تعيش عاصمة المغرب الرباط منذ الجمعة 22 يونيو/حزيران، تحت إيقاعات  مهرجان موازين ، الذي يعرف حضور كوكبة من المغنين من مختلف بقاع العالم، غير أن هذا المهرجان تجاوز نطاق الفن و الثقافة، وأصبح في قلب الجدل السياسي، فالإحتجاجات لمقاطعة المهرجان ليست وليدة هذه السنة، بل تعود إلى سنة 2011، تاريخ الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد فيما عرف باحتجاجات حركة 20 فبراير، والتي توجت بتعديل دستوري و حكومي..

 وكان مهرجان موازين في قلب هذه الاحتجاجات، وأصبح عنوانا لسوء تدبير المال العمومي، بحكم أن حجم الإنفاق الباذخ على هذا المهرجان، لا يتناسب مع وضع البلاد التنموي، والتي تعاني عجزا تنمويا يصعب إنكاره…

غير أن في هذه السنة ارتفعت وثيرة الدعوات لمقاطعة حضور فعاليات المهرجان تحت شعار”خليه يغني بوحدو”(اتركه يغني لنفسه)، فوسائط التواصل الاجتماعي تشهد حراكا سياسيا ساخنا، وبالمقابل عمل منظمي المهرجان على تكثيف الحملات الدعائية، لكسر و الحد من فعالية حملة المقاطعة، إلى درجة أن منظمي المهرجان نظموا حفل تجريبي قبل الانطلاق الرسمي للمهرجان بمنصة “السويسي”..والغرض منها_على خلاف ما صرح منظمي المهرجان_هو إختبار مدى تأثير حملة المقاطعة على الحضور الجماهيري…

لن ندخل في تفاصيل الحضور الجماهيري الكثيف من عدمه، فذاك أمر ثانوي مقارنة بشعبية واتساع حملة المقاطعة، ودورها في خلق رأي عام، لم نعهده  من قبل في البلاد، فنحن ندرك أن المنظمين لن يعجزوا في إيجاد جمهور “حاشد” لمنصاتهم، خاصة و أن المهرجان يحظى بدعم لا محدود من قبل أغلب مؤسسات الدولة…

وموقف الدولة و صم أذانها تجاه دعوات إلغاء المهرجان، يحيل إلى خلل سياسي و ديموقراطي عميق، فمن سمات الأنظمة الديموقراطية هو تجاوبها مع إرادة الناس، ومن المؤكد أن أغلبية المغاربة، لن يقبلوا بإنفاق موارد البلاد، في أمور ثانوية وغير ذات أهمية، فالبلاد تعاني من نقص حاد في السلع و الخدمات العمومية، فالرباط التي تحتضن المهرجان تكفي جولة صغيرة بشوارعها و ضواحيها، لاكتشاف سوء تخصيص الموارد،   فوضعية أسطول  النقل الحضري بالرباط كفيلة بتلخيص القصة…

والجدير بالذكر، أن المغاربة ليسوا ضد الثقافة و الفن و الإبداع، فمدن مغربية أخرى تشهد مهرجانات و لا أحد يدعوا إلى مقاطعتها، ومن ذلك: ” مهرجان كناوة” بمدينة الصويرة الذي إنطلق في الأيام القليلة الماضية، ومهرجان الموسيقية الروحية بمدينة فاس، فالشعب المغربي معروف بتنوعه الثقافي، و انفتاحه على باقي الحضارات.. لكن أصل الحكاية هو أن موازين يتسم بخاصيتين:

الأولى :الإنفاق الباذخ و المفرط في جلب فنانين بملايين الدراهم للفنان الواحد، و في ذلك هدر لثروات البلاد و استنزاف لقدرتها الاقتصادية،

الثانية: المهرجان شاهد على ظاهرة زواج السلطة بالمال، فالمؤسسة المشرفة على تنظيمه قريبة من بؤرة السلطة والثروة…ويحظي برعاية ودعم منقطع النظير…

الأمر الذي يدفع للتساؤل هل استمرار المهرجان أهم من الاستقرار والسلم الإجتماعي? وهل الإنفاق على المهرجان أولى وأهم من الإنفاق على احتياجات الناس?

