المشهد السياسي المغربي بين الواقع والممكن والمحتمل
قراءة في فك البلوكاج الحكومي
آراء أخرى
يعتبر المشهد السياسي المغربي الحالي مجالا خصبا للدارسين والباحثين، بحيث يمكن لكل متخصص أن يجد فيه ضالته ، ويمكن لكل التخصصات المندرجة ضمن شتى صنوف العلوم الاٍنسانية والاٍجتماعية أن تتناوله من زوايا متعددة ، كما يوفر للدارس والمحلل تمارين سياسية وقانونية جد مهمة اٍذا أراد الغوص في أعماق التجربة السياسية في محاولة للاٍمساك بتلابيبها المتفلتة ، فالسوسيولوجي ، والأنثروبولوجي، وعالم السياسة ، والفقيه الدستوري وغيرهم ، باٍمكانهم الاٍشتغال على الظاهرة السياسية المغربية ، مستعملين أجهزتهم النظرية وعددهم الفكرية ومعاولهم النقدية بدون كلل ولا ملل ، وهذا هو بالفعل ما نلاحظه اليوم، فالمشهد السياسي المغربي يشتغل وفق آليات متميزة ، ومتنوعة ويمكن وصفها بأنها غامضة كذلك ، بمعزل عن العلم والفكر، ورجال الفكر والعلم منشغلون بتحليل ونقد هذا المشهد ، من زوايا فكرية وعلمية متعددة ومتنوعة وغزيرة ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل استطاع رجال الفكر والعلم أن يحددوا المشهد السياسي المغربي ؟ هل استطاعوا أن يصنفوه ؟ وهل استطاعوا أن يجدوا الأجوبة الشافية للأسئلة الحارقة التي يطرحها المواطن البسيط ؟ بله الباحث والمفكر ؟
بعد حوالي 5 أشهر من البلوكاج الحكومي ، تلوح في الأفق بوادر انفراج ، سوف تمكن الأحزاب المنخرطة في العملية السياسية أن تشكل الحكومة ، غير أن الاٍشكال يتمثل في كون بعض صقور حزب العدالة والتنمية لم يرق لهم أن يقبل رئيس الحكومة المعين سعد الدين العثماني بمشاركة الاٍتحاد الاٍشتراكي في الحكومة ، ويعتبرون موقف هذا الأخير متخاذلا ونكوصيا عن مبادئ الحزب الذي ظل متمسكا بما أسماه الخيار الديمقراطي والاٍرادة الشعبية ، في حين يعتبرون رئيس الحكومة المقال عبد الاٍلاه بنكيران زعيما لايعوض ، بحيث أبان عن صمود وشراسة أثناء التفاوض مع الأحزاب الأربعة التي هي : حزب التجمع الوطني للأحرار والاٍتحاد الدستوري والحركة الشعبية والاٍتحاد الاٍشتراكي ، على أعتبار أن حزب التقدم والاٍشتراكية صار حليفا تقليديا للبيجيدي ، وبالرغم من أن أي واحد لايعرف بالضبط مالذي كان يروج في كواليس المفاوضات الماراطونية التي قادها بنكيران خلال الأشهر الخمس المنصرمة ، غير أن ما يروج من خلال تصريحات أعضاء حزب العدالة والتنمية هو أن الزعيم بنكيران صمد طيلة فترة التفاوض ولم يشأ أن يتنازل عن مواقف ومبادئ الحزب.
