في مقال سابق عن هذا موسوم بـ ‘ من المخزن إلى المخازن’ كنت تحدثت عن الانزياح الذي حدث لكيان المخزن حين حاول احتواء مناوئيه، فاستنسخ لنفسه نسخا منهم جعلته يفقد كثيرا من خصوصياته. والملاحظ أن الذين استطاع المخزن أن يحتويهم في غالبهم من حاملي الإيديولوجيات الذين كان لهم مطمع في الحلول محله في وقت ما؛ ثم ما لبثوا أن اهتدوا إلى التفكير في جعله خادما لتوجهاتهم الشمولية أو هكذا برروا انبطاحهم. لكن مقالنا هذا لن يكون حول حاملي الأيديولوجيات ولكننا سنتحدث عن تيار قد يظهر أنه مناوئ لكل هؤلاء ومؤمن بالممكن تحت سلطة المخزن، ولا شيء غير المخزن بعيدا عن سيطرة التوجه الواحد.

إن المخزنيين الجدد يستطيعون أن ينظروا بسخرية شديدة إلى كل المشاريع المغلقة والشمولية، ويستطيعون توجيه النقد الشديد لها، كما يستطيعون فعل الشيء نفسه مع كل حامل سلطة جاءت به صناديق الاقتراع وينظرون إليه بازدراء شديد، وهذه العملية الشبيهة بألعاب الخفة تجعل كثيرين يعتقدون أن هؤلاء يتمتعون بشيء من الموضوعية، فالجماهير بطبعها تحب الوهم والزيف وأنصاف الحقائق، ولا يستهويها أن تعلم الحقيقة كاملة بما لا يخدم أهواءها، وتوجيه النقد حتى لحكومة لا تحكم وبرلمان صوري ممسوخ هو بالنسبة لهم خير من الذهاب بعيدا في البحث عن الحقيقة غير السارة.

لقد استطاع المخزنيون الجدد أن يبلوروا لأنفسهم نوعا من السلوكات التي تجعلهم متشابهين في ردات الفعل اتجاه المخزن وما يستجد من قضايا ونوازل في الساحة؛ حتى وهم قد لا يعرفون بعضهم بعضا ولا سبق لهم أن التقوا في موضع ما؛ وهذا راجع بالأساس إلى اشتراكهم في نفس العلل التي تمنعهم من قول الحقيقة؛ مما يجعلنا نتنبأ بردات فعلهم حتى بعد مماتهم.

إنهم يعرفون حق المعرفة، وربما أكثر من غيرهم كيف تسير الأمور في البلاد، ولكن جبنهم وربما حكمة بعضهم أو رغبتهم في تحصيل منافع تجعلهم غير قادرين على قول الحقيقة بأفواههم كما هي وكما يعُونها، لكن ضمائرهم وطباعهم تجعلهم من الذين لا يفضلون الصمت، فينشأ في داخلهم صراع مستمر لا ينتهي بين ما يؤمنون به وما يُحصلون من مصالح على قلتها من وظائفهم والمؤسسات التي يعملون بها. إنهم ليسوا مثل المخزنيين القدامى الذين حازوا الأملاك وراكموا الثروة والتزموا بالدفاع عن المخزن على كل حال. بل إن المخزنيين الجدد يحاولون في كل مرة إظهار أنفسهم على نوع من التقشف والتعفف؛ حتى يدفعوا عنهم تهمة التنفع التي لازمت كل مخزني طبال، وحتى يجعلوا الناظر إليهم يعيش تلك المفارقة؛ بين القرب من الشعب ومعاناته وبين الدفاع عن المخزن المستفيد.

ولكي لا نبقى فقط في سياق النظري، ولنحاول القيام بتجربة بسيطة تجعلنا نفهم سلوكاتهم وردات فعلهم. ولنا أن نأخذ مثلا الاحتجاجات في الريف، واعتقال المحتجين، ومحاكمتهم، والحكم عليهم بتهم ثقيلة، لم يحاكم بعُشرها واحد من آلاف من الذين تبث للعيان إجرامهم و نهبهم للبلد على امتداد عقود..ففي هذه الواقعة مثلا سيكون المخزني العتيق متماهيا مع كل ما تنتهي إليه الأمور وما يُطلب منه ترويجه والدفاع عنه، وسوف تستضيفه القنوات المحلية والدولية للدفاع عن المخزن ورمي المحتجين بالانفصال، والانتصار للقضاء الموجه..وسوف لن يجد أي حرج في ذلك. ولكن المخزني الجديد لا يفعل غالبا هذه الأمور التي تجعله فاقدا للمصداقية الوهم التي طالما بناها في نفوس متابعيه. إنه سيعترف في البداية بنية المخزن في تنمية الريف، وقد يستعرض الميزانية الضخمة التي خصصها الملك لعمل ذلك، وقد يستعير بعض الشهادات أو الصور التي تظهر الفرق بين القبل والبعد، وقد يكون لكلامه نصيب من الحقيقة. ولكن المخزني الجديد لن يعترف بأن المخزن يختار الفاسدين ليأتمنهم على مشاريع الملك، وسوف يحاول تبرئة المخزن من انتقاء المفسدين؛ لأن المفسدين يأتون من الشعب. وأنه بدلا من محاكمة المسؤولين الحقيقيين يتم تسريح أفراد من حكومة لا تحكم من غير محاسبة؛ من الذين لا حول لهم ولا قوة؛ ثم الإبقاء على المسؤوليين الحقيقيين، والذين سينظر إليهم المخزني لايت بإعجاب ورهبة شديدين. إنه يصر على أن الاحتجاجات هناك اجتماعية محضة، وأنه من حق الريفيين أن ينعموا بالتنمية، دون الحديث عن كيف يمكن فعل ذلك؛ خاصة حين يحرص المخزن على وضع ثقته في الفاسدين..إنه لن يطعن في قضاء يجد نفسه مضطرا لإصدار تلك العقوبات حتى لا يتعرض القاضي نفسُه للمحاسبة ..إنه سيعتبر أن أحكام القضاء لا تناقش ولا يمكن الطعن فيها؛ ولكن الحل هو الوساطة من الأحزاب التي ما يزال فيها ضرب من المصداقية، والدعوة إلى طي الملف بالعفو العام، وعندما يحصل العفو سيعتبر ذلك إنجازا عظيما.