من المعلوم، أن الضروري قبل الكمالي، فالتنمية لا تتحقق بالإستعراض والفرجة، لاسيما عندما تكون هذه الفرجة من جيب المواطن…فالتنمية تقوم على توسيع خيارات الناس، عبر توفير تعليم وخدمات صحية وبنية تحتية جيدة،التنمية بوابتها الحريات المدنية و السياسية، ومساهمة الناس في اختيار السياسات العمومية واختيار منفذيها…

التنمية تتحقق بتفعيل مبدأ المساءلة و المحاسبة و المكاشفة، أما إنفاق الأموال الطائلة على جلب مغنيين من مختلف بقاع العالم ، فذلك ليس بالفتح المبين، فمن اليسير فعل ذلك، لكن من العسير فعلا تحقيق إنجازات تنموية و مكاسب إقتصادية، يعود نفعها على عموم المواطنيين…

لا نعلم على وجه التحديد كيف يفكر صناع القرار في المغرب، فمواقفهم المناهضة لتوجهات الرأي العام، لن تقود إلا للمزيد من تهديد السلم و الأمن الاجتماعي، فالاستقرار السياسي أصبح هشا، و احتجاجات الحسيمة و جرادة شاهد على مانقول، سياسة التعنث و الإستكبار وتهميش صوت الناس ، وتخوين المعارضين،  لن يقود إلا لمزيد من الثوثر، فالشعوب عندما تقرر المقاومة فمن الصعب كسر شوكتها…

نريد خيرا لبلادنا، و نود جاهدين تجنيبها السيناريوهات السيئة، ونعلم علم اليقين أن غالبية الشعب المغربي تحرص على ذلك، وما أسلوب المقاطعة الشعبية، إلا وسيلة لرفع الصوت عاليا تنديدا بالفساد و حماية المفسدين، ومحاولة لدفع المؤسسة الملكية إلا التدخل، و الانحياز لتطلعات الشعب…

الوضع السياسي و الاجتماعي الاقتصادي بالبلاد لا يبشر بخير، و مواجهة الاحتجاجات الشعبية المتواصلة لن يكون بصم الأذان عنها، أو الدعاية المزيفة و تصوير الوضع على أنه طابور خامس، أو شرذمة من الحاقدين…فنحن من أبناء هذا الوطن العزيز على قلوبنا، والذي نحرص على أمنه و استقراره و تقدمه، ونحزن لأحزانه و نفرح لأفراحه و انتصاراته، _فنحن بحكم عملنا كأكاديمي و إعلامي_ نتفاعل يوميا مع شباب المغرب، وندرك جيدا حجم الخصاص التنموي، و الفساد المستشري…

مواجهة الأوضاع المتفاقمة، يلزمه حزم سياسي، وقطيعة مع الأساليب المتبعة في إدارة البلاد، التغطية على الفساد و المفسدين يدفع البلاد نحو الهاوية،  لا يعقل أن نرى على الحدود الشمالية للبلاد، أي بإسبانيا إسقاط البرلمان للحكومة لأن الحزب الحاكم تورط في فساد مالي، و محاكمة وسجن صهر ملك إسبانيا بتهمة الفساد المالي… بينما في المغرب، تم تهريب أموال طائلة باتجاه الملاذات الضريبية الأمنة، و تهريب أطنان من الذهب إلى دبي، والتلاعب في أسعار المحروقات و الاستفادة من أموال الدعم الحكومي بغير وجه حق، ومنح إعفاءات ضريبية على مقاص أشخاص، لانهم من ذوي الحظوة ومن المحظوظين..

كل هذا يتم في بلاد مؤشرات التنمية فيها هي الأضعف عالميا، فالبلاد تعاني من الفقر وارتفاع البطالة وتآكل في الخدمات والسلع العمومية، ومع ذلك هناك إصرار على تصوير المغرب ببلاد الانجازات الكبرى و المشاريع العملاقة..

نعم هناك مشاريع ضخمة تم إطلاقها، وبنظرنا فعائدها الاقتصادي و الاجتماعي لا يتناسب مع كلفتها الباهظة، و تلك قصة أخرى، لا يسمح هذا المقال بسرد تفاصيلها…و إلى حين استكمال تفاصيلها، نتمنى من العاهل المغربي ان يغتنم الفرصة، ويتدخل لإحداث مصالحة حقيقية مع المقاطعين للانتخابات، و المقاطعين لبعض السلع و المنتجات الاستهلاكية،والمقاطعين لمهرجان موازين، فكل هذه “المقاطعات” تعبر عن مطلب مكافحة الفساد و محاسبة المفسدين، وتحقيق ثالوث العدالة ، الكرامة و الحرية، وبالإمكان تحقيق ذلك بيسر، ودون الحاجة الى دفع البلاد والعباد لمصير لا يعلمه إلا الله…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..