواضعة وفقيرة للاحتجاج على أخونة الدولة والتعبير عن تشبثهم بقيم الوسطية والحداثة والعلمانية والأصالة والمعاصرة في مشهد سوريالي قل نظيره في تاريخ المغرب المعاصر. سوريالية هذه المسيرة تكمن من جهة في تبرؤ الأحزاب والداخلية من الإعداد الكبيرالذي سبقها، وفي المفارقة التي تسقط فيها الدولة حين تستعمل أسلوبا ديمقراطيا في سياق غير ديمقراطي من جهة أخرى. فبغض النظر عن تشكيلة المتعاونين الذين نظموا المسيرة والجهات التي أوعزت إليهم بذلك، تكشف التفاصيل التي تداولتها وسائل الإعلام أن بإمكان مغاربة حمل شعارات لا يفهمونها وفضح أحزاب متملصة والاعتراف بأنهم مسخرون من طرف السلطات، فإما أنهم صرحاء وإما أنهم يمارسون نوعا من التضليل والاستغباء بإيعاز من جهة ما، وفي الحالتين نرى جليا مدى إيمان هذه الفئات وهذه الجهات بالديمقراطية وتشبعها بإرث 20 فبراير في محاربة الفساد. ولا نحتاج قراءة النوايا من وراء هذه المهزلة لكي نوقن أن المغاربة قادرون على صنع المهازل الديمقراطية في مغرب الخيار الديمقراطي. ولو أن مسيرة مضادة خرجت للتنديد بهذا التلاعب السياسي المخزي لقلنا أن الديمقراطية بخير، لكن الأمر غير وارد لأن هذا الاحتمال يلغي إمكانية المسيرة نفسها، وكذلك لأن المسيرة احتوت على عينات اجتماعية تمثل إلى حد كبير نصف المغاربة على الأقل. وقد بصمت هذه الفضيحة على الزمن الديمقراطي المغربي بالسواد، وأثبتت لوحدها عمق الاختلالات والخسائر الذي تكبدها بناء الدولة الحديثة خلال السنوات الخمس الأخيرة. كما أن توقيتها لا يطمئن على مستقبل المشروع الديمقراطي بالمغرب ويثبت في الآن نفسه بما لا يدع مجالا للشك الحاجة الملحّة إليه.
يبدو جليا إذن كيف تم القبول بالابتعاد الممنهج عن لحظة 20 فبراير التي قضّت مضجع المخزن السياسي والاقتصادي، والتي كان من الممكن أن تكون فارقة لولا انزلاق الممارسة السياسية سهوا أو عمدا إلى مسرحية من الأجدر بمسؤولية الإصلاح وبناء الديمقراطية. وإن مواصلة استحضار لحظة 20 فبراير يعمق التضليل الذي يمارسه بنكيران والآخرون بما فيهم العماري في محاولة فريدة لطمأنة الشارع وإبعاده في نفس الوقت من الفعل السياسي. وفي هذا الإطار، يمكن إدراج هذه القطبية المصنوعة بين الإسلامويين والحداثوين التي تُغيّب بشكل لافت للنظر الأسئلة الملحة التي طرحت قبل خمس سنوات والتي لا زالت قائمة الآن بكل عناصرها ورموزها، في سعي حثيث إلى الفوز بأحقية الأدلوجة المخزنية، بل إن رموزا جديدة من الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية انضافت إلى قائمة المفسدين “المتحكمين”… وهكذا تعزز الدولة أدواتها لتأطير اللعبة الانتخابية وإحاطتها بالقدر الكافي من الغموض لشيطنة الأحزاب واحتواء استقلاليتها السياسية. ومن أبرز انعكاسات هذا التنوع الرتيب نفور المواطنين والشباب على وجه الخصوص من التصويت والمشاركة السياسية. وبالموازاة مع هذه الردة السياسية، يعاني الشعب المغربي من الإقصاء من قنوات الديمقراطية، ويروح ضحية نوع من الصراع الاجتماعي الممأسَس بالشكل الذي يجعله على هامش المعادلة السياسية لا يسائل طبيعتها وسيرورتها. ويسمح هذا البون بين السياسي والمواطن بتكاثر النخب السياسية الرديئة وتعميق الردة الديمقراطية. وقد استنكرت حركة أنفاس الديمقراطية عودة المخزن لضبط الحياة السياسية، في الوقت الذي تقف فيه فيدرالية اليسار الديمقراطي على الهامشبمشروع وطني طموح مطالبة بتعميق الإصلاحات الدستورية والقطع مع كل أشكال الريع الذي يعتبراليومأحد أعمدة الدولة المخزنية سياسيا كان أو اقتصاديا،وهي دعوة صريحة لإعادة تأهيل الفعل والخطاب السياسيين وإصلاح المؤسسات انطلاقا من المدرسة للخروج من هذا الانحطاط السياسي المركب وتكريس الأسس السليمة للديمقراطية والمواطنة الحقة.