وأنا هنا لست أقصد شخصا بعينه، ولكنه سلوك تمليه نفس العلل. فالمخزني الجديد يعي أن المخزن متدثر بالمفسدين، يعلم هذا أكثر من غيره، ويحس باستمرار أن الإصلاح لن يكون إلا بالصالحين، ولكنه أيضا يحس أنه يجب أن يتحدث مع الحفاظ على نفسه ورزقه سليما، وهذا ما يخلق في نفسه هذا الصراع الدائم والتناقض الذي لن نجده في المخزني المتصالح مع ذاته المتمرغ في نعماء المخزن. إنه لا يريد أن يعترف أن الفساد له من يحميه في المغرب.

إن الإنسان لا يمكن أن يتحمل ما لا يطيقه، وقد يكون كما قلت آنفا من الحكمة أو الجبن فعل ذلك؛ لكن الحقيقىة تبقى هي الحقيقة. فالإيمان بالملكية وضرورتها هي ما يؤمن به غالب المناضلين، والاعتراف بزيغ وخطر بعض من المتلبسين بالنضال يبقى واردا، وأن المخزن قد تكون له نوايا إصلاحية في بعض المحطات، وأنه داخل المخزن أناس صالحون ينشدون الإصلاح.. لكن هذا كله لا يجب أن يجعلنا نغفل الواقع الذي يقول إن الفساد في المغرب له من يحميه ويحرص عليه، وهذا هو ما يجعل المخزنيين الجدد في حرج مستمر مع نوايا الفساد والعشوائية في التسيير التي أملاها منطق الولاء بدلا من الكفاءة.

إن المخزنيين الجدد قد ظهروا على امتداد العهد الجديد، ولكنهم تبلوروا أكثر حين فشل التجربة الإسلامية؛ مما يجعلهم في الغالب بقايا من الذين لم يستفيدوا أو تم النصب عليهم وخداعهم حتى فقدوا الثقة في أصحاب المشاريع والأحزاب وتشربوا وكبُر في نفوسهم المخزن. ولهذا يظهر المخزنيون الجدد أكثر حقدا ونقدا للإسلاميين، بينما يظهرون مسالمين لمن يحسون أنه مخزني بحق وبلا خداع. ولا أدري صراحة إن كان هذا الاتجاه سيستمر حتى بعد ذهاب الإسلاميين أو ربما نعيش مع غير الاسلاميين ما عشناه في بدايات العهد الجديد حيث نسب كل جميل للمبادرات الملكية والمخزن وكل قبيح للمنتخبين.

إن ظاهرة المخزنيين الجدد تستحق التتبع والفرز حتى لا تتلبس بالمعرفي والموضوعي، فأن لا تحمل أيديولوجيا أو تهاجم المنتخبين ومن لا حول لهم ولا قوة لتظهر بمظهر الممانع البطل، أو تمارس بعض الشعبوية أو تتعفف قدر الإمكان عن المال العام..لا يعني ذلك أنك تضع الأصبع على الجرح وأنك على شيء، وإلا فالسكوت في مثل هذه المواضع خير، خير من الاقتصار على توجيه السهام لحكومة لا تحكم أو لبرلمان هو مجمع للريع والإفساد تحت صمت المخزن. خير أن تصمت على أن تمارس التضليل. فالشعب فاسد لأنه نتاج لعملية إفساد متعمدة على امتداد عقود، وغياب ثقافة المحاسبة وتجريم الاغتناء غير المشروع من كبار الموظفين إلى صغارهم هي ما يجعل الفساد ثقافة في المرفق العام تحتاج إلى محاربتها كسلوك عام وليس برد اللوم لطبيعة الشعب الفاسد في نفسه. فما معنى أن تنفق ملايين الدراهم على مرفق عام ثم تعجز عن توظيف حارس يحميه، ثم تمضي الأيام لتحتاج إلى ميزانية جديدة لإعادة إصلاحه، وما يتطلبه ذلك من سمسرات وخروقات أصبحت سلوكا عاديا.

إن المغرب اليوم يعاني من تراكم تجارب الفساد على امتداد عقود، ورغم كثير من المبادرات التي لا يسعنا إلا التصفيق لها، لكن يجب قول الحقيقة تامة ؛ لأن القادم أسوأ ويحتاج إلى كثير من الصراحة والوضوح، والحل ليس في رحيل الإسلاميين ولا في مجيء غيرهم، بل إن المشكل بالأساس في حكومة لا تحكم ومخزن يستهويه اصطفاء الفاسدين؛ وهذا ما يسبب الكثير من الحرج للمخزنيين الجدد الذين يفهمون أن الارتجال والعشوائية تأتي من الذين يحكمون حقا ولكنهم سيبررون ويصارعون حتى لا يقولوا الحقيقة.