وبما أن بنكيران كان مصرا على عدم اٍشراك الاٍتحاد الاٍشتراكي في الحكومة ، بينما كان أخنوش مصرا على ذلك ، فقد كان ذلك سببا مباشرا في البلوكاج الحكومي الذي دام خمسة أشهر – أي أن بنكيران كان يرفض أن يفرض عليه دوخول الاٍتحاد الاٍشتراكي الذي سرق من البيجيدي رئاسة مجلس النواب ، خاصة بعد ما اتضح أن هذا الحزب ثم فرضه من جهات معينة – في الوقت الذي كان فيه المواطن ينتظر أن تشكل هذه الحكومة التي صارت فصولها أطول من المسلسلات المكسيكية أو التركية . ما يستوجب طرح السؤال التالي ؟ اٍلى أين يمكن أن يفضي البلوكاج ؟
وبالرغم من تعدد القراءات والتأويلات القانونية ، الدستورية والسوسيولوجية ، وافتراض سيناريوهات متعددة وكثيرة للخروج من البوكاج ، اٍلا أن الواقع كان يقول بأن هذا البلوكاج لابد له أن ينتهي ، ولايمكن له أن يستمر الى مالا نهاية ، كما لايمكن أن تظل البلاد مسيرة من طرف حكومة تصريف الأعمال ، ما يجعل العملية الاٍنتخابية التي أفرزت الخارطة الحزبية الحالية ، ضربا من العبث الذي لاطائل من ورائه ، غير اٍضاعة الجهد والمال الوقت ، وهكذا تدخل رئيس الدولة الذي هو الملك انطلاقا من الصلاحيات التي يخولها له الدستور وانطلاقا من الفصل 47 منه ، ووضع حدا للبلوكاج باٍقالة عبد الاٍلاه بنكيران وتعيين سعد الدين االعثماني خلفا له.
ومن أجل حلحلة الوضع ، قام رئيس الحكومة المعين بقبول اٍشراك حزب الاٍتحاد الاٍشتراكي في الحكومة ، الشئ الذي لم يكن مستساغا من صقور العدالة والتنمية الذين رأوا في ذلك تراجعا عن المبادئ التي وضعها الحزب ، وتنازلا عن الشروط التي وضعها بنكيران أمام الأحزاب الراغبة في المشاركة في الحكومة ، وانحرافا عن مشروع الحزب النضالي والاٍصلاحي ، انطلاقا من التضخم الأيديولوجي لديهم المتمثل في كون الحزب هو الذي يمثل الاٍرادة الشعبية وأن الناس صوتوا لبنكيران ، مع أن هذا الزعم يحتاج الى كثير من التمحيص خاصة اذا أخذنا بعين الاٍعتبار نسبة المقاطعة المرتفعة حوالي 70 بالمائة ، ونسبة الأوراق الملغاة ، ونسبة المصوتين للبيجيدي من اٍجمالي الكتلة الناخبة ، حوالي مليون وستمائة الف ، من حوالي 16 مليون شخص مسجل في اللوائح الاٍنتخابية العامة ، غير أن السؤال الذي هوجدير بالطرح هو الآتي : اذا كان بنكيران يرفض اٍشراك الاٍتحاد الاٍشتراكي وهو حزب ينحدر من الحركة الوطنية وله تاريخ نضالي طويل و معروف ، فكيف يقبل باٍشراك أحزاب التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاٍتحاد الدستوري ، وهي أحزاب اٍدارية مثلها مثل الأصالة والمعاصرة ؟
تثار بخصوص هذه المسألة عدة اشكاليات قانونية ، سياسية ، وسوسيولوجية ، أولا ، فمن الناحية القانونية ، فالدستور وكما هو معلوم يخول للملك باعتباره رئيسا للدولة أن يذهب في خيارات متعددة لحل البلوكاج ، منها الخيار الذي لجأ اليه ، بالاٍضافة الى خيارات أخرى متاحة ، منها العودة الى صناديق الاٍقتراع ، بخصوص هذه النقطة يعتقد صقور العدالة والتنمية أن باٍمكانهم تحقيق نفس النتائج التي حققوها من قبل ، بل باٍمكانهم اكتساح كل الدوائر الاٍنتخابية وتحقيق الفوز الساحق ، بالنظر الى المشروعية التي راكمها الحزب مؤخرا انطلاقا من صمود بنكيران وتشبثه بمواقفه ، وذلك من منظور البروباغندا الشعبوية التي يسوقها مناضولو وحواريو الحزب على أن جهات معينة لاتريد أن يحتل البيجيدي و بنكيران الصدارة لأنه يريد الاٍصلاح { …ماخلاوناش نخدمو…. السيد راجل معقول بغا يخدم وماخلاوهش …. } ، ثانيا ، اٍذا كان البيجيدي يقول بأن جهات معينة { التماسيح والعفاريت } تارة و { مستشاري الملك أو التحكم } تارة أخرى ، لايروقها حزب العدالة والتنمية لأنه حزب اٍصلاحي ، فاٍن السؤال الذي أراه جديرا بالطرح هو الآتي : أين يتجلى الجانب الاٍصلاحي في تدبير حزب العدالة والتنمية للحكومة المنتهية ولايتها ، طيلة خمس سنوات ؟ وماهي الاٍنجازات التي قام بها هذا الحزب ؟ وماهي المبادرات التي قدمها في سبيل تحقيق وعوده الاٍنتخابية وشعاراته السياسية ، من قبيل : محاربة الفساد ، تحقيق نسبة نمو تعادل 6 بالمائة ، خلق فرص الشغل للشباب خريجي الجامعات والمعاهد ؟
لقد تابعنا خطابات بنكيران أثناء الحملة الاٍنتخابية التي أفضت الى الاٍنتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر 2016 ، ولاحظنا أن بنكيران لم يقم بجرد احصيلة حكومته ولا باقتراح الحلول الممكنة للمشاكل التي واجهها أثناء رئاسته للحكومة ، في التعليم والصحة وندرة البنيات التحتية ومحاربة الفقر والهشاشة وتوفير فرص الشغل للشباب العاطل وفك العزلة عن مناطق المغرب العميق وغيرها من المشاكل العويصة التي تعيشها البلاد ، بل كل ما كان يفعله أثناء المهرجانات الخطابية التي تزامنت مع جولاته في ربوع البلاد هو البكاء وسرد النكات من أجل ضحاك الناس البسطاء الذين تم حشدهم من الأصقاع النائية من أجل الاٍستماع الى نكات بنكيران ، وبدورهم يحاول البيجيديون أن يداعوا عن حصيلة حكومتهم بتسويق حفنة انجازات باهثة لاترقى الى مستوى الاٍنجاز الحكومي ، كما يحاولون أن يزايدوا على بعض الاٍنجازات التي هي استمرار لانجازات الحكومات السابقة ، وكذلك على بعض المبادرات الملكية ، مثل مشروع راميد ، والزيادة في منح الطلبة ، وتخصيص اعانة للأرامل من فائض صندوق المقاصة ، اٍصلاح صندوق المقاصة ، اٍصلاح أنظمة التقاعد ، مع ضرورة اٍبداء التحفظ اللازم حول طريقة ” اٍصلاح ” هذه الصناديق ، والتي لم تكن شمولية ، بل كانت انتقائية وعشوائية ، وضربت القدرة الشرائية للطبقة الوسطى والفئات الهشة ، ولا أدل على ذلك من كون التقرير الأخير للجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس المستشارين من أجل التحقيق في ملف ” اٍصلاح صناديق التقاعد ” أبان عن اختلالات وانزلاقات خطيرة مست مساهمات الموظفين والمستخدمين في تلك الصناديق ، كما أن مساءلة هذه الاٍنجازات البسيطة جدا مقارنة بما كان منتظرا ، ومقارنة بتلك بالشعارت الكبيرة التي حملها الحراك الشعبي في الشارع بقيادة حركة 20 فبراير سنة 2011 ، ومقارنة كذلك بالوعود التي قدمها الحزب للمواطنين ، تجعلها انجازات واهية ، ولاترقى الى مستوى الانجاز الحكومي المتميز والفعال.
أعتقد أن سعد الدين العثماني التقط الاٍشارة وفهم بحدسه وتجربته ومراسه السياسي أن المراهنة على التعنث مع القصر أمر لا يفيد ولن يفيد الحزب في شئ ، كما يدعي بعض صقور البيجيدي ، الذين يعتقدون أنهم بالفعل يناضلون ضد التحكم والتسلط ، متناسين أن النضال الذي خاضته أحزاب الحركة الوطنية في هذا المضمار لايقارن بتلك المناوشات الكلامية التي يحاول بعض البيجيديين أن يوهموا الناس بها على أنها تندرج في اٍطار الاٍلتزام بالاٍرادة الشعبية والصمود في وجه الراغبين في تجاوز القوة التعبوية للحزب ، كما أنهم لايستحضرون ميزان القوى الدولي والاٍقليمي والمحلي ، فاٍدارة أوباما التي كانت تدعم الاٍخوان المسلمين في العالم الاٍسلامي ، لم تعد تدير أكبر دولة في العالم ، والاٍسلاميون في المنطقة المغاربية ( النهضة في تونس وقبلها جبهة الاٍنقاد في الجزائر مع الاٍشتثناء والاٍخوان في مصر ) فشلوا في اٍدارة مرحلة مابعد الحراك الشعبي لسنة 2011 ، وتحول حزب النهضة في تونس الى حزب مدني ، وتخلى عن أيديولوجيته الدعوية ، والاٍخوان في مصر يعيشون أسوأ أيامهم وهم مشردون في العالم وزج بهم في سجون مرسي ، وجبهة الاٍنقاد في الجزائر تسببت في عشرية سوداء لم يخرج منها الشعب الجزائري بأقل الخسائر ، فهل يريد اٍخوان بنكيران جر البلاد الى عشرية سوداء ؟ لم يكن أمام سعد الدين العثماني من خيار ، هنالك حلان لايمكن تلافيهما ، وحل ثالث هو الأسوأ ؛ اٍما بقاء البلوكاج وضياع مصلحة الشعب و الوطن ، أو اٍعادة انتاج نفس الخريطة السياسية على أساس نفس الاٍنتخابات بنفس الشروط ونفس البرامج ونفس الوعود ، واٍضاعة الوقت والمال العام ، أو الاٍصطدام مع القصر وجر البلاد الى المجهول ، فعلام يراهن البيجيديون ؟
اٍن قراءة السياق الذي تم ضمنه اٍقالة بنكيران يظهر بشكل جلي على أن القصر لايريد أن يدخل في صراع مع البيجيدي وهو يعلم أنه حزب منظم ومهيكل ومنضبط ، عكس بقية الأحزاب التي أضعفتها الاٍنشقاقات والاٍنقسامات الداخلية ففقدت تواصلها مع قواعدها الشعبية وفقدت مشروعيتها النضالية والسياسية وخفت بريقها السياسي وسقط المشعل من يدها ، ولا أدل على ذلك من خروج حركة 20 فبراير من رحم الشارع وليس من رحم الأحزاب ، غير أن بقاء البيجيدي منضبطا لقيم الممارسة الدعوية – الأيديولوجية والحزبية ، بوأه الصدارة ، لأن الساحة السياسية أضحت فارغة ، كما أن تصريحات بنكيران وممارساته المتناقضة تتنافى مع سلوكات رجل دولة برتبة رئيس حكومة ،خاصة تصريحاته الأخيرة بخصوص زيارة الملك لاٍفريقيا وتصريحه بخصوص الحرب في سوريا والزيارة التي قام بها الى دولة قطر ، والتي كانت محاطة بالكثير من علامات الاٍستفهام ، أكدت أن القصر لم يعد يرغب في التعامل مع بنكيران كشخص وليس مع البيجيدي كحزب ، وهكذا فالتعامل بين الاٍثنين تحكمه البراغماتية التي تتأسس على المصلحة العليا للوطن بعيدا عن المزايدات السياسوية .